انتشار الإسلام
إذا كان هدف الفتوحات الإسلامية إكراه الناس على دخول الإسلام بحد السيف، فقد فشل فشلاً ذريعاً، أما إذا كان الهدف فسح المجال لرؤية حقائق الإسلام فقد نجح الإسلام بذلك نجاحاً بيِّناً
كثير من غير المسلمين إضافة إلى بعض المسلمين المتأثرين بالفكر الغربي ينظرون إلى أن الإسلام انتشر في العالم بقوة السيف والقهر، وأنّ أكثر الشعوب المسلمة اليوم قد دخلت الإسلام بقوة جيوشه التي توسعت في العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، حاملة رسالة الإسلام بالسيف.
وقد بُنيت هذه النظرة لانتشار الإسلام في سبيل غايتين؛ الأولى: ترسيخ القول بأن الإسلام لا يحمل في ذاته مقومّات الانتشار، وأنّه بحاجة لقوة القهر حتى يستطيع الوصول إلى العقول والقلوب، والثانية: أنّ الإسلام دينٌ عنيف حتى في نشر العقائد والقناعات.
ولا يخفى أن عجز المحاربين للإسلام عن مواجهته بالحجة والمنطق والعقل والدليل والبرهان حملهم على تشويه صورته، وتغيير حقيقته في نظر الناس، حتى يصلوا إلى مرحلة يرون فيها الإسلام همجيةً وقتلاً وجهلاً وتخلفاً، وبالتالي يرفضون الخوض فيه والتفكّر في تعاليمه وصوابية تشريعاته، ومناسبتها لبناء المجتمع الإنساني القويم.
فهل من الحق أن الإسلام انتشر بالسيف؟
للوقوف على حقيقة هذا الادعاء سنعالج عدة نقاط:
أولاً: الإسلام واضحٌ، بتعاليمه وتشريعاته وأفكاره وعقيدته، لا باطنية فيه، والحكمُ عليه سهلٌ، ومن اليسير أن نُظهر فيما إذا كان يحمل في ذاته مقومات القبول والانتشار أم أنه يحتاج للقوة والسيف حتى يصل إلى عقول الناس وقلوبهم.
كل ما في الإسلام واضح، فعقيدته وأركان الإيمان فيه لا تحتاج إلى كثير بحث، وعميقِ تدبر حتى يتمكن الإنسان من إدراكها، فهي عقيدةُ الفطرة، يستطيع البسطاء من الناس فهمَها فهماً تامّاً كما يستطيع ذلك المتعلّمون والمثقفون.
وكل تفصيل من تفاصيل حياة رسول الله التشريعية والخَلقية والخُلقية، القولية والفعلية والتقريرية، قد دوّنته كتب السير والسنّة، ويستطيع من يريد فهمَها الوصولَ إليها بكل سهولة، وبالتالي فهو قادرٌ على أن يحكّم عقله وقلبه فيها.
ثمّ إنّه لا يوجد في الإسلام أسئلةٌ محرّمة، بل يرفض أن يستشكل على الباحث أمرٌ ولا يسأل عنه، فهو يعرف أنّ دواء الشك السؤال، وأنّ البيانَ يطرد وساوس الشيطان، والقرآنُ الكريم قد خلّد تساؤلاتٍ طرحها المشركون ليواجهوا بها الإسلام وناقشها وبيّن جوابها، دون أن يأمرَ بقتال سائليها، وأجاب عن أسئلة الأنبياء والرسل، ومن قبلهم الملائكة، في القضايا الكبرى الوجودية والعقائدية.
لذلك فإنّ هذا الوضوح في الإسلام يجعله يقبل البحث والتمحيص وربما الانتقاد في سبيل وصول الباحث إلى الحق، وما كان كذلك فإنَّ مجرَّد استمراره دليلٌ على قناعة المؤمنين به قناعة عقلية وقلبية كاملة.
إنّ واقع المسلمين السياسيَّ والاقتصاديَّ والعسكريَّ المعاصرَ من الضعف والتخلف يجب أن يكون سبباً في تراجع إقبال الناس إلى الدين إن كانوا قد ورثوه عن آباءئهم مُكرَهين عليه، ولم يؤمنوا به حق الإيمان، أو لأنه لا يحمل في ذاته القدرة على الوصول إلى القلوب والعقول، إلا أنَّ الأمر عكس ذلك تماماً، فالإسلام اليوم -كما كان فيما مضى- يدخل إلى كثير من القلوب والعقول في زماننا، بل إنه اليوم من أكثر القناعات تأثيراً وانتشاراً في العالم رغم حالة الضعف التي يعيشها أهله
ثانياً: إن ادعاء انتشار الإسلام بالسيف، هو ادعاء مرتبط بالتاريخ ولا يمس حقيقة الدين، وهو رغم ذلك غير صحيح تاريخياً، ومرفوضٌ ديانةً.
فلا يقلل من قيمة الفضيلة أن يقوم إنسان ما بنشرها بين الناس بالقوة وحد السيف، فالعَيب في ذلك يقع على من يستخدم السيف لا على الفضيلة ذاتها، فلو قام –مثلاً- قائد عسكري بإجبار الناس على إدخال أبنائهم وبناتهم إلى المدارس، فدخل كثير منهم وتعلموا العلم، ثم جاء إنسان وقال: إن هذا العلم خاطئ، لأنه كان بالإجبار. فهل نقبل كلامه؟ وهل نعتبر أنَّ العيب في العلم أم في طريقة فرضه على الناس؟
هذا إذا سلمنا الأمر للقائلين بوجود إجبار للناس على الدخول في الإسلام عبر التاريخ، فكيف وَ التاريخ يشهد بعكس ذلك تماماً.
إن المعاهدة الشهيرة بين صفرونيوس (بطريرك القدس) والخليفة الثاني للمسلمين، عمر بن الخطاب تعطينا مثالاً على اتفاق الذمّة الذي حُظِر بموجبه التحول إلى الإسلام بالإكراه صراحةً:
“هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين عمر، أهل القدس من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم ولصلبانهم، ومقيمها، وبريئها، وسائر ملّتها، إنها لا تُسكَن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حدّها، ولا من صلبانهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم
المصدر: هيو كينيدي، الفتوحات العربية الكبرى: كيف غيّر انتشار الإسلام العالم الذي نعيش فيه (فيلادلفيا، بنسلفانيا: دي كابو بريس، 2007)
لا يمكن أن ننكر وجود بعض الأخطاء هنا وهناك بين طيات التاريخ في حمل الناس على اعتناق الإسلام، لكن من الخلل المنطقي أن نحمِّل الإسلام كله أخطاء البعض في الدعوة إليه.
ثالثاً: هل يقبل الله إيمان المُكرَه؟
في بديهيات إيمان المسلمين أنهم لا يقبلون وصول دينهم للناس إكراهاً، فهم يعلمون أن الله ينظر إلى القلوب لا إلى الأشكال، وإن من يدخل الإسلامَ مكرهاً لا يقبل الله ولا المسلمون منه إسلامه، وكلام الله حاسم في هذا المعنى حيث يقول: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 256)
رابعاً: ماذا عن النصوص التي تدل على وجوب حمل السيف على الناس وإدخالهم عنوة في دين الله؟
ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله))
لعل الفهم السطحي الخاطئ، أو العاطفي للنصوص والتشريعات هو من أعمق المشكلات التي نعاني منها اليوم، وبنتيجة الفهم الخاطئ جنح كثير من المسلمين إلى التشدد والتطرف، و غيرهم إلى العنف والإرهاب، و آخرون إلى التفريط.
وإن لاجتزاء النصوص دور كبير في هذا التشوه الفكري، فيحمل الكثيرون الإسلام على جزء من نص، أو على نص واحد من مجموعة نصوص، وللأمر شواهد كثيرة تُناقش في حينها، فالكلام هنا عن النصوص التي فهمها كثيرون –عمداً أو جهلاً- أنها تدعو لحمل السيف على الناس وإكراههم على الدخول في الإسلام.
وفي الرد على هذا الاجتزاء المُخل:
على العقل أن يوسع دائرة النظر لتشمل كل النصوص ذات الصلة، فمن قرأ نصاً وفهم منه أنه للإكراه فلينظر برؤية أكثر شمولية ليرى:
قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 256)
وقوله مخاطباً سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس/ 99) .
وفي بيان المنهج الذي أُمر به سيدنا نوح في دعوة قومه يقول تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) (هود/ 28).
وفي سورة ق: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (ق/ 45) .
وقوله في سورة الأنعام:(وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (الأنعام/ 107) .
وقوله تبارك وتعالى: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية/ 22)
وسيعلم بعد هذا النظر أن الإشكال ليس في النص وإنما في الفهم الخاطئ له.
و إذا لم يزل الالتباس بعد النظر في هذه النصوص الواضحة الجلية، فليوسع العقل نظرته مرة أخرى وليسأل: من يُمثّل الفهم الصحيح للإسلام؟ ومن هو المعبر في سلوكه وأفعاله عن حقيقة الإسلام؟
إنه بلا شك، رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الذي تمتلئ سيرته بالكثير من الدلائل الواضحة على عيشه صلى الله عليه وسلم مع اليهود والنصارى والمشركين في المدينة ومكة وغيرها من المدن دون الأمر بقتلهم أو إكراههم أو نفيهم.
خامساً: حقائق ووقائع تنفي ادعاءات الإكراه
كان التحول إلى الإسلام بالإكراه شبه مستحيل بعد الفتوحات الإسلامية الأولى، فقد كان المسلمون أقلية في المناطق التي غزوها حديثًا -ربما مثلّوا حوالي 10٪ من السكان في مصر و 20٪ في العراق-. “ففي ظل هذه الظروف، كان إكراه غير الراغبين في التحول أمرًا غير وارد”.
هيو كينيدي، “هل انتشر الإسلام بحد السيف؟: “الفتوحات الإسلامية الباكرة”، “مؤتمر يال حول الدين والعنف (جامعة يال، نيو هيفن، كونيتيكت ، 16 فبراير 2008).
في المناطق التي دخلها المسلمون بحلول عام 732م -أي في القرن الأول بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم-لم يصبح الإسلام دين الأغلبية حتى 850-1050م بعد مرور فترة طويلة من الزمن كافية لفهم الإسلام وقبوله بما يحمله في ذاته من مقومات القبول المتوافقة مع مُسلَّمات العقول السليمة، فعلى سبيل المثال، تم دخول المسلمين جميع أنحاء إيران “فارس” تقريباً بحلول عام 705م؛ ومع ذلك، فقد أظهر بحث تجريبي أجراه ريتشارد بوليت أنه في منتصف القرن التاسع فقط بلغ عدد المسلمين في إيران 50٪ من سكانها، واستغرق الأمر حوالي قرن آخر حتى يبلغ 75٪.
ريتشارد دبليو بوليت، “التحول إلى الإسلام وظهور مجتمع مسلم في إيران”، في التحول إلى الإسلام، (المؤلف) نيحميا ليفتزيون (نيويورك): هولمز وماير للنشر، 1979).
وبناء على هذه المعطيات يمكننا القول بأنه إذا كان هدف الفتوحات الإسلامية إكراه الناس على دخول الإسلام بحد السيف، فقد فشل فشلاً ذريعاً، أما إذا كان الهدف فسح المجال لرؤية حقائق الإسلام بوضوح وإمكانية المقارنة الحرة بين تعاليمه وتعاليم الديانات الأخرى ثم ترجيح الأصوب فيها، فقد نجح الإسلام بذلك نجاحاً بيِّناً.
وإن استمرار وجود أتباع الديانات الأخرى في البلاد التي دخلها الإسلام لهو أكبر دليل على عدم إكراه أجدادهم على تغيير دينهم.
وأخيراً . . .
ماذا عن أيديولوجيات وعقائد غير المسلمين، هل يوجد في تاريخهم أو واقعهم إكراهٌ للناس على اعتناق عقائدهم وأفكارهم، كالإلحاد، المسيحية، البوذية، العلمانية، الليبرالية الحديثة، وغيرها، إن إكراه الناس يتم في كثير من الأنظمة الاقتصادية أو السياسية أو الفلسفية أو غيرها. فهل نحاكم كل هؤلاء على حالات الإجبار أم على ما يحملونه من عقائد وأفكار؟.
No comment yet, add your voice below!