الإسلام والاعتراف بهويّة الآخرين (2)
أمر الله تعالى أن تكون العلاقة مع المسالمين من غير المسلمين الذين لم يقاتلوا ولم يمكروا بالإسلام على أساس البر بهم والإحسان والإقساط إليهم
تأصيلاً للمقال السابق فإنّ السلام هو شعار الإسلام، والإصلاح وحفظ النظام في العالم رأس المقاصد العامّة للشريعة الإسلامية، يقول ابن عاشور: (إنّ المقصد العامّ من التشريع هو حفظ نظام الأمّة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان) [مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور: (194)] ثم قال: (إنّ مقصد الشريعة من التشريع حفظ نظام العالم، وضبط تصرّف الناس فيه، على وجهٍ يعصم من التفاسد والتهالك، وذلك إنّما يكون بتحصيل المصالح واجتناب المفاسد، على حسب ما يتحقّق به معنى المصلحة والمفسدة) [مقاصد ابن عاشور: (230)] ولا يقوم هذا المقصد إلا بالتعايش والاعتراف بالآخرين، ومنحهم حرّيتهم، وتحقيق الأخوّة الإنسانية.
وما قرّره القرآن الكريم والسنة النبوية، والعلماء المسلمون في كتبهم، والممارسات العمليّة للنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء حتّى نهاية حكم المسلمين، وشهادة التاريخ، كلها تؤكد على هذا المعنى وقبول الإسلام لهويّة الآخرين والاعتراف بهم والتعايش معهم.
وإليك بعض التطبيقات العمليّة التي تبرهن على الاعتراف بالآخرين والتعايش معهم في الإسلام:
فقد أمر الله تعالى أن تكون العلاقة مع المسالمين من غير المسلمين الذين لم يقاتلوا ولم يمكروا بالإسلام على أساس البر بهم والإحسان والإقساط إليهم، قال تعالى: (لا يَنهاكُمُ اللهُ عنِ الذينَ لم يُقاتِلوكُم في الدِّينِ ولم يُخرجوكُم مِن دياركُم أن تَبرُّوهُم وتُقسِطوا إليهم إنَّ اللهَ يحبُّ المُقسِطين) [الممتحنة: 8].
وقد شدّدَ النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد على من ظلم أو اعتدى على المعاهدين من أهل الكتاب ووكّل نفسه محامياً ومدافعاً عنهم يوم القيامة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة» [أبو داود: (3052)]، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بإصبعه إلى صدره وقال: «ألا ومن قتل معاهدًا له ذِمَّة الله وذِمَّة رسوله، حرّم الله عليه ريح الجنة، وإنَّ ريحها ليوجد من سبعين عاماً» [الأموال لابن زنجويه (621)].
كما يتجلّى معنى التعايش وقبول الآخرين في الممارسات العملية للنبي صلى الله عليه وسلم، فعندما هاجر إلى المدينة اعترف باليهود هناك، وضمن لهم حقوقهم كاملةً، وتعهّد بأن يدافع عنهم، وكتب لهم عهد أمان ووادَعَهم وعاهدهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم، ليؤسس مجتمعاً آمناً مطمئنّاً مستقرّاً متعايشاً، يسوده العدل والإنصاف واحترام الحقوق، بعيداً عن الخلاف والشقاق، وممّا جاء في ميثاقه: «وإنّ ذمَّة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإنَّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم…» [سيرة ابن هشام: (2/ 106)]
فقد أعطى صلى الله عليه وسلم كلَّ ذي حقٍّ حقّهُ، وعامل اليهود على سبيل المعايشة والأخوّة الإنسانية، وترك لهم دينهم وحياتهم وأموالهم ورغد عيشهم؛ لكنّهم غدروا به بعد ذلك، وتآمروا عليه، وخانوا المسلمين الخيانة العظمى، وأصبحوا مصدر تهديدٍ لهم، فاستحقّوا الجلاء من المدينة جزاءً بما كسبت أيديهم.
وعندما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أصدر عفواً عامّاً، وترك المشركين على ما هم فيه، واعترف بحقوقهم، وعاملهم على أساس المواطنة الكاملة، واتفق معهم اتفاق الندّ للند.
وكان كثير من أهل مكة لا يزالون على شركهم وكفرهم، فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما هم فيه، يعيشون مع المسلمين آمنين مطمئنّين لا يمسّهم أحدٌ بسوءٍ، وممّن بقي على شركه صفوان بن أميّة.
وعندما وصلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبار ثقيفٍ وغطفان بأنّها قد تجهّزت لقتال المسلمين، جهّز صلى الله عليه وسلم جيشاً لمقاتلتهم، ولم تكن لديه كفايةٌ من الأسلحة والأدراع، فقيل له: إنّ عند صفوان بن أمية أدراعاً، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: «يا أبا أمية ! أَعِرنا سلاحك نلق فيها عدوَّنا»، فقال صفوان: أغصباً؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، بل عاريةً مضمونةً حتى نؤدّيها إليك»، قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح، وسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفيه حملها، فحملها صفوان لرسول الله صلى الله عليه وسلم [انظر: السيرة النبوية لابن حبان: (1/346)]
فنجد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تعامل مع صفوان على أساس المواطنة والاعتراف، واستعار منه الأدرع، وحفظها له وضمنها، أي حفظ له أمواله-وهو مشرك– وكانت يد النبي صلى الله عليه وسلم هي العليا، وهو الحاكم، ويستطيع أن يأخذها منه عنوةً، لكنّ الإسلام أجلُّ وأعظمُ من أن يُقصي الآخرين ويسلبهم حقوقهم، فقد اعترف بكلّ إنسانٍ في ظل دولته وأعطاه حقوقه كاملة.
وعندما فتح المسلمون بيت المقدس وقّع عمر بن الخطاب معهم ومع أهل لدّ معاهدة أمان:
ومما جاء في نصّ المعاهدة:
(بسم اللَّه الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء [أي بيت المقدس] من الأمان:
– أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملَّتها.
– أنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم.
– ولا يُكرَهون على دينهم.
– ولا يُضارَّ أحد منهم.
– ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود…
وشهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشرة) [تاريخ الرسل والملوك للطبري: (3/ 609)]، وبمثلها كان العهد والأمان مع أهل مدينة لدّ.
وإذا نظرنا في قبول الإسلام لهوية الآخرين والاعتراف بهم في صفحات التاريخ نجد أنّ القوط في إسبانيا قبل الفتح الإسلامي كانوا ينتزعون أطفال اليهود وغيرهم من أحضان أمهاتهم عنوةً ليتم تحويل ديانتهم بالقوة قبل استعبادهم فيما بعد، وعندما دخل المسلمون الأندلس نالت الديانات-لا سيما اليهودية- حقوقها القانونية كاملةً، فتمّ الاعتراف بهم، وقاموا بحمايتهم، ولم تكن هناك اختلافات كبيرة بين الأقلية اليهودية أو النصرانيّة والغالبية المسلمة الحاكمة [انظر: قصة الحضارة (14/ 50)].
وأمّا من الناحية الاجتماعيّة والمدنيّة: فقد عامَل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود بالإحسان، وأعطى الجار حقّه، وأوصى به وإن لم يكن مسلماً، وتعامل معهم بالبيع والشراء، حتى إنّ النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونةٌ عند يهوديٍّ بثلاثين صاعاً من شعير [البخاري: (2916)].
وربّى صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذه المعاني السامية، فكان لعبد الله بن عمرو جارٌ يهوديٌ، وكان إذا ذبح الشاة، قال: احملوا إلى جارنا منها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» [شعب الإيمان (9115)].
وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حلّةً من حريرٍ لعمر بن الخطاب، فأهداها عمر لأخٍ له من أهل مكة كان مشركاً [انظر صحيح البخاري: (886) ومواضع أُخَر].
وقدمت قتيلةُ بنت عبد الأسد إلى ابنتها أسماء بنت أبي بكر وهي مشركة، وأحضرت لها هدايا، فلم تستقبلها أسماء حتّى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تصل أمَّها وتقبل هداياها.
فقد تبادل المسلمون مع غيرهم الهدايا التي تدلّ على الألفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وباعوهم واشتروا منهم، ولم يكن ثمّ أيّ تمييز في المعاملة بين المسلمين وغيرهم.
كما نال أهل الكتاب حقّ التوظيف والعمل في الدولة، فقد وظَّف عمر رضي الله عنه عدداً من أهل الكتاب في الديوان، واتّسع نفوذهم، حتّى صار منهم الوزراء، [انظر: نحو فقه جديد للأقلّيّات، عبد الكريم زيدان، هامش: (93)].
وكذلك وظّف معاوية عدداً من أهل الكتاب في مناصب مرموقةٍ، مثل: سرجون كاتباً له، وقد أسلم، وابن إثال وكان طبيبه الخاص، وبقي على نصرانيّته [انظر: تاريخ ابن عساكر: (20/161)].
وكان لأهل الكتاب حضورٌ في المناصب المرموقة في الدولة الأمويّة والعبّاسيّة وغيرها أيضاً، وقد قرّر الفقهاء ذلك، فقال الماوردي في معرض كلامه عن وزارة التنفيذ: (ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة) [الأحكام السلطانية: (58)].
وقال الشيخ مصطفى السيوطي عن أهل الكتاب: (فقد جرت عليهم أحكام أهل الإسلام، وتأبّد عقدهم، فلزمهم ذلك كما يلزم المسلمين) [مطالب أولي النهى: (2/603)]
ومن الحقوق التي ضمنها الإسلام لغير المسلمين:
الكفُّ عنهم نفساً، ومالاً، وعرضاً، واختصاصاً، وعمّا معهم، كخمرٍ وخنزير، وعبادةٍ، وطقوس لم يظهروها.
ويجب على المسلمين ضمان ما يتلفونه عليهم من النفس والمال، وردِّ ما يؤخذ من اختصاصاتهم.
وتجب على المسلمين حمايتهم، والذبّ عنهم، ودفع أهل الحرب عنهم [تحفة المحتاج : (9/ 292)].
وبهذا خاطب أبو يوسف هارونَ الرشيد قائلاً: (وقد ينبغي يا أمير المؤمنين أيّدك الله أن تتقدم في الرفق بأهل ذمّة نبيّك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم، والتفقد لهم؛ حتى لا يُظلَموا ولا يُؤذَوا، ولا يُكَلَّفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ شيءٌ من أموالهم إلا بحق يجب عليهم…وكان فيما تكلم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته: أوصي الخليفة من بعدي بذمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يُكلَّفوا فوق طاقتهم) [الخراج، لأبي يوسف: (ص: 138)].
ويُعامَل الذمّيون على دينهم في حياتهم وعاداتهم وكسبهم ومصالحهم، ولا يُلزَمون بأحكام المسلمين فيما يختصّون به من أحكام، فيحلّ لهم ما يحرم على المسلمين التعامل به، مثل الخمر أو الخنزير، فإنه يباح في حقّهم الاتجار بها حيث شاؤوا، ولكن ليس لهم أن يجاهروا بتجارتها في أمصار المسلمين؛ لأن المصر الإسلامي إنما يجهر فيه بما لا يأباه شعار الإسلام.
وفي العبادات والاعتقادات أُطلِقت لهم الحرية، ومُنع التعرّض لهم فيما يعبدون وما يعتقدون، فلهم إقامة شعائر دينهم في كنائسهم وبِيَعهم، ولهم في القرى إعادة ما تهدّم من الكنائس والبِيَع، وإنشاء ما يريدون إحداثه منها، ولهم دقّ النواقيس في جوف كنائسهم، ولهم أن يفعلوا كلّ ما لا يثير العداء ولا يعارض شعار الإسلام.
كما ضمن لهم الحرية في الأحوال الشخصية وأحكام الأسرة، وتركهم يمارسون القوانين الخاصة بهم من حيث الزواج والطلاق والميراث ونحو ذلك، وأما دول الغرب اليوم فتلزم رعاياها المسلمين بقوانينها، ولا تسمح لهم بتطبيق الأحكام الإسلامية رسمياً إذا خالفت القانون، وأما المسلمون فقد وضعوا دستوراً خاصاً لرعاياهم من غير المسلمين؛ ليكفلوا لهم حريتهم .
وفي ظل هذه الأحكام السمحة والعدالة والمساواة عاش غير المسلمين مع المسلمين في أوج قوّتهم في بلاد الإسلام طول السنين لا يشكون ضيماً ولا يُبخسون حقّاً.
[السياسة الشرعية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية، عبد الوهاب خلاف: (ص: 97)].
No comment yet, add your voice below!