رحمتُهُ ﷺ في الجهاد
رحمته في الجهاد
تحدَّثنا في المقال السابق (رحمته ﷺ بالمخالف) عن رحمة النَّبيِّ ﷺ بالمخالفين في العقيدة، وذكرنا في معرض ذلك نموذجين من نماذج تعامله ﷺ مع الناس؛ وبيّنا أنَّه لا يُنكر رحمة النَّبيِّ ﷺ إلَّا جاهلٌ به أو مُعرضٌ عنه.
وسنخصِّص هذا المقال للحديث عن مواقف من سيرته ﷺ في تعامله مع المحاربين في ساحات الجهاد، بعد تبيين معنى الجهاد في الإسلام، والعلاقة بينه وبين الرحمة.
فلسفة الجهاد في الإسلام:
قد يُتعجَّب من التعارض الظاهريِّ بين شطري عنوان المقال، فكيف لمقالٍ واحدٍ أن يحوي كلمتي (الرَّحمة) و(الجهاد) معاً! أليس الجهاد هو القتال والحرب والسيوف والدماء؟ فكيف لهذا المفهوم أن يتَّسق مع كلمة (الرحمة)؟ ما هذا التناقض!
نعم، قد تتعارض الصورة النمطية الظاهرية للجهاد مع مفهوم الرحمة، وذلك لبعد المفهوم النمطي للجهاد عن المعنى الحقيقيّ المراد من تشريعه، فمن نظر إلى الجهاد على أنَّه قتلٌ وتقتيلٌ وسفكٌ للدِّماء، فلا بدَّ أن يرى التعارض جليّاً بينه وبينه الرحمة، أمَّا من فهم الجهاد من منظوره القرآني ومن خلال سنَّة النَّبيّ ﷺ، وتعامل الصحابة الفاتحين، لَعلِم ما في هذا الخُلُق الرفيع من رحمةٍ وتضحيةٍ في سبيل سعادة الآخرين.
يمكن تلخيص مفهوم الجهاد في الإسلام بكلماتٍ موجزةٍ عبّر عنها الصحابيُّ الجليل (ربعيُّ بن عامر) رضي الله عنه أحد قادة الفتح الإسلاميّ للعراق في حديثه مع قائد جيش الفرس (رستم) عندما سأله الأخير عن الذي جاء بهؤلاء الفاتحين من الصحراء القاحلة إلى عقر ديار الفرس؛ ليجيبه (ربعيّ بن عامر) بكلماتٍ جليلةٍ بليغةٍ خلَّدها التاريخ:
(إنَّ الله ابعتثنا لِنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جَورِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدُّنيا إلى سَعة الدُّنيا والآخرة).
يتبيَّن لنا من هذه العبارات أنَّ المجاهد الحقيقيَّ إنَّما يضحِّي بنفسه وماله في سبيل أن تصل كلمة الحقّ والعدل والرحمة إلى الآخرين، لا لقرابةٍ بينه وبين من يجاهد من أجله، ولا لمصلحةٍ يرجوها منه، أو دنيا يصيبها معه؛ بل لوجه الله سبحانه الذي أمره بأن يقاتل في سبيل إخراج هؤلاء البشر من الظلمات إلى النور.
انطلق الصّحابة الكرام ومَن بعدهم بهذه الرسالة السامية فاتحين مشارق الأرض ومغاربها، وما كان لهذا الصحابيّ الجليل أن يعي هذا المفهوم إلَّا من خلال ما تعلَّمه من نبيِّه ﷺ ومن خلال ما قرأه في قرآنه الكريم.
فنجد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ [سورة النساء: 75]
فإنَّ النَّبيّ ﷺ ما جاهد إلَّا ليمنع الظلم والطغيان، وما أراد من قومٍ جاهدهم إلَّا أن يفوزوا بسعادة الدُّنيا والآخرة، وأن يخرجوا من ظلام الجاهلية إلى نور المعرفة والإيمان. ولذلك نجد في سيرته ﷺ مواقف تدلُّ على هذه الرحمة في الجهاد، فكان ﷺ حريصاً على استئصال عداوة المقاتلين بدلاً من استئصال أرواحهم.
((اللهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون))
((اشتدَّ البلاء على رسول الله ﷺ في غزوة أُحُد حتَّى جرح وجهه الشريف، وكُسِرت رباعيَّته، وهشمت البيضة (الخوذة) على رأسه، وكانت فاطمة رضي الله عنها تغسل الدَّم، حتَّى أخذت قطعةً من حصيرٍ فأحرقته حتَّى صار رماداً، ثمَّ ألزقته بالجرح)) [أخرجه الطبراني في المعجم]
وفي وسط ذلك البلاء كلِّه، يدعو النَّبيُّ ﷺ لقومه الذين آذوه فيقول: ((اللَّهمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمونَ)).
إنَّهم لا يعلمون أنَّهم يؤذون أنفسهم، إنَّهم لا يعلمون أنَّهم بعداوتهم للحقِّ يُعادون مصلحتهم، فأنا ما جئت إلَّا لأخلِّصهم من الظلمات التي ملأت قلوبهم؛ اللهمَّ اغفر لهم فإنَّهم لا يعلمون!
موقفه مع سهيل بن عمرو يوم بدر:
ومن اللفتات الجميلة في سيرة النَّبيّ ﷺ موقفه مع خطيب مكَّة، سهيل بن عمرو، الذي كان يحرِّض النَّاس على النَّبيّ ﷺ في مكّة.
فبعد غزوة بدر كان سهيل من ضمن الذين أُسروا مع المشركين، وأراد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أن ينتقم منه لشدَّة لسانه في التحريض ضدَّ النَّبيِّ ﷺ، فقال له: يا رسول الله، دعني أنزع ثنيّتي سهيل بن عمرو حتَّى لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم، فأجابه النَّبيُّ ﷺ: ((لَا أُمَثِّلُ بِهِ فَيُمَثِّلُ اللَّهُ بِي، وَإِنْ كُنْتُ نَبِيًّا)) ثم أدنى عمر منه وقال: ((إنَّهُ عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَاماً لَا تَذُمُّهُ)). [رواه ابن إسحاق وابن هشام في السيرة]
فاستطاع النَّبيُّ ﷺ أن ينزع العداوة من قلب سهيل بهذا الموقف، وما مرَّت سنواتٌ قليلةٌ حتَّى جاء سهيل يفاوض عن المشركين في صلح الحديبية وقد تهلَّل وجه النَّبيّ ﷺ برؤيته فقال: ((لقد سَهُلَ لَكُم مِن أَمْرِكُم))، وأسفرت المفاوضات عن الصلح مع مشركي قريش.
وبعد سنواتٍ أخرى وقف سهيل بن عمرو رضي الله عنه موقفاً كان قد بشَّر به النَّبيُّ ﷺ، إذ خطب في أهل مكَّة بعد وفاة النَّبيِّ ﷺ يثبِّتهم على الإسلام، ويذكِّرهم أنَّ الإسلام لم ينته بوفاة النَّبيِّ ﷺ، فانقلب الخطيب الذي يحرِّض على عداوة النَّبيِّ ﷺ بالأمس إلى خطيبٍ يثبِّت الناس على الإسلام بفضل رحمة النَّبيِّ ﷺ.
((رحمةٌ مهداة)):
بهذه المواقف وغيرها، يتبيّن لكلِّ من درس سيرة النَّبيِّ ﷺ بإنصاف، مسلماً كان أم غير مسلم؛ أنَّ أبرز صفةٍ من صفات النَّبيِّ ﷺ كانت صفة الرَّحمة، ولذلك قال الله سبحانه عنه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ﴾ [الأنبياء107]، فليس الأمر ادِّعاءً يدَّعيه أتباع نبيٍّ عن نبيّهم، بل هي جملةٌ من المواقف والمشاهد يستطيع كلُّ باحثٍ عن الحقيقة أن يفنّدها ويبحث بها، وأن يتقصَّى أخبارها عسى أن يجد إلى الهداية سبيلاً.
ومن عَسُر ذلك عليه، فليخالط أتباعه الحقيقيين، الذين فهموا الإسلام من منبعه الصافي، ليرى أخلاق نبيِّهم ﷺ فيهم، وألَّا يُعير انتباهه لشذَّاذ الفكر والتاريخ، يظنُّون أنَّهم يعبِّرون عن منهج رسول الله ﷺ لمجرَّد انتسابٍ لاسمه.
فهل سيبقى بعد ذلك من يشكُّ في أنَّه ﷺ: رحمةٌ للعالمين؟
No comment yet, add your voice below!