الحوار في ظل العيش المشترك

الحوار في ظل العيش المشترك

بعدما تقرّر أنَّ اختلاف الطوائف والأديان لا يمنع من العيش المشترك، وضمان الحقوق، وإقامة العدل، وحسن الجوار، وبناء العلاقات على المودّة بين أبناء المجتمع، كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]

 ننتقل إلى مرحلة الحوار بين أبناء البلد عند اختلاف الآراء والأفكار والمذاهب والأديان، حسب ما يُمليه الدِّين والعقل والأخلاق، وبما يحقِّق المصلحة العليا، ويعزِّز التلاحم بين أبناء الشعب، ويجعلُهم صفّاً واحداً.

فإنَّ أهمَّ ما يُسهم في إنجاح الحوار هو سعة الأفق، ومرونة الفكر، والتخلّي عن العصبيّات لصالح الهدف الأسمى، وفهم مقاصد الدِّين، ومعرفة سُلَّم الأولويَّات، فالأصول والثوابت لا مساومة فيها، وأمّا غيرها فلا بدَّ من التنازل من كلا الطرفين عمَّا يُمكن التنازل عنه من الشكليَّات وما يَقبل الخلاف، لتصغير الهوّة، والتقارب بين الأطراف، بترك أضعف المصلحتين لتحقيق أعظمهما، كما فعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، حين رفض المشركون أن يكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم) فأجابهم وكتب: (باسمك اللهمّ)، ورفضوا عبارة: (محمَّد رسول الله) فأمر عليّاً أن يمحوَها ويكتب: (محمَّد بن عبد الله) وذلك للوصول إلى نقطة اتّفاقٍ بينه وبين المشركين.

فإذا تحقّق ذلك، كان الحوار بنَّاءً ولو لم يتَّفق الأطراف في الأفكار. 

ومما ينبغي معالجته ما يصدر من تصرّفاتٍ فرديَّةٍ بطريقةٍ ارتجاليَّةٍ غير مدروسة في القدح بدين الأكثريّة أو منهجهم أو مشربهم أو توجُّهاتهم أو مقدَّساتهم أو رموزهم، أو إلزام الجميع برأيٍ واحدٍ بإنشاء نزاعاتٍ في مسائل وقع فيها الخلاف منذ عهد السلف الصالح، وهي ضمن دائرة السعة التي قرّرها أهل العلم، أو هي أمورٌ فرعيَّةٌ وجانبيَّة لا تأثير لها على الدِّين أصلاً، ممّا يؤجّج نار الخلاف والشقاق ويعيق حركة الحوار البنَّاء.

وكلَّما اقتربنا من فهم القرآن الكريم وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصول العلماء والأئمَّة الكبار تترسَّخ صورة الحوار السامي؛ لأنَّ الإسلام مظلَّةٌ كبرى تضمَّ مختلف الأفكار والأديان والآراء، فالإقصاء والإلزام بالرأي والاستهجان والتسخيف لا مكان له في الشريعة أصلاً، بل العلاقات في الإسلام قائمةٌ على الاحترام المُتَبادَل بين الجميع…

  ولنا في القرآن الكريم مَثَلٌ أعلى في آداب الحوار، فإذا تتبَّعنا المنهج القرآني نجده يأمر بالحكمة والأدب في ذلك، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] فقد جعل القرآن طريق الحوار مبنيّاً على الحكمة، تلك الصفة التي تجمع كلَّ المحاسن المتعلّقة بالأقوال والأفعال، ثمَّ أكَّد على وصف العمليّة الحواريّة بالحسنى مرَّتين، فوصف الموعظة بأنَّها حَسَنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، بصيغة أفعل التفضيل للمبالغة في اتّباع الأسلوب الحَسَن.

فإن قال قائل: ما السرّ في ذكر الموعظة بوصف الحُسن فحسب، وأمّا المجادلة فجاء الحُسن فيها مؤكَّداً بأكثر من صيغة؟ 

حيث جاء وصف الحُسن في المجادلة بصيغة التفضيل، قال تعالى (وجادلهم بالتي هي أحسن) إضافةً إلى صياغتها في جملة وليس وصفاً مفرداً، فقال: (هي أحسن) ومعلومٌ أنّ المعنى إذا كان مصاغاً في جملة يكون أبلغ من المفرد.

فالجواب:

إنّ الموعظة تكون من طرفٍ واحد، فيكفي أن توصَفَ بالحُسن.

وأمّا المجادَلة فتقع بين طرفين، والحال فيها يقتضي التأكيد على وصف الحُسن؛ لأنَّ الجدال أو الحوار غالباً ما تقع فيه إساءةٌ أو تجاوزٌ من الطرف الآخر، فأكّد القرآن الكريم على المسلم أن يدفع الإساءة بالتي هي أحسن لامتصاصها وإماتتها، حفاظاً على الألفة؛ حتى لا يتحوَّل الحوار الفكري إلى عِداءٍ ونزاع؛ لذا قال تعالى في سياق الدعوة إلى الله المبنيّة على الحوار: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 33، 34] فعندما يدفع بالتي هي أحسن يتحوَّل المُحاوِر من مُعارِضٍ ومخالِفٍ إلى (وليّ حميم) أي مُوالٍ وصديقٍ مقرَّب، وهذا يضمن دوام الألفة في المجتمع.

إنَّ ساحة الحوار في الإسلام مفتوحة، فيطرح كلُّ طرفٍ أفكاره وآراءه، وينبغي للطرف المقابل أن يقبلها بموضوعيّة، ويعرضها على الأدلّة، ويتناول جزئيّاتها بالدراسة والنقاش، دون أحكامٍ مسبقة بأنّه على الصواب المطلق وقرينه على الخطأ القطعيّ، وقد ذكر القرآن هذا المبدأ بقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] فلم يقل نحن على الهدى وأنتم على الضلال، بل قال {وإنّا أو إيّاكم} أي أحد الفريقين منّا على الهدى، والآخر على الضلال، ويتبيّن ذلك بعد عرض الأفكار على ميزان العلم والمنطق والدليل.  

  بل تجاوز القرآن هذه المرحلة إلى ما أبعد منها عند إصرار الطرف الثاني على التعنُّت، ووصْفِ المسلمين بالإجرام، فقال: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] أي إذا رفضتم فكرنا ووصمتمونا بالإجرام، فإنّ إجرامنا عائدٌ إلينا وخطؤنا لا يضرّكم، ومع هذا لم يصف الطرف الثاني بأنّهم مجرمون أو مخطؤون، بل قال: {ولا نُسأَل عمَّا تعملون} أي لا نُحاسَب على ما تفعلونه وتعتقدونه.

إنّه سموُّ الخطاب الذي يأمر به القرآن؛ كيلا يتحوّل الحوار الفكريُّ إلى خصومةٍ ونزاع، وبهذا يقرّر مبدأ: إذا وصل الحوار إلى طريقٍ مسدود، وتوقَّفت القدرة على الإقناع ننتقل إلى دائرة التعايش، ولا ينبغي للخلاف الفكري أن يؤدّي إلى خصومة واختلاف.

وإذا نظرنا في منهج العلماء المصلحين نجدهم سلكوا هذا السبيل، ولنسلِّط الضوء على ثلاث شخصيَّات من كبار العلماء والمفكّرين والمصلحين:

الأوّل: شيخ العلماء، العارف بالله محمّد بن مصطفى بن عليوة:
فقد كان من أعظم أئمّة القرن الماضي، وتربّى على يديه كبار العلماء، وكان أثره الدعويّ والإصلاحيّ بالغاً، فقد سلك منهج الحوار البنّاء، وكان يكتب في الصحف مقالات تجمع ولا تفرّق، وأسَّس جريدة (لسان الدين) و(البلاغ) الجزائريّة، وكان له حضورٌ في النوادي الثقافيّة، والمجامع التي تساهم بوحدة الصفّ، ودعا إلى حوار الأديان، ونبذ الخلافات المذهبيَّة، وتعميق فكرة التسامح والتواصل، ونشر السلام والمحبّة بين الناس.   

ثانياً: المصلح الشيخ طاهر الجزائري:
فقد جعل من أسلوب الحوار طريقاً للتبادل الفكري والثقافي، ونشر الألفة بين جميع الأطراف، وكان يتواصل مع المسيحيين والمستشرقين، ويتناقشون الأفكار بطريقة بنّاءة، وكانت تجمع بينهم علاقات طيّبة.

ثالثاً: الشيخ عبد الله العليمي الغزّي الدمشقي:
فقد كانت له حواراتٌ فكريَّةٌ مع المبشِّرين والقساوسة، ودوَّنها في كتاب أسماه: (سلاسل المناظرة الإسلامية النصرانية بين شيخٍ وقس) وقام ابنه بطباعتها، وكتب عليها: (ومن أهداف إصدار الكتاب تقريب الشُقَّة بين الأديان السماوية ليسود السلام) [الحوار الإسلامي المسيحي للدكتور بسام عجك: (ص 218)]

وبهذا نجد أنّ الإسلام يدعو إلى حُسن الحوار، وعرض الأفكار بطريقة المحبّة في ظلّ التعايش السلمي، ولا ينبغي أن يؤدّي الخلاف الفكري إلى نزاعٍ وخصومات.   

  

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *