كيف يمكن للبخاريِّ أن يجمع ستمئة ألف حديثٍ في ست عشرة سنة؟
إنّ ما يذكره بعض المعترضين من إشكاليَّة انتقاء الإمام البخاري كتابه الصحيح من بين ستمئة ألف حديثٍ خلال ست عشرة سنةً ليس معقولاً؛ لأنَّنا إذا حسبنا الوقت على مدار أربع وعشرين ساعةً فيجب حينها أن يُدَوّن كلّ ربع ساعةٍ حديثاً وهذا إذا قضى كلّ وقته في تصنيف الحديث، دون أن ينام أو يأكل أو يصلّي، ودون أن يقضي وقتاً آخر في غير الاشتعال بالحديث.
والحقيقة فإنّ الأمر ليس كما يظنّ هؤلاء، وإنّ هذه الفرضيّة لا صحّة لها البتّة، وإنّما يكشف قولهم هذا عن جهلهم بعلم الحديث وبالإمام البخاري وطريقته في التصنيف.
وللجواب على هذا السؤال:
أوَّلاً: ماذا يقصد علماء الحديث بحقيقة (الحديث):
يطلق المحدّثون لفظ الحديث على كلِّ طريقٍ من الطرق التي وردت فيها الرواية، يعني ذلك: إذا ورد الحديث الواحد عن عشرة طرق عدُّوه عشرة أحاديث وليس حديثاً واحداً، ومثال ذلك قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات» فقد ورد عن مئة طريقٍ بعد يحيى بن سعيد، وكذلك حديث: «من كذب عليّ متعمِّداً فليتبوّأ مقعده من النار» فقد ورد عن أكثر من مئة طريق، وهذان الحديثان عند علماء الحديث ليسا حديثين فقط، وإنَّما يعتبرونهما أكثر من مئتي حديث، فيجعلون كلَّ سندٍ من أسانيده حديثاً مستقلاًّ، وإنّ أكثر الأحاديث وردت من أكثر من طريق؛ لذا فعندما يقولون: (ستمئة ألف حديثٍ) فالمقصود في الطرق والإسناد، أمّا من حيث المتن-أي لفظ الحديث- فهي لا تتجاوز مئة ألف حديثٍ صحيحها مع معلولها.
ثانياً: الإشكال الذي طرحه المعترضون هو إشكالٌ وهميٌّ:
لأنّ الإمام البخاري بدأ بحفظ الحديث منذ نعومة أظفاره في بلده بخارى قبل أن يبلغ العاشرة من عمره، ثمّ طاف في البلاد في رحلةٍ طويلةٍ إلى مكَّة والمدينة والشَّام والجزيرة وبلخ وبغداد والبصرة والكوفة ومصر وغيرها من البلدان وهو يطلب الحديث ويدوّنه، حتى إنّه أخذ عن زهاء ألف شيخٍ من المحدّثين.
وكان لا يدانيه أحدٌ في علوّ الهمّة والجدّ والاجتهاد، وقد فرّغ كلّ وقته لحفظ الحديث الشريف وتحقيقه وتصحيحه والتَّصنيف فيه، دون كللٍ أو ملل، وقد ألّف كتاب: (التاريخ الكبير) قبل أن يصنّف (صحيح البخاري) حين كان عمره ثماني عشرة سنةً، ترجم فيه للصحابة والتابعين وتابعي التابعين وجميع رواة الحديث، وذكر شيوخهم وتلامذتهم والأحاديث التي رووها، وتكلّم فيهم جرحاً وتعديلاً، أي بيّن مَن تُقبل روايته ممن لا تُقبَل، وحال كلِّ راوٍ، وكلام العلماء فيهم، وإنّ تأليف هذا الكتاب أصعب من تصنيف أحاديث الصحيح، وهو كتابٌ مطبوعٌ في ثمانية أجزاء من الحجم الكبير.
وقد أخطأ من ظنّ أنَّ البخاري بدأ بتصنيف (صحيح البخاري) من نقطة الصفر خلال ست عشرة سنةً، وأنّه لم تكن لديه ذخيرةٌ من الأحاديث، وإنَّما بدأ البخاريُّ بدراسة الحديث منذ سنة 204 هـ، وبدأ بتصنيف كتابه (صحيح البخاري) سنة 216هـ، أي بعد اثنتي عشرة سنةً من العلم والدراسة، وكانت لديه مئات آلاف الأحاديث التي دوّنها خلال طلبه للعلم في اثنتي عشرة سنةً، ثم استغرق ست عشرة سنةً في تصنيف كتابه الصحيح ينتقي وينقّح ويصحّح، فكان تصنيف صحيح البخاري في الواقع حصيلة دراسة ثمان وعشرين سنة قضاها في دراسة الحديث الشريف.
إضافةً إلى ما ذكرناه في البداية من أنَّ عدد الأحاديث الحقيقيَّ من حيث المتن بلغ حوالي مئة ألف حديثٍ فقط، وإنَّما الطرق والأسانيد هي التي يبلغ عددها ستمئة ألف طريق.
والنتيجة: إنّ الإمام البخاري في الحقيقة اختار في صحيحه نحو أربعة آلاف حديثٍ، انتقاها من بين مئة ألف حديثٍ، خلال ثمانٍ وعشرين سنةً، وهذه المدَّة طبيعيةٌ جدّاً، بل تُعَدّ طويلةً، فلا إشكال إذاً ولا وجه للاستغراب أو الإنكار.