الأضحية نقداً أم قتلاً

الأضحية نقداً أم قتلاً!

Loading

الأُضحية منسكٌ شرعيٌّ, وتفقّدٌ الفقراء والمحتاجين واجبٌ أيضاً، ولكن لا يجوز أن نلغي أحدهما على حساب الآخر، بل يجب الجمع بينهما

يقول بعضهم: لماذا يقوم المسلمون بذبح ملايين الأضاحي، وهناك فقراء محتاجون إلى الأموال، عاجزون عن تدبير حياتهم المعاشيّة؛ لا سيّما في الدُّول المنكوبة، فهلّا وزّعنا لهم ثمن الأضاحي, وذلك أولى وأنفع من توزيع اللحوم؟

ويتلقّى كثيرٌ من النَّاس هذه الفكرة بالقبول والتأييد، ويجدونها منطقيّةً وواقعيّةً حقّاً، فتقديم ثمن أجرة البيت الذي أنهك الفقراء، ومساعدتُهم في شراء الأدوية التي لا يستغنون عنها أولى من تقديم اللحوم…

وفي الحقيقة, إنّ هذه الفكرة لا صحّة لها البتّة، وهي تصادم أحكام الشريعة، وليست مبنيّةً على تفكيرٍ علميٍّ، ويسمّى هذا في علم أصول الفقه: (المناسب الإقناعيّ), أي أنَّه إذا عُرض على العقول اقتنعت به، ولكن إذا دقّقت النَّظر ضمن قواعد التَّفكير الشرعيّ وجدته بعيداً عن الصواب.

فتقديم المال بدل ذبح الأُضحية يعود عليها بالإبطال؛ لأنّ ذبح الأضاحي مقصودٌ بذاته، فإذا استبدلناه بتوزيع المال بطل حكم الأُضحية في الأصل، وأُلغِيَ هذا المنسك من الشريعة، وهذا مصادمٌ للدِّين. 

فأمر الأُضحية ليس بهذه النَّظرة السَّطحية، ولا يقتصر على توزيع اللحوم كما يظنّ بعضهم، بل إنَّ الأمر أعمق من ذلك، فهو مُتعلّق بالإيمان والعبادة، أمّا إطعام اللحم فليس من المقاصد الأصليّة للأُضحية، بل من المقاصد التَّبعيّة التي تأتي في الدَّرجة الثَّانية، والمقاصد التَّبعيّة لا تصلح للتَّعليل الاجتهاديّ بالإجماع.

إنّ المقصد الأصليَّ للأُضحية بعد التعبّد والانقياد لله تعالى، هو إحياء المسلمين لحادثة الفداء التي وقعت لسيِّدنا إسماعيل مع أبيه إبراهيم عليهما السلام، والشُّعور بانتمائهم الإيمانيّ إليهما، والمشاركة في تقديم الأضاحي التي كانت رمزاً لهذه الحادثة، والإذعان والاستسلام لأوامر الله تعالى، كما استسلم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لله تعالى، ممّا يزيد الإيمان والتمسّك بدين الله, والتزام أوامره.   

فالأُضحيّة مبناها على التَّعبّد، وما كان مبنيّاً على التَّعبّد فهو من حقوق الله, ولا يصحّ تغييره البتّة؛ ولذا وردت أحكامها مقيّدةً بصفاتٍ وشروطٍ، فلا يصحّ أن تكون دون السّنّ التي حدّدها الشَّرع، ولا مخالفةً للأوصاف الشَّرعيَّة، وألّا تخرج عن الوقت المعيَّن للذَّبح. وكلُّ حُكمٍ حدّد الشَّرع شروطه وصفته فهو مبنيٌّ على التَّعبّد، ويجب أداؤه على الوجه الذي وردت فيه الصِّفة والشُّروط الشَّرعيّة، وهو غير قابلٍ للاجتهاد والتَّغيير، فضلاً عن الإبطال.

وأكّدت نصوص الكتاب والسّنَّة معنى التعبّد, وحقّ الله تعالى في الأضاحي، فجعلها القرآن من شعائر الله، قال تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ[الحج: 36] والبُدن تشمل الهدي والأضاحي.

كما فهم الصحابة أنّ الأضاحي من شعائر الله من قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] فكانوا يهتمّون بها ويعلفونها ويسمّنونها، وقال أبو أمامة بن سهل: (كنا نسمّن الأُضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمّنون) [أخرجه البخاري، وانظر: تفسير ابن كثير (5/ 421)].

وقد أكّدت السنّة النبويّة معنى التعبُّد في الأضحية أيضاً، فجعلها النَّبيّ أفضل القربات إلى الله يوم النَّحر، فعن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله قال: (ما عَمِلَ ابن آدم يوم النَّحر عملاً أحبّ إلى الله من هراقة دمٍ، وإنَّه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإنّ الدَّم ليقع من الله بمكانٍ، قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً) [الترمذي وابن ماجه].

ولأصالة التعبّد في الأُضحية فإنّها تشترك مع الصَّلاة بصيغة الدُّعاء والتوجّه، فقد روى جابر, قال: ((ضحّى رسول الله بكبشين في يوم عيد، فقال حين وجههما: (وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أوَّل المسلمين، اللهمَّ منك ولك، وعن محمد وأمته) ثم سمَّى الله وكبّر)) [ابن ماجه والدارمي].

فالأُضحية منسكٌ شرعيٌّ, وحكمٌ ثابتٌ من أحكام الدين، وتفقّدٌ الفقراء والمحتاجين وكفايتُهم واجبٌ أيضاً، ولكن لا يجوز أن نلغي أحدهما على حساب الآخر، بل يجب الجمع بينهما.

وإنّ توزيع لحوم الأضاحي يُدخل السرور على قلوب النَّاس، ويزوّدهم بالغذاء، ويقوّي الصِّلات الاجتماعيّة، فيتفقّد المضحّي الفقراء والمحتاجين، ويوزّع اللحوم على الأرحام والأقارب والأصدقاء، فتعمُّ البهجة في المجتمع، وفي كلّ ذلك نفعٌ وخيرٌ وبرٌّ وإحسان.  

فكم نسمع أصواتاً تدّعي الإنسانيّة، وتُنَظّر على أحكام الإسلام السَّامية، ولم نسمع أحداً ينتقد الأموال الهائلة التي تُهدَر في الفساد والضرر والإسراف، كالخمور، والليالي الحمراء، والرَّذائل، والتدخين، والدِّببة، والقلوب، والورود، ونحوها.

ولم نسمع أحداً ينتقد من يسرف في شراء الملابس الفاخرة، والمراكب الفارهة، ويقول له: لو أنفقت شيئاً من ذلك على الفقراء!

ولم نسمع أحداً ينتقد من يتوسّع في ألوان الطعام والشراب والحلوى والنزهات وغيرها، ويقول له هلّا تفقّدت الفقراء!

على أنّ من يدعو إلى فكرة دفع الصدقات بدل ذبح الأضاحي، ويستعطف مشاعر المسلمين تجاه الفقراء ليس مقصده من ذلك الرَّحمة والشفقة، بل غايته تعطيل أحكام الله شيئاً فشيئاً، ومنهم من حاول ذلك صراحةً، فقد قام النائب اليمينيّ المتطرّف وزعيم الحريّة في هولندا (خيرت فيلدرز) بمحاولاتٍ عديدةٍ لمحاربة ذبح الأضاحي. [TRT عربي 3 يناير 2022م]  وما الغاية من هذه الأفكار إلّا القضاء على أحكام الشريعة بالتدرّج شيئاً فشيئاً.

وإنّ الإسلام ذو نظرةٍ عامّةٍ شاملة، فقد عالج جميع نواحي الحياة، ولم يُهمل أمر الفقراء، وقد أوجب الله تعالى الزَّكاة المفروضة، وحثّ على الصدقات بأنواعها؛ رعايةً لحقوق المحتاجين، ونهى عن التبذير والإسراف، وعن البخل والشحّ، وذلك لتحقيق التوازن الاقتصاديِّ في المجتمع.

 وقصدت أحكام الشريعة أن تجعل المسلم جامعاً للخيرات، متّزناً في التصرّفات، يؤدّي حقوق الله وعباداته ومناسكه، ويتفقّد الفقراء ويحسن إليهم، وقد وصف الله عباد الرَّحمن بقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً[الفرقان: 67].

فلو أدّى الأغنياء زكاة أموالهم حقَّ الأداء، ولم يقع الإسراف والتبذير، لما وجدنا فقيراً أبداً.

 وإنّ أعظم أسباب الفقر هي الحروب والأزمات التي يخطِّط لها أعداء الإنسانيّة، ليمتصّوا خيرات البلدان والشُّعوب، ثمّ إنّهم بعد أن يقوموا بتلك الجرائم، يرسلون أبواقهم لينتقدوا الإسلام وأحكامه, ويهدموه عروةً عروة، ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32].

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *