الخالق العظيم

Loading

الخالق العظيم

هل سأل أحدكم نفسه عن كمية السباكة داخل جسمه! مجموع المواسير داخل العمارة التي هي بدنُه! بما فيه من آلاف الوصلات والمجاري التي يجرى فيها الدم، والبول، والطعام، والفضلات، وعوادم التنفس، والهضم؟

هل يعلم أنَّ طول مواسير الدم في جسمه تبلغ وحدها ثمانية آلاف ميل، أي أطول بكثيرٍ من المسافة بين القاهرة والخرطوم، مواسير أكثر ليونةً من “الكاوتشوك“، وأكثر متانةً من الحديد، وأطول عمراً من الصلب الكروم، وفى بعضها صمَّاماتٌ لا تسمح بالسير إلَّا في اتِّجاهٍ واحد.

ثمَّ مواسير الهواء ابتداءً من فتحة الأنف، إلى الحلق، إلى القصبة الهوائية، إلى الشُعَب، ثمَّ الشُّعيبات التي تتفرَّع وتتفرَّع، وتنقسم حتَّى

تصل إلى أكثر من مليون غرفةٍ هوائيةٍ في الرئتين. ثمَّ مواسير البول التي تجمع البول من الكليتين لتصبَّ في الحوض، ثمَّ الحالب، ثمَّ المثانة، ثمَّ قناة الصرف النهائية، ثمَّ مواسير الطعام من الفم إلى البلعوم، إلى المعدة، إلى الاثنا عشر، إلى الأمعاء الدقيقة، ثمَّ مواسير الفضلات من المصران الصاعد، إلى المستعرض، إلى الهابط، إلى المستقيم، إلى الشرج.

ثمَّ ممرَّات الولادة، وغُرفها، ودهاليزها، وأنابيبها، ثمَّ مجاري المرارة، وحوصلتها، ومواسيرها، ثمَّ مجاري اللمف، ومواقف اللمف، ومحطَّاته في الغدد اللمفية. وهي مواسير تمرُّ إلى جوارها الفضلات، وتحميها شبكةٌ من الأوعية الدموية والأعصاب، وجيوشٌ من خلايا المقاومة تلتهم أيَّ ميكروب يمكن أن يتسرَّب من هذه المواسير في طريقٍ خاطئٍ إلى الجسم. وأنابيب العرق، وبلايين منها تشقُّ الجلد، وتفتح على سطحه لترطِّبه، وتبرِّده بالعرق، وأنابيب الدموع داخل حدقة العين تغسل العين، وتجلوها، وأنابيب التشحيم داخل جفن العين، تفرز المواد الزيتية لتعطي العين تلك اللمعة الساحرة.

هذا الكمُّ الهائل من السباكة الفنّية الدقيقة المعجزة التي نعيش مئة سنةٍ ولا تتلف. وإذا أصابها التلف أصلحت نفسها بنفسها 

نموذجٌ من الهندسة الإلهية العظيمة أهداها الله للإنسان منحةً مجَّانيةً منذ ميلاده، وتولَّى صيانتها برمّته وعنايته. 

فهل أدركنا هذه النعمة؟ وهل قدرناها حقَّ قدرها.  

كثيرٌ من الأمراض سببها أعطالٌ وتلفياتٌ في هذه السباكة. الإسهال والإمساك والغازات وتطبُّل البطن، هي أعطال، وتلفياتٌ في أنابيب صرف الفضلات. والزكام انسدادٌ في منافذ الهواء داخل الأنف. والناسور هو ثقبٌ في ماسورة الإخراج. 

واحتباس البول، والمغص الكلوي، وآلام الكلى، سببها أعطالٌ في أنابيب صرف البول. 

إنَّ تركيبات «الصحي» في جسمك هي التي تصنع لك صحَّتك بالفعل، بل هي صحَّتك ذاتها. إنَّ أيَّ انقباضٍ في 

ماسورةٍ معويةٍ يساوي صرخة مغص، وأيَّ ضيقٍ في شريان القلب التاجي يساوى ذبحه، وأيَّ ضيقٍ في ممرَّات الولادة 

يساوى إجهاضاً، وأيَّ انسدادٍ في قنوات فالوب يساوى عقماً، وأيَّ انسدادٍ في مجارى المرارة يساوى صفراء. 

هذا غير مجارى اللمف والدم والغدد، وهى تتنوَّع في الجسم بالآلاف، ولكلِّ غدَّةٍ توصيلاتها، وقنواتها، ونظامها، ودورها في

صناعة الصحَّة التي نتمتَّع بها دون أن ندري أنَّها عمليةٌ تركيبيةٌ معقَّدةٌ تشترك فيها مئات الأجهزة . 

إنَّ الصحَّة التي نشعر أنَّها مجرد استطراد أمرٍ عاديٍّ واقع، ليست بالمرَّة أمراً عادياً، وليست مجرَّد واقعٍ مألوف، وإنَّما هي نتيجة تدبيرٍ محكمٍ، وثمرة عمليَّاتٍ معقَّدةٍ مرسومةٍ بعنايةٍ وقصد. 

وإنَّما يحدث المرض حينما تتخلَّف هذه العناية _وهي قلَّما تتخلَّف_ فإذا تخلَّفت فلتشرح لنا أسرارها، فما عرفنا معجزة 

الصحَّة إلَّا بدراسة المرض، وما عرفنا معجزة الحياة إلَّا بالموت، وبأضدادها عُرفت الأشياء. 

وفي محاولاتنا البدائية في بيوتنا وعمارتنا التي نبنيها وهى مجرَّد ماكيناتٍ رمزيةٍ صغيرةٍ لاتصل إلى واحد في المليون من العمارة 

البشرية، غرقنا في «شبر ميَّة»، طفحت مجارى القاهرة، وتلوَّث البحر بعوادم المصانع، واختنق النيل بالفضلات التي 

تلقى فيه، ووقفنا أمام السيفون التالف ننادي على سبَّاك، واختلط الساخن بالبارد، والطاهر بالملوَّث، وفشلنا في صناعة أصغر “ماكيت” سباكة لا تزيد  مواسيره عن بضعة أمتار، وغرقنا في بانيو نصف متر. 

وهذه صناعتنا، وهذه صناعته!  

وهذه سباكتنا، وتلك سباكته! 

وهذه عمارتنا، وتلك عمارته! 

وهذا خلقنا، وذاك خلقه! 

فتبارك الله أحسن الخالقين.

ويتحدَّانا الله بصنعته المبهرة، وآياته الخالدة في عماره البشري:

((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ))  

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *