كيف يبني الإسلام الأمَّة المسلمة؟
كيف يبني الإسلام الأمَّة المسلمة؟
ألف الناس في عصرنا أن يكون ولاء الإنسان الأوَّل لوطنه وقومه! حسناً: ما الوطن؟ قطعةٌ من الأرض تربطنا بها حقوقٌ وذكريات! لكن من صاحب هذه الأرض ومالكها؟ ﴿قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾؟ [المؤمنون-84]، ومن خلق الأقوام الذين يحيون فوقها وشدَّ أسرهم ودبَّر أمرهم؟ ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ…﴾ [يونس-66]، ألَّا تكون العلائق أوثق وأسبق بهذا الإله الخالق المالك؟
إنَّ الإسلام حين يبني الأمَّة يجعل الإيمان العميق هو الدِّعامة الأولى في هذا البناء، ويجعل الولاء لله والعمل له الوظيفة الأولى للإنسان الراشد السوي. إنَّ عواطف من الربَّانية الغامرة هي التي تحرِّك المسلم وتحدِّد له غايته ومنهاجه، وهي عواطف تتنامى كلَّما سمع الأذان للصلوات الخمس، وكلَّما حجزه إيمانه عن رغبةٍ مجنونةٍ أو دفعه إلى عطاءٍ سخيٍّ، أو وقفه ليشدَّ أزر ضعيف، أو أغراه بالصياح في وجه منكر…!
إنَّ الربَّانية التي صنعها الدين أنفس معدناً، وأرجى ثواباً من المواطنة التي صنعها الناس، ومع ذلك فالمسلم أوَّل المدافعين عن الوطن، وأوَّل المحامين عن العشيرة، وأوَّل القائمين بالحقوق المطلوبة من كلِّ إنسانٍ كريم،
لأنَّه يأبى الضيم ويردُّ العدوان.
وبديهيٌّ أن يكون ذلكم الإيمان هو الروح الساري في كيان الأمَّة كلِّها، والمنتظم للكبار والصغار والأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء… وبعد أن يُرسي الإسلام أسس هذا اليقين يفرض مبدأ الأخوَّة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات-10]. والأخوَّة ليست لفظاً أجوف، إنَّها رحمٌ دينيَّةٌ موصولةٌ تعطي ثماراً أشهى وأزكى مما تعطي الديمقراطية الاشتراكية في الميدانين السياسيّ والاقتصاديّ، إنَّها خلقٌ فرديٌّ ونظامٌ اجتماعيٌّ، وقد اعتمدت الدولة الإسلامية منذ نشأتها الأولى على هذه الأخوة في مواجهة ظروف الحرب والسلام والإقامة والهجرة واقتسام المغارم والمغانم وتحمُّل الأعباء والواجبات…
ومن ينبوع الأخوَّة ينبجس رافدان من روافد العزَّة والاستقرار هما مبدأ التناصر ومبدأ التحاب…
أساس التناصر أنَّ المسلم لا يدع أخاه أبداً يُحرَج أو يذل، ويمضي لشأنه تاركاً إيَّاه يواجه وحده ما يقع له…
كلَّا، يجب أن يلزمه ويثبته ويدفع عنه، يحامي معه أو دونه… والواقع أن أشجِّع الشجعان لا يستغني عن عنصرٍ مادّيٍّ يسعفه في الشدائد. إنَّ المرء قذ يغضب إذا أُهين، وقد يستعدُّ للقتال إذا قطع عليه الطريق! ولكنَّه يغضب ويستعدُّ ويهجم على المعتدي إذا كان معه سلاحه، والمؤمن سلاحٌ لأخيه، وعضدٌ له في الشدائد، والمؤمن بين إخوانه يتحرَّك بقواهم كلِّها، لا بقوَّته وحد، وهذا الشعور الجماعيّ من معالم الجماعة المسلمة…
قال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه…) وفي رواية: (المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يكذبه ولا يظلمه، إنَّ أحدكم مرآة أخيه!! وقال: (من ذبَّ عن عرض أخيه ردَّ الله النار عن وجهه يوم القيامة)، على أنَّ لهذه النصرة الواجبة صوراً مختلفةً تقتضي التبصُّر والروية، فليس الأمر عصبيةً عمياء، كلَّا، المهم إحقاق الحقّ وإبطال الباطل، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً! قيل: أنصره إذا كان مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم فإنَّ ذلك نصره). والاستعمار العالميُّ يجتهد في قتل مبدأ التناصر، وفكِّ تضافر الأمَّة، وقد أعانه على ذلك الاستبداد الداخلي، أو قل: إنَّ الاستعمار سخَّر الحكم الفردي لإشاعة الفتك والسفك ونشر العار والدمار حتَّى كادت بعض الشعوب الإسلامية تفقد ملكة الشجاعة وعاطفة التعاضد والتناصر، فأصبح أحدٌ لا يلوي على أحد!!
لابدَّ من إحياء مبدأ التناصر بين المسلمين جميعاً…
أمَّا المبدأ الثاني من آثار الأخوَّة الإسلامية فقوامه التحابُّ لوجه الله، وجعل الانتماء إليه عاطفةً شريفةً تعلو كلَّ الصداقة، وترجع كلَّ قرابة، ولذلك جاء في الحديث القدسي:
(يقول الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي؟ اليوم أُظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلَّ إلَّا ظلِّي)
والواقع أنَّ الحبَّ في الله يهوِّن مشاقّ الحياة كما يهوِّن الحذاء مراحل الطريق ومتاعب العمل، وعندما يستوحش المرء من الناس، بل من نفسه، تجيء هذه العاطفة المباركة فتؤنس البعيد، وتمنحه قوَّةً على مواصلة العمل لله والجهاد في سبيله.
وتقديراً لهذه الحقيقة يقول الله سبحانه في الحديث القدسي:
(وجبت محبَّتي للمتحابِّين فيَّ، وللمتجالسين فيَّ وللمتزاورين فيّ، وللمتباذلين فيّ).
يعني من ينفقون أموالهم بسخاءٍ إجابةً لهذه العاطفة حين تفرض النفقة!
وليس حبُّ المؤمن لإخوانه نافلةً يتطوَّع بها إذا أراد، كلَّا، إنَّها أثر اليقين الناضج.
ولا يسوِّغ أن يكون المؤمن ميَّت الإحساس يتحرك لما يعنيه ويبرد لما يعنى غيره، إنَّ هذا الانحصار الشخصي هدمٌ للجماعة وإضاعةٌ للأمَّة، والمؤمن الحقُّ يحبُّ غيره كما يحبُّ نفسه، في هذا يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنَّة حتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا، ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).
وتحيَّة الإسلام مفتاح التعارف أو نقطة البدء في انخلاع المرء من عزلته واهتمامه بإخوانه، وفرحه بما يفرحهم وحزنه لما يحزنهم!
ومن اللطائف قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (إذا أحبَّ احدكم أخاه فليخبره بأنَّه يحبُّه) وقوله: (إذا آخى الرجل الرجل فليسأله عن اسمه واسم أبيه وممَّن هو؟ فإنَّه أوصل للمودَّة) وفي كلِّ مجتمعٍ بشريٍّ أغنياء وفقراء، حتَّى المجتمع الشيوعيّ فيه من يصبرون كرهاً على طعامٍ واحد، ومن يُطاف عليهم بالصحاف المنوَّعة، إنَّ العلاقة بين هؤلاء وأولئك جديرةٌ بالتأمُّل…
أيكون ذلك التفاوت مبعث حقد؟ عند المؤمنين بالدنيا وحدها لا ريب أنَّه يخلِّف في النفوس آثاراً سيِّئة! أمَّا المشغولون بآخرتهم- إلى جانب دنياهم- فهم لا يأبهون لذلك كثيراً مادام عند كلِّ امرئٍ ما يكفيه ويغنيه، بل لقد وجدنا التنافس اتَّجه إلى ناحيةٍ أخرى، فقد شكا الفقراء إلى رسول أنَّهم متخلِّفون عن الأغنياء في مجال الإحسان! قد تجمعهم الصلاة والصيام، ويتساوون في الأجور، لكنَّ الأغنياء يعتقون ويتصدَّقون ويجاهدون بمالهم يمكنُّهم التفوُّق الاقتصاديّ من أعمالٍ صالحةٍ كثيرةٍ… أرأيتم فيم فكَّر فيه القوم؟ إنَّهم لم يشكوا عيلةً في الدنيا ولا غُبناً نزل بهم، إنَّهم يفكِّرون في الآخرة، وتلك خاصَّةٌ يمتاز بها مجتمعٌ ربَّانيٌّ…
جاء في السنَّة أنَّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم! قال: (وما ذلك؟) قالوا: يصلُّون كما نصلِّي ويصومون كما نصوم ويتصدَّقون ولا نتصدَّق ويُعتقون ولا نُعتق، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم؟ إلَّا من صنع مثل صنيعكم)! قالوا: بلى يا رسول الله! قال: (تسبِّحون، وتكبِّرون، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين مرَّةً دبر كلِّ صلاة)! قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، يعنون أنَّه بقى لهم تفوُّقهم-فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)!
إنَّ همَّة المؤمنين تنشد الرضوان الأعلى ومنازل الآخرة، وهذه الصِّبغة الربَّانية صانت الأمَّة الإسلامية في ميدانين مهمَّين:
الأوَّل: في تلقِّي العلوم الدينية وصيانتها وتعليمها للآخرين ابتغاء وجه الله.
والثاني: في الجهاد المتفاني لردِّ أعداء الإسلام، واستبقاء دولته قائمةً مع إلحاح الغارات الصليبية والوثنية عليها…
إنَّ النجاح في هذين الميدانين استبقى أصول الإسلام ومعالمه وغطَّى عيوباً كثيرةً نشأت عن مفاسد الحكم، وشهوات الحكام.
وأمرٌ آخر يظهر في ثبات البناء الإسلاميّ على تراخي الأزمنة، إنَّ الإسلام عدَّ العمل للحياة عبادة، وعدَّ المال قيام الحياة وسياجها وكان الصحابة يقسمون أيَّامهم، فيجعلون بعضها للبقاء مع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يتعلَّمون ويقتدون، والبعض الآخر للضرب في الأرض يكدحون ويكسبون، فإذا غابوا عهدوا إلى إخوانهم الحاضرين أن يحفظوا لهم ما يجد من وحيٍّ وسنَّة، ليعرفوا بعد عودتهم ما هنالك، ثمَّ يردُّون الصنيع لإخوانهم إذا غابوا…
ومن ثمَّ لم يقع قط أن كان المسلمون في الشؤون المدنية أخفَّ كفَّةً، أو أسوأ حظَّاً، والدِّين لا يتمُّ تحصينه إلَّا بدنيا قائمة، وسنادٌ مدنيٌّ متين…!!
No comment yet, add your voice below!