إيهام المشككين

نجد اختلافاً بين روايات الأحاديث لنفس الموضوع فهل أحاديث
النبي صلى الله عليه وسلم متناقضة؟

ادَّعى المستشرق الإنكليزي رينولد نيكلسون (ت 1945م) في مؤلفه (تاريخ العرب الأدبي في الجاهلية وصدر الإسلام): أنَّ المحدِّثين جمعوا كثيراً من الأحاديث المتناقضة دون توفيقٍ أو تأويل، ونسبوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مما أدى إلى تعارض بعض متون السنة النبوية الشريفة وصعوبة التوفيق بينها. 

ومما قاله: (تفاخر بعض المحدِّثين بأنَّ الإسناد من خصائص أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنَّه لم يسبق هذه الأمة غيرها في تحرّي الدقة والموضوعية عند نقل الأخبار المقدسة وتوثيقها، إلا أنَّ الأحاديث المتعارضة عند المسلمين تدلُّ على خلاف ذلك حيث توجد في السُّنَّة متونٌ كثيرةٌ متعارضةٌ حيرت المحدِّثين ولم يجدوا سبيلاً للتوفيق بينها).
(ومتن الحديث هو لفظه، وسنده هو رواته وصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلّم).

وقال بعضهم: (وُضعت مبادئ شكليةٌ لإزالة التعارض بين الأحاديث النبوية، وزعم أصحاب الحديث أنها تستهدف تصحيح علل الحديث).
وعقد محمود أبو رية (ت 1957م) في كتابه: (أضواء على السُّنَّة المحمدية) فصلاً بعنوان: (أحاديث مُشكلة)، ذكر فيه أحاديث أشكلت عليه هو، بعضها مرفوعٌ وبعضُها موقوفٌ، ومنها ما هو صحيحٌ ومنها ما هو غير صحيح، ليؤكد من خلال ذلك هذه الدعوى المفتراة التي ألصقها المستشرقون بالإسلام: دعوى التناقض بين الروايات والأخبار، مما يجعل ذلك سبباً وجيهاً بزعمهم للتشكيك والطعن في الحديث النبوي.

والجواب على هذا الكلام وأمثاله بالآتي:

أولاً: هذه الشبهة في الحقيقة ليست جديدة، فقد وجَّهها بعض أهل الأهواء إلى المحدِّثين من قديم، وتصدَّى للرد عليهم أئمَّة الإسلام في ذلك الحين ومنهم الإمام ابن قتيبة الدينوري صاحب كتاب: (تأويل مختلف الحديث)؛ الذي تكلَّم في مقدِّمته عن الباعث له على تأليف هذا الكتاب، وكان مما ذكره فيه: انتقاص أهل الكلام من أهل الحديث وامتهانهم لهم، ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف، وكثرت النِّحَل …إلخ. (النِحَل: المذاهب)
ثم تبعهم في ذلك المستشرقون ومقلِّدوهم الذين رددوا هذه الدعاوى متغافلين أصول المحدِّثين وقواعدهم في التعامل مع مثل هذا النوع من الأحاديث.

ثانياً: من القضايا التي يجب أن تكون مسلَّمةً لدى كل مسلم أن دين الله محفوظٌ من التناقض والتعارض، وشريعته منزَّهةٌ عن التضاد والتضارب، لأنَّها مُنزلة من عند الله العليم الحكيم الذي لا تتضارب أقواله ولا تتنافر أحكامه.
فلا يمكن أن يوجد دليلان صحيحان من حيث الثبوت، صريحان من حيث الدلالة، يناقض أحدهما الآخر مناقضةً تامَّةً واضحةً بحيث يتعذر الجمع والترجيح بينهما بحالٍ من الأحوال.
والقول بوجود تناقضٍ بين أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم:

  • إما أن يأتي من عدم المعرفة بعلم الحديث، بحيث لا يميِّز القارئ بين الصحيح وغيره، فيورد أحاديث متعارضةً لكن لا أصل لها، أو يعارض حديثاً صحيحاً بآخر مختلقٍ موضوع.
  • وإما أن يأتي من عدم الفهم وضعف الفقه في حقيقة المراد بالنص.

وقد كان الإمام ابن خزيمة وهو ممن اشتهر عنه الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض يقول: (لَا أَعْرِفُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَانِ بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَلْيَأْتِنِي بِهِ لِأُؤَلِّفَ بَيْنَهُمَا) [الكفاية للخطيب: ص606].

ثالثاً: إن وجود تعارضٍ في الظاهر بين بعض النصوص ليس بالأمر المستغرب، ما دام فيها ما ليس منه بدٌّ من عام وخاص، ومطلق ومقيد، ومجمل ومفسّر، ومنسوخٍ وناسخٍ يرفع حكمه، وليس بالضرورة أن يكون مردُّه إلى الوضع، وقد ذكر العلماء وجوهاً كثيرةً لأسباب اختلاف الحديث:

  • منها أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم الفعل على وجهين إشارةً إلى الجواز، كأحاديث صلاة الوتر أنها سبع أو تسع أو إحدى عشرة.
  • ومنها اختلافهم في حكاية حالٍ شاهدوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل اختلافهم في حِجة الرسول، هل كان فيها قارناً أو مفرداً أو متمتعاً، وكل هذه حالات يجوز أن يفهمها الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم، لأن نية القران أو التمتع أو الإفراد مما لا يطلع عليه الناس.
  • ومنها أن يسمع الصحابي حكماً جديداً ناسخاً للأول، ولا يكون الثاني قد سمعه، فيظل الأول يروي الحكم على ما سمع.

إلى غير ذلك من الأسباب التي ذكرها المحدِّثون والعلماء.

ومع ذلك فقد تعامل المحدِّثون مع هذا النوع من الأحاديث، ووضعوا له القواعد والقوانين التي تكفل عدم وجود تعارضٍ أو تناقض بين أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما عرف بعلم: (مختلف الحديث)، وهو علمٌ جليل القدر، عظيم المنفعة، يحتاج إليه العالم والفقيه، ولا يمهر فيه إلا من وسع علمه ودقَّ فهمه وثقب رأيه.
وهذه القواعد والضوابط هي من صميم منهج المحدِّثين في النقد، ولها اتصالٌ وثيقٌ ومباشر بشروط قبول الحديث نفسها، ولذلك تفرع عنها أنواع من علوم الحديث كالشاذ والمحفوظ، والمنكر والمعروف، والناسخ والمنسوخ، والمضطرب والمعلل.
فالحديث المقبول إذا عارضه حديث ضعيف طُرِح الحديث الضعيف وحُكِمَ عليه بأنه منكر، ويكون معارضه هو المعروف.

وأما إذا عارضه حديث من رواية الثقات -ولا نسميه الآن صحيحاً- فإننا ننظر في طبيعة النصين وفي دلالتهما:
فإما أن يمكن الجمع بين الحديثين المختلفين، وإبداء وجه من التفسير للحديث المشكل يزيل الإشكال عنه، وينفي تعارضه مع غيره، فيتعين المصير إليه، وهذا هو الأكثر الأغلب في تلك الأحاديث.

ومن أمثلة ذلك في أحاديث الأحكام حديث: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث))
[رواه أحمد والأربعة والدارقطني والبيهقي وابن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما، لكن لفظ ابن ماجه: “إذا بلغ الماء قلتين؛ لم ينجسه شيء”، ورواه الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه: “إذا بلغ الماء قلتين فما فوق ذلك؛ لم ينجسه شيء”.

وحديث: ((خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه))[أبو داود والترمذي والنسائي].

فالأول: ظاهره طهارة القلتين [القلتان: واحدتهما قلة، وهي الجرة، سميت بذلك؛ لأن الرجل العظيم يقلها بيديه، أي يرفعها، يقال: قلَّ الشيء وأقله: إذا رفعه. وقدرها الفقهاء بخمسمائة رطل عراقي تقريباً، وتساوي باللتر: 160.5 لتراً تقريباً] تغير أم لا،
والثاني: ظاهره طهارة غير المتغير سواء أكان قلتين أم أقل، فخُصَّ عموم كل منهما بالآخر.

ومن أمثلته في غير أحاديث الأحكام التعارض بين أحاديث إثبات العدوى، كحديث: ((لا يوردن مُمرضٌ على مُصح)) [البخاري، ومسلم]، وحديث: ((… وفِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد)) [البخاري]، وأحاديث نفيها: كحديث: ((لا عدوى ولا طيرة)) [البخاري ومسلم]

قال الإمام النووي: (قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين، وهما صحيحان، قالوا: وطريق الجمع أن حديث “لا عدوى” المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، وأما حديث “لا يورد ممرض على مصح” فأرشد فيه إلى ترك ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره). [شرح صحيح مسلم: 4/213 – 214]

وأما إذا تعذر الجمع بين الحديثين فلا يخلو الأمر من أحد حالين:

الأول: أن يتبين لنا بعد استعمال التاريخ أن أحد النصين جاء بعد الآخر وحلَّ محله، فلا تعارض أيضاً، لأن الشارع نسخ الحكم المتقدم بالحكم المتأخر، فيُعمَل بالناسخ ويتُرَك المنسوخ.
والثاني: أن لا تقوم دلالةٌ على النسخ، فنلجأ حينئذ إلى الترجيح، ويعمل بالأرجح منهما والأقوى، ويكون هو الصحيح، ويسمى: “المحفوظ“، ويكون المرجوح: “شاذاً” أو “معللاً” وهو المردود.

وقد عُني العلماء بأوجه الترجيح وأنواعها، و تتبعوها ودققوها بجزئياتها وكلياتها حتى زادت جزئياتها على مئة وجه من أوجه الترجيح، كالترجيح بحال الرواة، ووجوه التحمل، وكيفية الرواية، والترجيح بأمر خارجي، إلى غير ذلك من وجوه الترجيح.
ولم يكتف العلماء بتأصيل القواعد والضوابط في هذا الباب، بل درسوا هذه الأحاديث دراسة تفصيلية، فتناولوا كل حديث بالشرح، وأجابوا عن الإشكالات التي قد ترد عليه وعلى النصوص الأخرى، وذلك في شروحهم الحافلة التي صنفوها على كتب السنة، وأفردوا لهذا اللون من الأحاديث مؤلفات خاصة، جمعت الأحاديث المشكلة والتي ظاهرها التعارض، مبينين وجه الصواب فيها بما يزيل أي إشكال، ويرد على كل  متهمٍ مفترٍ، ومن تلك المؤلفات:

  • اختلاف الحديث للإمام الشافعي
  • تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة
  • مشكل الآثار للطحاوي
  • مشكل الحديث لأبي بكر بن فَورَك.

ادَّعى المستشرق الإنكليزي رينولد نيكلسون (ت 1945م) في مؤلفه (تاريخ العرب الأدبي في الجاهلية وصدر الإسلام): أنَّ المحدِّثين جمعوا كثيراً من الأحاديث المتناقضة دون توفيقٍ أو تأويل، ونسبوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مما أدى إلى تعارض بعض متون السنة النبوية الشريفة وصعوبة التوفيق بينها. 

ومما قاله: (تفاخر بعض المحدِّثين بأنَّ الإسناد من خصائص أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنَّه لم يسبق هذه الأمة غيرها في تحرّي الدقة والموضوعية عند نقل الأخبار المقدسة وتوثيقها، إلا أنَّ الأحاديث المتعارضة عند المسلمين تدلُّ على خلاف ذلك حيث توجد في السُّنَّة متونٌ كثيرةٌ متعارضةٌ حيرت المحدِّثين ولم يجدوا سبيلاً للتوفيق بينها).
(ومتن الحديث هو لفظه، وسنده هو رواته وصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلّم).

وقال بعضهم: (وُضعت مبادئ شكليةٌ لإزالة التعارض بين الأحاديث النبوية، وزعم أصحاب الحديث أنها تستهدف تصحيح علل الحديث).
وعقد محمود أبو رية (ت 1957م) في كتابه: (أضواء على السُّنَّة المحمدية) فصلاً بعنوان: (أحاديث مُشكلة)، ذكر فيه أحاديث أشكلت عليه هو، بعضها مرفوعٌ وبعضُها موقوفٌ، ومنها ما هو صحيحٌ ومنها ما هو غير صحيح، ليؤكد من خلال ذلك هذه الدعوى المفتراة التي ألصقها المستشرقون بالإسلام: دعوى التناقض بين الروايات والأخبار، مما يجعل ذلك سبباً وجيهاً بزعمهم للتشكيك والطعن في الحديث النبوي.

والجواب على هذا الكلام وأمثاله بالآتي:

أولاً: هذه الشبهة في الحقيقة ليست جديدة، فقد وجَّهها بعض أهل الأهواء إلى المحدِّثين من قديم، وتصدَّى للرد عليهم أئمَّة الإسلام في ذلك الحين ومنهم الإمام ابن قتيبة الدينوري صاحب كتاب: (تأويل مختلف الحديث)؛ الذي تكلَّم في مقدِّمته عن الباعث له على تأليف هذا الكتاب، وكان مما ذكره فيه: انتقاص أهل الكلام من أهل الحديث وامتهانهم لهم، ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف، وكثرت النِّحَل …إلخ. (النِحَل: المذاهب)
ثم تبعهم في ذلك المستشرقون ومقلِّدوهم الذين رددوا هذه الدعاوى متغافلين أصول المحدِّثين وقواعدهم في التعامل مع مثل هذا النوع من الأحاديث.

ثانياً: من القضايا التي يجب أن تكون مسلَّمةً لدى كل مسلم أن دين الله محفوظٌ من التناقض والتعارض، وشريعته منزَّهةٌ عن التضاد والتضارب، لأنَّها مُنزلة من عند الله العليم الحكيم الذي لا تتضارب أقواله ولا تتنافر أحكامه.
فلا يمكن أن يوجد دليلان صحيحان من حيث الثبوت، صريحان من حيث الدلالة، يناقض أحدهما الآخر مناقضةً تامَّةً واضحةً بحيث يتعذر الجمع والترجيح بينهما بحالٍ من الأحوال.
والقول بوجود تناقضٍ بين أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم:

  • إما أن يأتي من عدم المعرفة بعلم الحديث، بحيث لا يميِّز القارئ بين الصحيح وغيره، فيورد أحاديث متعارضةً لكن لا أصل لها، أو يعارض حديثاً صحيحاً بآخر مختلقٍ موضوع.
  • وإما أن يأتي من عدم الفهم وضعف الفقه في حقيقة المراد بالنص.

وقد كان الإمام ابن خزيمة وهو ممن اشتهر عنه الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض يقول: (لَا أَعْرِفُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَانِ بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَلْيَأْتِنِي بِهِ لِأُؤَلِّفَ بَيْنَهُمَا) [الكفاية للخطيب: ص606].

ثالثاً: إن وجود تعارضٍ في الظاهر بين بعض النصوص ليس بالأمر المستغرب، ما دام فيها ما ليس منه بدٌّ من عام وخاص، ومطلق ومقيد، ومجمل ومفسّر، ومنسوخٍ وناسخٍ يرفع حكمه، وليس بالضرورة أن يكون مردُّه إلى الوضع، وقد ذكر العلماء وجوهاً كثيرةً لأسباب اختلاف الحديث:

  • منها أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم الفعل على وجهين إشارةً إلى الجواز، كأحاديث صلاة الوتر أنها سبع أو تسع أو إحدى عشرة.
  • ومنها اختلافهم في حكاية حالٍ شاهدوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل اختلافهم في حِجة الرسول، هل كان فيها قارناً أو مفرداً أو متمتعاً، وكل هذه حالات يجوز أن يفهمها الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم، لأن نية القران أو التمتع أو الإفراد مما لا يطلع عليه الناس.
  • ومنها أن يسمع الصحابي حكماً جديداً ناسخاً للأول، ولا يكون الثاني قد سمعه، فيظل الأول يروي الحكم على ما سمع.

إلى غير ذلك من الأسباب التي ذكرها المحدِّثون والعلماء.

ومع ذلك فقد تعامل المحدِّثون مع هذا النوع من الأحاديث، ووضعوا له القواعد والقوانين التي تكفل عدم وجود تعارضٍ أو تناقض بين أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما عرف بعلم: (مختلف الحديث)، وهو علمٌ جليل القدر، عظيم المنفعة، يحتاج إليه العالم والفقيه، ولا يمهر فيه إلا من وسع علمه ودقَّ فهمه وثقب رأيه.
وهذه القواعد والضوابط هي من صميم منهج المحدِّثين في النقد، ولها اتصالٌ وثيقٌ ومباشر بشروط قبول الحديث نفسها، ولذلك تفرع عنها أنواع من علوم الحديث كالشاذ والمحفوظ، والمنكر والمعروف، والناسخ والمنسوخ، والمضطرب والمعلل.
فالحديث المقبول إذا عارضه حديث ضعيف طُرِح الحديث الضعيف وحُكِمَ عليه بأنه منكر، ويكون معارضه هو المعروف.

وأما إذا عارضه حديث من رواية الثقات -ولا نسميه الآن صحيحاً- فإننا ننظر في طبيعة النصين وفي دلالتهما:
فإما أن يمكن الجمع بين الحديثين المختلفين، وإبداء وجه من التفسير للحديث المشكل يزيل الإشكال عنه، وينفي تعارضه مع غيره، فيتعين المصير إليه، وهذا هو الأكثر الأغلب في تلك الأحاديث.

ومن أمثلة ذلك في أحاديث الأحكام حديث: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث))
[رواه أحمد والأربعة والدارقطني والبيهقي وابن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما، لكن لفظ ابن ماجه: “إذا بلغ الماء قلتين؛ لم ينجسه شيء”، ورواه الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه: “إذا بلغ الماء قلتين فما فوق ذلك؛ لم ينجسه شيء”.

وحديث: ((خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه))[أبو داود والترمذي والنسائي].

فالأول: ظاهره طهارة القلتين [القلتان: واحدتهما قلة، وهي الجرة، سميت بذلك؛ لأن الرجل العظيم يقلها بيديه، أي يرفعها، يقال: قلَّ الشيء وأقله: إذا رفعه. وقدرها الفقهاء بخمسمائة رطل عراقي تقريباً، وتساوي باللتر: 160.5 لتراً تقريباً] تغير أم لا،
والثاني: ظاهره طهارة غير المتغير سواء أكان قلتين أم أقل، فخُصَّ عموم كل منهما بالآخر.

ومن أمثلته في غير أحاديث الأحكام التعارض بين أحاديث إثبات العدوى، كحديث: ((لا يوردن مُمرضٌ على مُصح)) [البخاري، ومسلم]، وحديث: ((… وفِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد)) [البخاري]، وأحاديث نفيها: كحديث: ((لا عدوى ولا طيرة)) [البخاري ومسلم]

قال الإمام النووي: (قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين، وهما صحيحان، قالوا: وطريق الجمع أن حديث “لا عدوى” المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، وأما حديث “لا يورد ممرض على مصح” فأرشد فيه إلى ترك ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره). [شرح صحيح مسلم: 4/213 – 214]

وأما إذا تعذر الجمع بين الحديثين فلا يخلو الأمر من أحد حالين:

الأول: أن يتبين لنا بعد استعمال التاريخ أن أحد النصين جاء بعد الآخر وحلَّ محله، فلا تعارض أيضاً، لأن الشارع نسخ الحكم المتقدم بالحكم المتأخر، فيُعمَل بالناسخ ويتُرَك المنسوخ.
والثاني: أن لا تقوم دلالةٌ على النسخ، فنلجأ حينئذ إلى الترجيح، ويعمل بالأرجح منهما والأقوى، ويكون هو الصحيح، ويسمى: “المحفوظ“، ويكون المرجوح: “شاذاً” أو “معللاً” وهو المردود.

وقد عُني العلماء بأوجه الترجيح وأنواعها، و تتبعوها ودققوها بجزئياتها وكلياتها حتى زادت جزئياتها على مئة وجه من أوجه الترجيح، كالترجيح بحال الرواة، ووجوه التحمل، وكيفية الرواية، والترجيح بأمر خارجي، إلى غير ذلك من وجوه الترجيح.
ولم يكتف العلماء بتأصيل القواعد والضوابط في هذا الباب، بل درسوا هذه الأحاديث دراسة تفصيلية، فتناولوا كل حديث بالشرح، وأجابوا عن الإشكالات التي قد ترد عليه وعلى النصوص الأخرى، وذلك في شروحهم الحافلة التي صنفوها على كتب السنة، وأفردوا لهذا اللون من الأحاديث مؤلفات خاصة، جمعت الأحاديث المشكلة والتي ظاهرها التعارض، مبينين وجه الصواب فيها بما يزيل أي إشكال، ويرد على كل  متهمٍ مفترٍ، ومن تلك المؤلفات:

  • اختلاف الحديث للإمام الشافعي
  • تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة
  • مشكل الآثار للطحاوي
  • مشكل الحديث لأبي بكر بن فَورَك.

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *