القرآنُ وقوامة الرَّجل على المرأة
أرأيت إلى زوجين يرقدان مطمئنَّين في جوف الليل، في الدَّار التي تكنّهما، وعلى حين غرّة استيقظا على صوت أيدٍ تعبث باب الدَّار, من الذي يهبُّ في هذه الحالة؟ هل في الدنيا كلِّها من لا يعرف الجواب؟ إنَّه الرَّجل
يقول قائلهم:
ها هي ذي المرأة في ظلِّ الحضارة الحديثة تُناكب الرَّجل, وتُنافسه في كلِّ المزايا, في العلم، والوظائف, والتّجارة وشؤون الاقتصاد, والسّياسة برُتَبِها المختلفة, ولا نزال نقرأ في القرآن {الرِّجَالُ قَوَّامُوْن َعَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 4/ 34] أليس هذا دليلاً على أنَّ ما في القرآن من شرائع وتعليمات إنَّما هو لعصورٍ خلت، إلَّا لهذا العصر المتطوِّر الذي نحن فيه؟
وأقول: هما كلمتان ينبغي أن نتبيَّنهما ونعلم الفرق بينهما، وألَّا تلتبس الواحدة منهما في أفهامنا بالأخرى، ونحن نزعم أنَّنا نتمتَّع بالعروبة وفهمها وسلامة النُّطق بها, هما: القوامة، والولاية.
من الملاحظ أنَّ القرآن أثبت قوامة الرَّجل على المرأة، فقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُوْنَ َعَلَى النِّسَاءِ} ونفى ولاية الرَّجل عليها، بل أثبت لكلٍّ منهما حقَّ الولاية على الآخر، فقال: {وَالْمُؤْمِنُوْنَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التوبة: ۹/ ۷۱]
وهي ما يسمَّى في مصطلح الشَّريعة الإسلاميّة بالولاية المتبادلة, ولا أعلم أنَّ لها ما يُرادفها أو يُقاربها في القوانين الوضعيّة.
فما الفرق بين الكلمتين؟
الولاية على الشَّيء أو الشَّخص في المصطلح الشَّرعيّ، أثرٌ من آثار نقص الأهليَّة في الشَّخص الذي تسري الولاية عليه، فلا يتأتَّى له ممارسة حقوقه أو بعض منها إلا بإذن الولي بل ربَّما بممارسته هو لها, ومن المعلوم أنّ الشريعة الإسلامية ساوت بين الرَّجل والمرأة في حقِّ الأهليَّة عندما يكون كلٌّ منهما يتمتَّع بكامل الرُّشد, ومن ثمَّ فليس لأحدهما ولايةٌ على الآخر. ولكنَّ الشريعة الإسلامية ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، فأثبتت بنصٍّ صريحٍ من القرآن الولاية المتبادلة بينهما، بأن لا يستقل الواحد منهما في ممارسة حقوقه عن الآخر، في ميزان اللياقة الأخلاقيّة.
وذلك بأن يرجع الرَّجل «الزوج» في ممارسته لحقوقه إلى المرأة «الزوجة» يستشيرها ويستطلع رأيها ويستهدي برشدها، وبأن ترجع المرأة «الزوجة» إلى الرَّجل زوجها» في ممارستها لحقوقها المالية وغيرها، تستشيره وتستطلع رأيه وتستهدي برشده في الأمر, فعن هذا النوع من الولاية السارية بينهما يقول الله تعالى:
{والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضهم أولياءُ بعض}
أمَّا القوامة فهي من قام بالأمر أي قام بشأنه، وهو مصطلحٌ شرعيٌّ يعني نظر الزّوج بشؤون زوجته من حيث الرّعاية والحماية لها, ودرء الأخطار عنها, وتقديم العون الماديّ والمعنويّ اللازمَين لها.
إنَّ الفرق بين القوامة والولاية واضحٌ وجليٌّ, فالقوامة لا تعني التَّدخُّل في حقوق الآخر بأيِّ انتقاصٍ لها, ولا بأيِّ شركة فيها, ولا باستئثار حق التصرف بها, في حين أنَّ الولاية تعني نوعاً من النيابة الجبريَّة في التصرّف بحقوق المَولي، نظراً لنقص أهليته.
والذي يحصل في الغالب لدى الذين يستشكلون حقَّ القوامة للزَّوج في الأسرة، أنَّهم لا يفرِّقون بينها وبين الولاية، فيحسبون أنَّ قوامة الرَّجل في المنزل تعني أنَّه صاحب حقٍّ في أن ينتقص من حقوقها ما يشاء، وأنَّها لا تملك أن تتصرَّف بشيءٍ منها إلَّا بموافقته, وربَّما عن طريقه, ومن ثمَّ فإنَّهم يرون في قوامة الرَّجل معنىً من معاني التَّسلُّط على حقوقها والانتقاص من كرامتها وحريَّتها.
وأحسب أنَّك قد عرفت الآن الفارق الكبير بين مُصطلحي الولاية والقوامة في كتاب الله عزَّ وجلَّ، وأنَّ قوامة الرَّجل لا تعني شيئاً من هذا الذي يتوهَّمه النَّاقدون.
***
فإذا ظهر لك الفرق جليّاً بين الولاية والقوامة، فتعال نتجاهل هذا الذي قرَّره بيان الله في قرآنه المبين، ولنتساءل: أيّهما أولى بتحمّل مسؤولية القوامة في بيت الزّوجية (وقد عرفت معناها الآن) الرّجل أو المرأة؟
أيّهما الأقدر على النهوض بشؤون الأسرة, والسَّهر على رعايتها وحمايتها من الآفات والأخطار؟.. لقد أجابت الطبيعة البشرية المبثوثة في العالم كلِّه عن هذا السؤال، قبل أن تجيب النظم المتَّبعة والقوانين الوضعيَّة فقالت: إنَّه الرَّجل, وهذا ما أيَّدته في كلِّ عصرٍ أنوثة المرأة، ورجولة الرَّجل.
أرأيت إلى زوجين يرقدان آمنين مطمئنَّين في جوف الليل، في الدَّار التي تكنّهما، وعلى حين غرّة استيقظا على صوت أيدٍ تعبث برتاج باب الدَّار, إنَّهم لصوص يقصدون إلى اقتحام الدَّار, من الذي يهبُّ في هذه الحالة ليحمي الأسرة ويردَّ اللصوص على أعقابهم؟ هل في الدنيا كلِّها من لا يعرف الجواب؟ إنَّه الرَّجل الذي أقامته الفطرة الربَّانية على وظيفة حماية الأسرة ودرء الأخطار عنها، أمَّا المرأة فتحتمي بقوَّة زوجها وتتضاءل في ظلّه… تلك هي القوامة في معناها الفطريّ، الذي يقرّ به العالم كلُّه، وليس قرار القرآن القائل: {الرِّجَالُ قَوَّامُوْنَ َعَلَى النِّسَاءِ} إلَّا تُرجماناً لهذه الفطرة.
ولقد بيَّنت تتمَّة الآية حيثيَّة هذا القرار الفطريّ في واقعه، الشّرعيّ في حكمه، وهي قوله تعالى: {بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوْا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.
الحيثيَّة الأولى: بما فضَّل الله بعضهم على بعض, وليس معنى الأفضليَّة هنا أفضليَّة القرب من الله أو أفضليَّة المكانة في المجتمع, فربَّ امرأةٍ تكون أقرب إلى الله من زوجها ومن كثيرٍ من الرِّجال… وربَّ امرأةٍ تتبوَّأ مكانةً في مجتمعها لا يتبوَّأ مثلَها ولا أقلَّ منها زوجُها, ولا كثيرٌ من الرِّجال… وإنَّما المراد بالأفضليَّة هنا: الخصائص الجسميَّة والنَّفسيَّة التي وزَّعها الفاطر الحكيم بين الرَّجل والمرأة، وهي معروفةٌ ومدروسة.
والحيثيَّة الثَّانية قوله: وبما أنفقوا من أموالهم, إنَّه تذكيرٌ بما قضى الله به من جعل الإنفاق على الأسرة مسؤولية الزَّوج دون الزوجة, والقانون الدوليُّ يقول: من يُنفق يشرف، والعالم كلُّه يخضع لهذا القانون, ويعترف بهذه العلاقة اللزوميَّة بين مسؤوليتي الإنفاق والإشراف.
أمَّا لماذا كان واجب الإنفاق منوطاً بالزّوج دون الزّوجة، فله جوابٌ طويلٌ يُدركه كلُّ من كان مُقِرَّاً بقدسيَّة الأسرة حريصاً على حمايتها من سائر الآفات, ولولا أنَّ الحديث في ذلك يُقصينا كثيراً عمَّا نحن في صدده لفصَّلْنا القول فيه بما يزيدنا إقراراً بل إعجاباً بحكمة المشرِّع جلَّ جلاله.
***
لك أن تقول: ربَّ امرأةٍ تتمتَّع بما لا يتمتَّع به الرَّجل من الشجاعة, والإقدام, وقوَّة الشَّخصية, واقتحام الأخطار في سبيل الذَّود عن الأسرة وحماية أفرادها، في حين ترى الرَّجل خائر النَّفس جباناً عاجزاً عن مواجهة الأخطار تتملَّكه المخاوف والأوهام، وقد يكون إلى جانب ذلك كلِّه فقيراً لا يتأتَّى منه النُّهوض بأدنى درجات الإنفاق.
وأقول لك في الجواب: كلَّما رأيت في الكون سنَّةً ماضية ينبعث منها نظامٌ مطّرد، فاعلم أنَّ بوسعك أن تعثر داخل تيَّار هذه السُّنَّة الماضية على شذوذاتٍ شاردةٍ عنها, بل خارجةٍ عليها… ترى ذلك بين قوانين الطَّبيعة وعالم الحيوانات والبحار، وترصد مثل ذلك في قوانين المجتمعات وفيما ينبغي أن تكون عليه طبائع الرِّجال والنِّساء بل أجسامهم وأجسامهن أيضاً, ولله عزَّ وجلَّ في ذلك حكمةٌ أفَضْتُ في الحديث عنها في مناسباتها ولدى معالجة الموضوعات المتعلِّقة بها.
فاعلم أنَّه كلَّما وقع شذوذٌ داخل نظامٍ ماضٍ مطَّرِد، فإنَّ ذلك الشذوذ يعطى الحكم المناسب له، دون عدوانٍ على الحكم العام المناسب للنِّظام الموجود المطّرد.
فإذا وجد داخل الأسرة رجلٌ شاذٌّ عن أمثاله من الرِّجال في کینونته الشَّخصيّة والنَّفسيّة، وصادف أن كانت الزّوجة في تلك الأسرة شاذّة هي الأخرى عن مثيلاتها من النّساء، وكانت تتمتّع بالصّفات التي ذكرت، فلا ريب أنّ القوامة الشرعيّة تكون لها، ولا شكّ أنَّ ذلك يكون من حسن حظِّ الرَّجل الذي أعوزته کینونته الشَّاذَّة إلى امرأةٍ شاذَّةٍ بين أترابها من النِّساء، وإنَّها لفرصةٌ نادرةٌ، حصول هذا التلاقي تحت سقف بيتٍ واحد.
ولكن هل من المنطق أن يُنسخ القانون المناسب للنّظام العام الموجود والمطّرد بسلطانٍ من الحكم الجزئيِّ الشَّاذّ استجابةً لحالةٍ شاذَّةٍ واقعة!..
إذا كان القانون المطّرد العامُّ لا يتأتى منه تجاهل الأخذ بحكمٍ مُخالفٍ له رعايةٌ لحالةٍ شاذَّةٍ واقعة، فكيف يتأتَّى لهذا الحكم الجزئيّ الخاصّ بتلك الحالة أن يُتجاهلَ سلطان القانون العامّ المطّرد المنسجم مع النظام الكونيّ المطّرد!
كلٌّ من القانونين: المطَّرد والشَّاذّ يبقى، ما دام كلٌّ من الحالتين: المطَّردة العامّة, والشَّاذَّة النادرة باقيَتَين مع تقلُّبات الدَّهر… هكذا تقول العدالة… وهكذا يقضي شرع الله وحكمه.
No comment yet, add your voice below!