الإسلام أول من قرر سيادة الإنسان

مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مربع-
مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مستطيل-

الإسلام أول من قرر سيادة الإنسان

Loading

الإسلام أول من قرر سيادة الإنسان

لعلَّ من أجلى النصوص القاطعة في الدلالة على السيادة التي متّع الله بها الإنسان من حيث هو إنسانٌ وبقطع النظر عن عوارض الصفات والالتزامات، قول الله عزّ وجلَّ: (﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾) [الإسراء-70].

ومن الواضح أنَّ التعبير بكلمة (بني أدم) في صدد هذا الحكم إنَّما يدلُّ على التعميم الذي يخترق الفوارق الطبقية وفوارق الألوان والأعراق، وحتَّى الديانات، ذلك لأنَّ الآية تعلن بأنَّ مَنحَ الله الإنسان هذا التكريم، كان أسبق من حظوظه اللونية والعرقية، ومن اختياراته الدِّينية.

يلي هذا النَّصّ للدلالة على هذا التكريم قول الله تعالى: (﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين﴾) [البقرة-34]، ومثله قوله تعالى:

(﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾) [ص-71/72].

صحيحٌ أنَّ أيَّاً من هذه النصوص لم يورد كلمة السيادة، وإنَّما جاء التعبير بالتكريم والتفضيل وإسجاد الله الملائكة له أي للإنسان، غير أنَّنا لو أردنا أن نترجم كلمة (السيادة) لن نجد أبلغ في التعبير عنها، من كلمة التكريم والتفضيل ومن إعلام الله الإنسان بأنَّه، عزّ وجلَّ، قد رفع من شأنه وسما به إلى حيث اقتضى أن يأمر الملائكة بالسجود له، أي سجود تبجيلٍ وتكريمٍ، لا سجود عبادةٍ وتأليه.

ثمَّ إنَّ التفسير التطبيقيّ لهذه السيادة التي أضفاها الله تعالى على الإنسان، أوضح أنَّ مزية هذه السيادة منوطةٌ بكلِّ فردٍ على حدة، أي فالحكم في كلٍّ من الآيتين ثابتٌ لجميع أفراد الإنسان لا على مجموعهم، أي لا على الهيئة الاجتماعية للإنسان، وندرك هذا من قول الله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا[المائدة-32].

وهذا يعني أنَّ سيادة المجتمع الإنساني فرعٌ -في ميزان الإسلام- عن سيادة أفراده، وليس العكس، كما هو الحال والواقع لدى النظم الديمقراطية في المجتمعات الماركسية إلى عهدٍ قريب.

إلى هواة العقلانية

مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-
مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-

إلى هواة العقلانية

Loading

إلى هواة العقلانية

س: تزحف على العالم الإسلاميّ موجةٌ باردةٌ من العقلانية من بيئاتٍ انتهى أمرها تماماً بالنسبة إلى المنهج الغيبيّ الروحيّ… فأصبحت لا تدين إلَّا بما يتناوله العقل فقط… ولا تعترف بوعيٍ آخر في الإنسان غير وعي العقل المادِّي وحده. ونحن بصفتنا مؤمنين بقيمة العقل في تنظيم الحركة الإنسانية على أساس المنهج الغيبيِّ الروحيّ… وفي ترتيب الأعمال إلى فاضلٍ ومفضول… ومهمٍّ وأهم… وفي البحث في استخدام الإمكانيَّات المتاحة لنشر العقيدة الروحية التي يخدمها العقل، ولكنَّه يقف عاجزاً أمام أصولها، ثمَّ يبقى وعي العقل الروحيّ فعَّالاً في تدفِّق موجات الإيمان إلى أعماق القلب… أي أنَّنا نلغي العقل حينما يحاول اقتحام المناطق التي تعلو على إدراكه… فكيف نحاول في إقناع هؤلاء الخاضعين للفكر العقلاني المستورد بالفكرة الإسلامية؟ 

ج: الإنسان منَّا بإجماع الناس مكوَّنٌ من مادَّةٍ توجد فيها روح، فتنشأ فيها حياة.

فالروح التي توجد في المادة هي التي توجد فيها الحياة، والحسُّ، والإرادة، والوعي، وكلُّ شيءٍ بدليل أنَّها إذا سلبت منها صارت رمَّةً بالية.

والشيء الذي يدبِّر مادتك، ويحييها، ويجعلها قادرةً على الفكر، واستخدام الطاقة، وغير ذلك، هل تستطيع أن تعرفها وتدركها؟

هنا يقف العقل: لا…

إذن فمخلوقٌ من مخلوقات الله هو في ذاتك ونفسك، وليس بعيداً عنك ومع ذلك لا تستطيع أن تدركه.

فإذا كنت تعجز عن إدراك مخلوقٍ لله، فكيف تريد أن تدرك خالقاً؟ إنَّه لعبث…

ولذلك حين تقول: أين الله؟ نقول لك: أين روحك التي تدرك أنت أنَّها سرُّ حياتك، وسرُّ حركتك؟ أهي في رأسك أم في بطنك أم في قدمك؟

إذن فليس مكانٌ من الجسم أولى منها بمكان… كذلك الحقُّ سبحانه وتعالى ليس مكانٌ من ملكه أولى منه بمكان.

فإذا كان ذلك في أمر مخلوقٍ لله وعجزت عن إدراكه، فكيف تريد وأنت عاجزٌ عن إدراك مخلوقٍ أن تتسامى إلى إدراك الخالق.

التفكير

التفكير
التفكير

التفكير

Loading

التفكير

إنَّ إعطاء المكانة العالية للتَّفكير من أجل الوصول إلى الإيمان أمرٌ يشتهر به القرآن، وغالباً ما يذكره الإسلاميون الغربيُّون، ويرى العديد من علماء الغرب في هذا أنَّه من عيوب القرآن أنَّهم يرون أنَّ الإيمان والعقل غير متوافقين في الأصل. فعلى سبيل المثال يقول لامينز متهكِّماً: إنَّ القرآن (ليس بعيداً عن اعتبار الكفر على أنَّه حالة ضعفٍ في العقل البشري).

إنَّ ردَّة فعل لامينز هنا ثقافيةٌ وعاطفيةٌ أكثر مما هي عقلانية، تنبع جذورها من صراع الغرب الذاتيّ مع الدِّين والعقل، ومع ذلك فليس جميع الباحثين الغربيين في مثل سخريَّته. وفي حين أنَّ مكسيم رودينسون ليس بمدافعٍ عن الإسلام فإنَّه يرى في هذا الجانب من القرآن ما يصبُّ في مصلحة القرآن نوعاً ما. ويكتب رودينسون قائلاً: “إنَّ القرآن يقدِّم باستمرارٍ البراهين العقلية الدَّالَّة على قدرة الله. فمعجزات الخلق، مثل تكاثر الحيوانات، وحركة الأجرام السماوية، والظواهر الكونية، واختلاف أنواع الحيوانات والنباتات، تتناسب وحياة الإنسان بشكلٍ رائع، وهي جميعاً ﴿لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾”.

ويضيف رودينسون: “يتكرَّر الفعل (يعقل) في القرآن حوالي خمسين مرَّة، والذي يعني: (يربط الأفكار بعضها ببعض، يفكِّر، يفهم مناقشة ذهنية). وتطالعنا اللازمة (أَفَلا تَعقِلُون). ويصرُّ القرآن على أنَّه يحتوي على آياتٍ لمن (يُؤتَى الحِكمَةَ)، و(العالِمُونَ)، ولـ(أُولُي الأَلبابِ)، وللَّذين (يَتَفَكَّرُونَ)، وشكوى القرآن الدائمة ضدَّ من يُعرضون عنه هو أنَّهم يرفضون استعمال قواهم العقلية، وأنَّهم يغلقون عقولهم عن التعلُّم. ويسأل القرآن على نحوٍ شكوكيٍّ تقريباً ﴿أَوَلَم يَرَوا إلى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتنا فِيها مِن كُلّ زَوجٍ كَرِيمٍ﴾. 

وغالباً ما يقوم المدرّسون المسلمون في المدارس الإسلامية في العالم أجمع بتذكير طلَّابهم بأوَّل خمس آياتٍ من السورة السادسة والتسعين ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ إنَّ هذه الآيات هي أوَّل خمس آيات تنزَّلت على محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم. فكلمة (اقرأ) توضح لنا أنَّ مهارة التخاطب الكتابيّ هي إحدى النعم السماوية العظيمة لأنَّه عن طريق استخدام القلم علّم الله الإنسان ما لم يعلم.

وهنا يسلط القرآن الضوء مرَّةً ثانيةً على قدرة الإنسان المثالية على التواصل، وهذه المرَّة عن طريق الكتابة، وعلى التعلُّم بشكلٍ جماعيٍّ من جوانب فهم وخبرات الآخرين.

ويشير التكرار في هذه السورة إلى الأهمّية التي يوليها القرآن لبعض المواضيع، ويجب أن نلاحظ أنَّ كلمة (علم) ومشتقَّاتها التي تدلُّ على المعرفة في العربية تتكرَّر في القرآن 854 مرة، وهي من أكثر المفردات وروداً في القرآن. ويجب أن نلاحظ وجود حوارٍ أيضاً في العديد من قصص القرآن بين المؤمن والكافر، ونجد أنَّ موقف المؤمن هو أشدُّ عقلانيةً ومنطقيةً من خصمه لا محالة.    

حرية الرأي والسلوك

مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مربع-
مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مستطيل-

حرية الرأي والسلوك

Loading

حرية الرأي والسلوك

أمَّا حرِّيَّة الرَّأي والسُّلوك: فإنَّ ممَّا لا نعلم فيه خلافـاً، أنَّ صفة التكليف وهي من أخصّ ما تميّز به الإنسان عن سائر الحيوانات لا تتحقَّق إلَّا في مناخ الحرية، فحيثما ملك الإنسان حرِّيَّته في النظر والفكر وحرِّيّة اتِّخاذ القرار تجاه الأفعال والتصرُّفات وتمكَّن من تنفيذ قراراته، تعلّق به التكليف الصادر إليه من قبل الله عزَّ وجلَّ.

ومن هنا قرّر العلماء امتناع تكليف الغافل، وهو الذي لا يدري شيئاً عن الخطاب التكليفي الذي توجّه إليه، كما قرَّروا امتناع تكليف الْمُلجأ، وهو من لا يملك أيَّ خيارٍ في الفعل الذي يصدر منه أو الذي يُطلب منه، كالـذي يُلقى من شاهقٍ على شخصٍ فيقتله.

ومقتضى هذا أنَّ الانصياع لأمر الله لا يتحقَّق إلَّا من خلال إمكان توفُّر الرَّغبة الذاتية في الامتثال لأمره، وهو لا يتأتَّى إلَّا ممَّن علم بـالتكليف المتَّجه إليه أوَّلاً ثم أحسّ من نفسه الحرّية في اختيار أن يفعل أو ألَّا يفعل ما طلب منه ثانياً، وهـذا معنى قولنا:

إنَّ التكليف الإلهيَّ لا تتأتَّى حقيقة الاستجابة له إلَّا في تربة حرّية التَّصرُّف إذ يملكها الإنسان، أي إلَّا لدى شعوره بأنَّه متمكِّنٌ حقَّاً من أن يفعل أو لا يفعل ما طلب منه.

وبهذا يتبيَّن الفرق بين أوامر الله التكوينية التي تصدر إلى مختلف مكوَّناته فتنفَّذ قسراً ودون المرور بأيِّ حرِّيَّةٍ أو اختيار، وأوامره التكليفية التي توجّه خطاباً إلى عبـاده الـذين بلغوا الرشد وتمتَّعوا بالقدرة وحرِّيَّة اتِّخاذ القرار، فيتوقَّف التنفيذ على توفُّر رغبة العبد المكلَّف في الطاعة والانقياد.

وكم هو دقيقٌ وأخَّاذٌ قول الله عزَّ وجلَّ وهو يحدِّثنا عن هـذين النـوعين من أوامره:

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ[الحج-18]

إذن، فقـد كان لا بدّ لعنصر الحرية أن يصاحب واقع التكليف، وبذلك يتضح الانسجام الكامل بين كون الإنسان عبداً مملوكاً لله ومكلَّفا من قِبله بشرائع وأحكام، وبين كونه حرَّاً في الوقت ذاته، أي ممكَّناً من فعل ما يشاء. 

والقرآن مليءٌ بالآيات الصريحة في بيـان أنَّ الإنسان يملـك في هذه الدنيا كامل حرِّيَّته في أن ينصاع أو لا ينصاع لأوامره عزَّ وجلَّ، سواء منها ما يتعلَّق بالفكر والاعتقاد أو السلوك والتصرُّفات. 

من ذلـك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف-29]، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة-256]

وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ *  ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ[الحجر-2,3]،

وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ۖ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ[ق-45]

فإذا تحوَّلنا من الإصغاء إلى هذا البيان القاطع في دلالاته على أنَّ الإنسان حرٌّ في أن ينفِّذ التكاليف المـوجَّهة إليه أو ألَّا ينفِّذها إلى التأمُّل في التجربة العملية التي سجَّلها تـاريخ المجتمعات الإسلامية بدءاً من صدر الإسلام؛ نجد مصداق هذا البيان الإلهيّ على أتمّ وجه. 

كان الرأي الآخر بل الآراء الأخرى تعلن عن نفسها بصريح البيان في سائر الأمكنة والمجالات وفي مقدِّمتها المساجد التي كانت الموئل الأوَّل للثَّقافات والعلوم. 

ففي عصر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كانت الـدعوة الإسلامية التي يقودها عليه الصلاة والسلام قائمةً على أساس الحوار المنبثق عن ضرورة الإصغاء إلى سائر الآراء الأخرى، فإمَّا أن ينتهي الحوار إلى هدايةٍ ورفاق، وإمَّا أن يظلَّ أصحاب المذاهب والآراء الأخرى متمسِّكين بقناعاتهم أو عصباتهم، فما يزيد المصطفى عليه الصلاة والسلام على أن يختم الحوار بالإعذار بأنَّه قـد بلَّغ… 

ثمَّ يَكِل الشاردين والتَّائهين والمعـانـدين إلى أنفسهم وقـد حمَّلهم مسؤولية جنوحهم، وبوسعنا أن نطلع على أسمى صورةٍ لهذا الحوار في كتاب الله تعالى في سورة آل عمران، وهو يحدِّثنا عن وفد نصارى نجران والحوار الممتدّ بينهم وبين رسول الله في مسجده. 

وفي القرن الثاني اتَّسعت الفتوحات الإسلامية، وتسرَّبت الفلسفة الإغريقيَّة إلى بعض المجتمعات الإسلاميَّة، وانتشرت فيها ثقافاتٌ وأفكارٌ مختلفةٌ لدياناتٍ ومذاهب شتَّى، فكان أن ظهرت من جرَّاء حرِّيَّة الفكر والنَّظر والبحث فرقٌ إسلاميَّةٌ جانحة، وسرعان ما راحت تتكاثر ويتوالد بعضها من بعض، كالمعتزلة والمرجئة والقدرية والجبرية والخوارج… وراح كلٌّ منها يجادل عن نفسه في كلِّ مجالٍ، وبكلِّ صراحةٍ وقوَّة.

لقد كانت حلقات هذه الفرق تمتزج بحلقات أهل السُّنَّة والجماعة في مسجد البصرة والكوفة، وتتعالى أصوات الجـدل والحوار بين الأطراف والفئات في حرِّيَّةٍ تـامَّةٍ وطمأنينـةٍ كاملةٍ، ولم يكن لأئمَّة المسلمين في ذلك إلَّا دورٌ واحدٌ هو تشجيع الحوار وإقامة المزيد من مجالس النقاش بين ذوي الأفكار والمذاهب المختلفة. 

 نعم، لم يكن المسلمون الملتزمون بهدي الكتاب والسُّنَّة يألون جهداً في الـدعوة والصَّدع بكلمة الحقّ، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وملاحقة ذوي الأفكار الجانحة بالحجج العلمّية الدامغة، وذلك هو واجب المسلمين الصادقين في كلِّ عصر. 

وبالجملة، فإنَّ هيـاج تلـك الفرق المتكاثرة إنَّما كان بسبب وفرة مناخ الحرية وإمكانية التعبير المعلَّن عن الفكر والعقيدة…

ثمَّ إنَّ خمود ذلك الهياج وذوبان تلـك الفرق إنَّما كان بسبب قيام علماء المسلمين بواجب الدَّعوة والحوار والثَّبات على التنفيذ الصَّادق والدَّقيق لأمر الله تعالى القائل: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ[النحل-125]، ولم يكن نتيجةً لأيِّ قمعٍ أو خنقٍ لأصوات تلك الفرق أن تعبر عن رأيها أو تُدلي بحجَّتها.

ولعل ما يزيد هذه الحقيقة نصاعةً ووضوحاً ما هو معلومٌ من أنَّ الصورة الوحيـدة للقمع الفكريّ في تاريخ السَّلف الصالح إنَّما صدرت من أقلِّيَّةٍ مذهبيةٍ شاذَّةٍ وهي المعتزلة ضدّ الجمهرة الإسلامية التي تمثلت آنذاك في إمامٍ من أجَلِّ أئمَّة المسلمين وهو الإمام أحمد، بينما كانت الجمهرة الإسلاميَّة لا تستعمل إلَّا سلاح المناقشة والحوار.

فزنا بسعادة الدنيا وفزتم بالأوهام

مصطفى محمود
غلاف مصطفى محمود

فزنا بسعادة الدنيا، وفزتم بالأوهام

Loading

فزنا بسعادة الدنيا، وفزتم بالأوهام

– قال صاحبي… وكانت في نبرته فرحة رجلٍ منتصر:

مهما اختلفنا، ومهما طال بنا الجدل فلا شكَّ أنَّنا خرجنا من معركتنا معكم منتصرين، فقد فُزنا بسعادة الدنيا وخرجتم أنتم ببضعة أوهامٍ في رؤوسكم، وماذا يجدي الكلام وقد خرجنا من الدنيا بنصيب الأسد فلنا السهرة والسكرة والنساء الباهرات والنعيم الباذخ واللذات التي لا يعكِّرها خوف الحرام، ولكم الصيام والصلاة والتسابيح وخوف الحساب، فمن الذي ربح؟

– هذا لو كان ما ربحتموه هو السعادة، ولكن لو فكَّرنا معاً بهدوءٍ لما وجدنا هذه الصورة التي وصفتها عن السهرة والسكرة والنساء الباهرات والنعيم الباذخ واللَّذَّات التي لا يعكِّرها خوف الحرام لما وجدنا هذه الصورة إلَّا الشقاء بعينه.

الشقاء… وكيف؟

لأنَّها في حقيقتها عبوديةٌ لغرائز لا تشبع حتَّى تجوع، وإذا أتخمتها أصابها الضجر والملال، وأصابك أنت البلادة والخمول، هل تصلح أحضان امرأةٍ لتكون مستقرَّ سعادةٍ، والقلوب تتقلَّب والهوى لا يستقر على حال، والغواني يغرهن الثناء. وما قرأنا في قصص العشَّاق إلا التعاسة فإذا تزوَّجوا كانت التعاسة أكبر وخيبة الأمل أكبر لأنَّ كلَّاً من الطرفين سوف يفتقد في الآخر الكمال المعبود الذي كان يتخيَّله، وبعد قضاء الوطر وفتور الشهوة يرى كلُّ واحدٍ عيوب الآخر بعدسةٍ مكبَّرة. وهل الثراء الفاحش إلَّا عبوديةً إذ يضع الغني نفسه في خدمة أمواله، وفي خدمة تكثيرها وتجميعها وحراستها، فيصبح عبدها بعد أن كانت خادمته، وهل السلطة والجاه إلا مزلقٌ إلى الغرور والكبر والطغيان.

وهل راكب السلطان إلَّا كراكب الأسد، يوماً هو راكبه، ويوماً هو مأكوله. وهل الخمر والسكر والمخدرات والقمار والعربدة والجنس بعيداً عن العيون وبعيداً عن خوف الحرام سعادة؟ وهل هي إلَّا أنواعٌ من الهروب من العقل والضمير وعطش الروح ومسؤولية الإنسان بالإغراق في ضرام الشهوة وسعار الرغبات. وهل هو ارتقاءٌ أم هبوط إلى حياة القرود وتسافد البهائم وتناكح السوائم؟ صدق القرآن إذ يقول عن الكفار أنَّهم:

﴿والذِيْنَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُوْنَ وَيَأَكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوَىً لَهُمْ[محمد-12].

فهو لم ينكر أنَّهم يتمتَّعون ولكن كما تتمتَّع الأنعام، وكما ترعى السوائم، وهل هذه سعادة؟ وهل حياة الشهوة تلك إلَّا سلسلةً من الشَّبق والتوتُّرات والجوع والتخمة الخانقة ولا تمتّ إلى السعادة بسبب.

وهل تكون السعادة الحقَّة إلَّا حالةً من السلام والسكينة النفسية والتحرُّر الروحي من كافَّة تلك العبوديات.
وهل هي في تعريفها النهائي إلَّا حالة صلح بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والآخرين، وبين الإنسان والله… وهذه المصالحة والسلام والأمن النفسيّ لا تتحقَّق إلَّا بالعمل… بأنَّ يضع الإنسان قوته وماله وصحَّته في خدمة الآخرين، وبأن يحيا حياة الخير والبرّ نيَّةً وعملاً، وأن تتَّصل العلاقة بينه وبين الله صلاةً وخشوعًا فيزيده الله سكينةً ومدداً ونوراً… وهل هذه السعادة إلَّا الدين بعينه… ألم يقل الصوفيّ لابس الخرقة… نحن في لذَّةٍ لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف… والذين عرفوا تلك اللَّذَّة… لذَّة الصلة بالله والصلح مع النفس… يعلمون أنَّ كلام الصوفيّ على حقّ.
– ألم تكن مثلنا من سنواتٍ تسكر كما نسكر وتلهو كما نلهو وتسعد هذه السعادة الحيوانية التي نسعدها، وتكتب الكفر بعينه في كتابك (الله والإنسان) فتسبق به إلحاد الملاحدة، فماذا غيَّرك من النقيض إلى النقيض؟
– سبحانه يغيِّر ولا يتغيَّر.
– أعلم أنَّك تقول أنَّ كلَّ شيءٍ بفضل الله… ولكن ماذا كان دورك؟ وماذا كان سعيك؟ 

– نظرت حولي فرأيت أنَّ الموت ثمَّ التراب نكتةٌ وعبثٌ وهزلٌ، ورأيت العالم حولي كلَّه محكماً دقيقاً منضبطاً لا مكان فيه للهزل ولا للعبث… ولو كانت حياتي عبثاً كما تصوَّر العابثون ونهايتها لا شيء… فلماذا أبكى؟ ولماذا أندم؟ ولما أتحرَّق وألتهب شوقـاً على الحقّ والعدل، وأفتدى هذه القيم بالدَّم والحياة.
رأيت النجوم تجرى في أفلاكها بقانون… ورأيت الحشرات الاجتماعية تتكلَّم، والنباتات ترى وتسمع وتحسّ… ورأيت الحيوانات لها أخلاق… ورأيت المخَّ البشرىَّ عجيبة العجائب، يتألَّف من عشرة آلاف مليون خطٍّ عصبيٍّ تعمل كلُّها في وقتٍ واحدٍ في كمالٍ معجز… ولو حدث بها عطل هنا أوهناك لجاء في أثره الشلل والعمى والخرس والتخليط والهذيان، وهي أمورٌ لا تحدث إلَّا استثناءً… فما الذي يحفظ لهذه الآلة الهائلة سلامتها؟ ومن الذي زوَّدها بكلِّ تلك الكمالات؟

ورأيت الجمال في ورقة الشجر، وفي ريشة الطاووس، وجناح الفراش، وسمعت الموسيقى في صدح البلابل وسقسقة العصافير، وحيثما وجَّهت عيني رأيت رسم رسَّامٍ وتصميم مصمِّمٍ، وإبداع يدٍ مبدعة.
ورأيت الطبيعة بناءً محكماً متكاملاً تستحيل فيها الصدفة والعشوائية… بل كلُّ شيءٍ يكاد يصرخ، دَبَّرني مدبِّرٌ، وخلقني مبدعٌ قدير.
وقرأت القرآن فكان له في سمعي رنينٌ وإيقاعٌ ليس في مألوف اللغة، وكان له في عقلي انبهار، فهو يأتي بالكلمة الأخيرة في كلِّ ما يتعرَّض له من أمور السياسة والأخلاق والتشريع والكون والحياة والنفس والمجتمع رغم تقادم العهد على نزوله أكثر من ألفٍ وثلاثمئة سنة، وهو يوافق كلَّ ما يستجدُّ من علومٍ رغم أنَّه أتى على يد رجلٍ بدويٍ أميٍّ لا يقرأ ولا يكتب في أمَّةٍ متخلِّفةٍ بعيدةٍ عن نور الحضارات، وقرأت سيرة هذا الرجل وما صنع، فقلت: بل هو نبي، ولا يمكن أن يكون إلَّا نبيَّاً، ولا يمكن لهذا الكون البديع إلَّا أن يكون صنع الله القدير الذي وصفه القرآن ووصف أفعاله.
قال صاحبي بعد أن أصغى باهتمامٍ إلى كلِّ ما قلت، وراح يتلمَّس الثغرة الأخيرة:
– فماذا يكون الحال لو أخطأت حساباتك وانتهيت بعد عمرٍ طويلٍ إلى موتٍ وترابٍ ليس بعده شيء؟
– لن أكون قد خسرت شيئاً، فقد عشت حياتي كأعرض وأسعد وأحفل ما تكون الحياة، ولكنَّكم أنتم سوف تخسرون كثيراً لو أصابت حساباتي وصدقت توقُّعاتي، وإنَّها سوف تكون مفاجئةً هائلةً يا صاحبي.
ونظرت في عمق عينيه وأنا أتكلَّم، فرأيت لأوَّل مرَّةٍ بحيرةً من الرعب تنداح في كلِّ عينٍ، ورأيت أجفانه تطرف وتختلج.
كانت لحظةً عابرةً من الرعب، ما لبث أن استعاد بعدها توازنه، ولكنَّها كانت لحظةً كافيةً لأدرك أنَّه بكلِّ غروره وعناده ومكابرته واقفٌ على جرفٍ من الشكِّ والخواء والفراغ وممسكٌ بلا شيء.
قال لي بنبرةٍ حاول أن يشحنها باليقين:
– سوف ترى أنَّ التراب هو كلُّ ما ينتظرك وينتظرنا.
– هل أنت متأكد.
وللمرَّة الثانية انداحت في عينيه تلك البحيرة من الرعب.
قال وهو يضغط على الحروف وكأنَّما يخشى أن تخونه نبراته:
– نعم…
قلت: كذبت، فهذا أمرٌ لا يمكن أن نتأكَّد منه أبداً.

وحينما كنت أعود وحدي تلك الليلة بعد حوارنا الطويل كنت أعلم أنِّى قد نكأت في نفسه جرحاً، وحفرت تحت فلسفته المتهاوية حفرةً سوف تتَّسع على الأيام، ولن يستطيع منطقه المتهافت أن يردمها.
قلت في نفسي وأنا أدعو له: لعلَّ هذا الرعب ينجيه، فمن سدَّ على نفسه كلَّ منافذ الحق بعناده لا يبقى له إلَّا الرعب منفذًا.
وكنت أعلم أنِّى لا أملك هدايته، ألم يقل الله لنبيه:
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [القصص- 56].
ولكنّى كنت أتمنَّى له الهداية، وأدعو له بها فليس أسوأ من الكفر ذنباً ولا مصيراً. 

فساد الأمم

مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مربع
مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مستطيل

فساد الأمم

Loading

فساد الأمم

الرجل الكبير يحفظ شرفه، ويسفك في صيانته الدم، والمؤمن الحرُّ يحمى عرضه، ويبذل دونه الروح، وقد جاء في الحديث: «إنَّ الله يغار وإنَّ المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرَّمه الله». 

إنَّ الله عزَّ وجلَّ يغضب على من يُقارِف محارمَه، وعلى من يستهين بحدوده، فإذا ارتكب أحدٌ معصيةً أو أهمل فريضةً، فلا تحسبنَّ أنَّه أتى أمراً سهلاً لقد اقترف جريمة يستحقُّ بها العقوبة، وخاصم ملكاً شديد البطش أليم الأخذ، والشخص العاصي شذوذٌ في ملكوتٍ يسبِّح بحمد بارئه، ويخضع لأمره، ونكتةٌ سوداء متمرِّدةٌ في عالم يسجد لله طوعاً أو كرهاً، ويستمدُّ منه حياته وبقاءه، لحظةً بعد أخرى. 

وذلك العوج في الكون المستقيم على أمر الله هو الذي يجعل الأرجاء توشك أن تنقضَّ على العاصي فتُخفي رسمه ووسمه. 

﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ[سبأ_9]

ولولا أنَّ رحمة الله تغلب غضبه، وأنَّه يمهل الخاطئين ليمنحهم فرصة المتاب وينسأ لهم في الأجل، ويمدَّ لهم في الحياة كي يرجعوا إلى الله بخيرٍ يرشِّحهم لعفوه… لولا هذا لسلَّط عليهم عذاب الاستئصال. 

﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر_45].  

﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى[طه_129].

ومع هذا الإرجاء، فإنَّ المجرمين قد يواقعون مآسي تستعجل النقمة، فإمَّا أن يسرع الله بعقابهم عدلاً في الحكم وإصلاحاً للأرض، وإمَّا أن يتدرَّج في إيقاع الجزاء الدنيوي بهم، لعلَّ هذه الأخذات المحدودة توقظ ما نام من ضمائرهم، إلى طريق الرشاد مرَّةً أخرى. 

﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ(45)أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ(46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (47)[النحل_45].

الأصل أنَّ الخطيئة تفعل أوَّلاً في خفاءٍ واستحياء، ثمَّ تفعل في جفاءٍ وبرود، ثمَّ تولد في المجتمع فتبرز بوجهها الكالح، فإذا وجدت بيئةً مواتيةً استوت على قدميها فتفعل الخطيئة دون تكبُّر. 

ثمَّ يشتدُّ عودها وتصلب فتشيع وتنتشر، ولا تزال دائرتها تنداح حتَّى تصبح تقليداً متَّبعاً، فإذا ظهرت الفضيلة المناوئة لها 

استكثر حقّ الحياة والاستقرار عليها. 

مثلما وقع في قرى المؤتفكة! فإنَّ الرِّجال الذين استمرؤوا الشذوذ الجنسيَّ عزَّ عليهم أن يقوم فيهم ناصحٌ ينهاهم عنه! وكان صوت هذا الناصح من الغرابة بحيث هدَّده المجرمون بالرَّجم إن لم يسكت، فلمَّا أبى إلَّا إعلان سخطه والبراءة من عملهم تقرَّر طرده من البلد الفاسق، لأنَّه متطهِّرٌ خارجٌ على القانون! 

والبلد الذي تصل فيه الأوضاع إلى هذا الدرك السافل لابدَّ من أن تحلَّ به العقوبة العدل، وما تقوم لأهله عند الله حجَّةٌ، أو ينهض لهم عذر. 

إنَّ الإسلام بادي الصرامة في محاربة الرذائل لا يفتر عن مهاجمتها، ولا تنكسر حدَّته في مطاردتها.

على أنَّ الإسلام يفرِّق بين نوعين من المعاصي: 

النوع الأول: ذاك الذي ينزلق إليه البشر وهم شبه مغلوبين على إرادتهم وإدراكهم، في أوقات الضعف التي تلمُّ أحياناً بالإنسان فيزلّ، وما يكاد يسقط حتَّى ينهض، وما يكاد يحسُّ لذَّة الهوى حتى تنغِّصه آلام الندم.

هذا النوع من المخالفة لأمر الله يتلطَّف القرآن في مداواته، ويأخذ بيد صاحبه ليعاود نشاطه الأول في أداء حقوق الله وإنفاذ وصاياه. 

والتجمُّعات التي تنجم فيها هذه المعاصي -ولا يخلو مجتمعٌ بشريٌّ من غبارها- لا تستهدف لعقابٍ عام ولا تسقط،

إنَّها تشبه أيَّ حقلٍ زرعه صاحبه قُطناً أو قمحاً فتنبت فيه أعشاب وحشائش لم يقصد ظهورها، بل إنَّه يعمل بهمَّةٍ في اقتلاعها وحماية زراعته منها. 

وفى سورٍ كثيرةٍ من الكتاب الحكيم نرى المولى تبارك اسمه يتجاوز عن هذه السيئات ويعلن سعة رحمته لمن يلمُّون بشيءٍ منها. 

أمَّا النوع الأخير: فهو ذلك الشرُّ المتعمَّد المستقرُّ الذي تتواطأ الجماعة على فعله، وتتعاهد نماءه، وتجعل بقاءه جزءاً من حياتها، وتقيم العرف العام والتشريع الماديَّ والأدبي على أساس منه. 

كالمجرم الذي يزرع أرضه بشجر الحشيش والأفيون، ويبقى طول السنة يتعهَّد ما غرس، وهو يعي أتمَّ وعيٍ ما سوف يقدِّم للنَّاس من سموم. 

هذا النوع من العصيان لأوامر الله، والإهدار لحدوده، هو الذي نزلت الآيات بأعنف الترهيب منه، ووصفت بإيضاحٍ مصائر الذين رتعوا فيه، وهي مصائر مشؤمةٌ يكتنفها الخراب والدمار، وحذَّرت الأخلاف أن يسيروا نحو الهاوية التي انزلق إليها أسلافهم.

﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ۚ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [الأعراف_100].

إنَّ الأمم الفاسدة تلتقي في أحوالها نعوتٌ واحدةٌ، قسوةٌ لا ترِقُّ لضعفٍ، وجحودٌ لا يكترث بوعظ، وعكوفٌ على الدنيا لا يهتمُّ لما بعدها، ونسيانٌ لله لا يبالي بحقِّه. 

وبقاء الأمم بهذه المثابة بلاءٌ على العالم، وعلى العمران، وعلى المثل العليا، وضربات القدر القاصمة عندما تنزل بها تكون كحكم الإعدام عندما ينفَّذ في مجرمٍ أثيم.

﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ[القصص_58].

والخوف من الإبقاء على هذه الأمم، سرُّه الحرص على إنشاء أجيالٍ أسلمَ فطرةً وأقوم قيلاً.

ولذلك ترى القرآن الكريم يُكثر من عرض حياتها وعملها وعقباها، حتَّى يمكن إيجاد أخلافٍ أتقى أفئدةً، وأزكى مسلكاً، ويقلِّبها بين صنوف السَّرَّاء والضَّراء حتَّى تعقل وترعوي… أو ينبت خلالها من يعقل ويرعوي. 

وكم أخشى على الناشئة التي تنمو الآن في الشرق الإسلامي؟ 

إنَّها تشبه خضراء ((الدِّمَن)) في حسن منظرها، وسوء مخبرها، وخضراء الدِّمَن تربو على الأقذار كما تربو البهائم الجلالة على التقاط القمامة، فترى شكلها جميلاً، وطعمها مريراً! 

واليوم نبصر أقواماً شاهت طباعهم يظنُّون سعة الثقافة في سرعة الإلحاد، وحرِّيَّة الفكر في هوان الإرادة واستمراء الشهوات، والتقدُّم المستحبُّ هو البعد عن فرائض الله؛ من صلاةٍ وصيامٍ، بل الاندهاش لرؤية المصلِّين والصُّوَّام! 

وتسمع أولئك العلوج وهم يتكلَّمون عن وجوب فتح حانات الخمور، وتهيئة صالات العهر، لأنَّ موارد السياحة ستنضب إن لم يقدَّم للسائحين المسكر الذي يشربون، والمرأة التي يشتهون! فتجزم بأنَّك أمام أمساخ خلقٍ وأنصاف أو أعشار بشر! 

وقد أسلفنا القول إنَّ بلوغ المعصية هذه المنزلة إيذانٌ بنقمة الله

وإنَّنا لنتشاءم من مستقبل أجيالٍ تحيا وسط هذا الركام الكثيف من سوء الفهم والتوجيه، وما نراها أبداً تصلح لحمل الأعباء أو مخاصمة الأعداء!

ويجمل بي أن أثبت هنا إجابةً على سؤالٍ بعث به المعنيُّون بالنشاط الاجتماعي في ((كلية التجارة، جامعة عين شمس)). 

وهو: «يجتاز الشباب فترة قلقٍ نفسيٍّ لا يستطيع معها تحديد أهدافه، ولا رسم مُثُله العليا، فما الأسباب التي ترونها داعيةً إلى ذلك؟ وما العلاج الذي تقترحونه؟». 

وقد ألَنَّا القول في هذا الجواب، وأضعفنا حدَّته، ولجأنا إلى التلميح بدل التصريح، والخفوت بدل المجاهرة، لعلَّ هذا التلطُّف يُجدي! 

وهاك البيان: 

إنَّ فترة القلق التي يعانيها الشباب نتيجةٌ طبيعيةٌ لجملة أسبابٍ تجمَّعت في حياتهم كان لابدَّ أن تترك آثارها في أنفسهم على ذلك النحو الذي جزع له المصلحون، وشرع في تفهُّمه ومداواته لفيفٌ منهم. 

ومن واجب المسؤولين عن قيادة الشباب أن يلتمسوا الدَّواء لهذه العلل، فإنَّ الشباب الذي لا هدف له، إمَّا أن يقف في مكانه مبلبل الخواطر مشتَّت المشاعر، وإمَّا أن يخبط في الحياة على غير هدى، وبذلك يبدِّد قواه عبثاً ويضيعها سُدى! 

وكلا الأمرين خطرٌ على مستقبل الفرد والجماعة. 

وهنا يجيء السؤال: ما سرُّ هذا الفراغ النفسيّ، وما يتبع ذلك الفراغ من خلخلةٍ وحيرة؟

والجواب يفرض علينا أن نتأمَّل طويلاً في الأغذية المعنويَّة والروحية التي تُهيَّأ للشباب، وتعمل عملها في قلبه ولبِّه! 

ومن اليسير أن نحصر هذه الأغذية في مصدرين اثنين:

أوَّلهما: ما يقدَّم خارج الفصول والمدرَّجات، أعني بعيداً عن معاهد الدراسة وتوجيهات الأساتذة. 

والآخر: ما يقدَّم خلال مراحل التعليم المختلفة من بداية الصفوف الدنيا، إلى أن يترك الطلَّاب جامعاتهم ويواجهوا الحياة العملية. ونستطيع القول في إجمالٍ وتعميم: إنَّ كلا المصدرين فقيرٌ في المواد التي تكوِّن العقائد الدافعة، والتي ترسم الغايات البرَّاقة، والتي تحشد المشاعر وتحكم العزائم، وتشحذ الهمم، وتُغري باقتحام المجهول، والجرأة على الغيوب دون وجلٍ ولا تهيُّب. 

والإنسان من غير عقيدةٍ تعمر فؤاده… هذا الإنسان كمٌّ مهملٌ، وحركةٌ موضعيةٌ، إن لم تكن حركةً انسحابيةً إلى الوراء. 

والشبـاب الذي لا عقيدة له، أو الذي يحمل عقيدةً منفصلةً عن شعوره وعن تفكيره، لا يمكن إلَّا أن يحيا قلقاً، وإلَّا أن تمتلكه الحيرة، ويستولى عليه التردُّد، وهو يرمق مستقبله بخَوَرٍ وارتباك! 

ولنلق على الموضوع كلِّه نظرةً أعمق. 

ما الأهداف التي تغرسها في الشباب حياتنا العامة؟

أستعرض على عجلٍ، ما تنشره الصحف اليومية والأسبوعية، وما يذيعه الراديو على موجاته الطِوَالِ والقِصَار، وما تعرضه السينمات والمسارح، إنَّ هذا الاستعراض السريع يجعلك تحكم على البديهة بأنَّ الأغذية المعنوية التي تقدِّمها هذه الجهات الثلاث، بعضها تافهٌ غثٌّ، لا يُسمن ولا يُغني من جوع، وبعضها سمومٌ تفتك بالعافية الروحية، وتنشر في أفاق الشبان ظلالاً سوداً للتحلُّل والميوعة.    

إنَّ الدول في كثيرٍ من الأحيان توجِّه اقتصادها لخدمة مصالحها القومية العليا وترسم لذلك سياسةً دقيقةً تلزم الجميع بتنفيذها والرضا بأثارها.

فهل هناك أدبٌ صحافيٌّ موجَّهٌ، أو فنٌّ مسرحيٌّ موجَّهٌ، أو برامج إذاعيَّةٌ موجَّهةٌ تتضافر كلُّها على تكوين جيلٍ ناضجٍ مُكتمل الوعي، نيِّر الفكر، صلب الإيمان، واضح الهدف، قويِّ العقيدة؟  

إنَّني أمدُّ بصري اليوم في غير تكلُّفٍ إلى صحيفة الأهرام فأجد هذا العنوان مكتوباً على مساحة أربعة أعمدة بخطٍّ كبير: ((ليندا… مازالت تحبُّ نايرون باور))! 

يا الله! أَبَلَغ هوان قرائنا إلى حدٍّ العناية بهذا السخف! 

وإذا فرضنا أنَّ بعض السفهاء يهتمُّ بذلك النبأ، فهل رسالة الصحافة أن تقوِّم ذلك العِوَج النفسيَّ أم تنمِّيه! 

وقل مثل ذلك في الصور العارية والأخبار المثيرة…

إنَّ صحافتنا تنشئ الدنايا إنشاءً؛ لتفسد بها الضمائر الساذجة.   

وهل تتبَّعت ما يطلبه المستمعون في إذاعتنا؟ 

الغريب أنَّ أحداً من أولئك الطالبين لم يرغب في سماع أغنيةٍ قوميَّةٍ كقصيدة فلسطين مثلاً، أو أغنيةٍ جادَّةٍ ذات موضوع نبيلٍ وغايةٍ سامية! 

الزحام كلُّه على الألحان الطرية، والأنغام العليلة، والأصوات الخبيثة التي لا تملُّ الشكوى من الهجر والخصام! 

فهل وظيفة الإذاعة بثُّ الهيام وإقلاق المنام وراء الحبيب المدلَّل! 

أليس هناك توجيهٌ أعلى يرفع المستوى النازل، ويحيي في النفوس ملكاتها الطيبة؟ 

ثمَّ ألمحُ الروايات التي تمثل أحلام الكبت، أو التي تحسم وساوس الغريزة، والروايات التي تجعل طريق الفضيلة عسِر السلوك مبهم النتائج، أو التي تهوِّن الخيانات وتحلِّي مذاق الرذائل! 

إنَّ عرض هذه الروايات في السينما أو المسرح لا يمكن أن يأتي بخيرٍ أبداً، بل إنَّ الشرور المتولِّدة عنه فوق الحصر. 

والشباب الذي تُحاصره هذه العلل كلُّها قلَّما تواتيه فرصُ الإفلات من غوائلها. 

ومن ثمَّ فهو يعجز حتماً عن تحديد أهدافه ورسم مثله العليا، وهناك خللٌ أخر في حياتنا العامة: ندرة المؤسَّسات الاجتماعية التي تنمِّي في الشباب نزعات العمل الكريم، وتنفِّس عن رغبته الكامنة في الامتداد والحركة، وتتلطَّف في توجيهه إلى الواجب المرتقب منه. 

نعم، هناك أنديةٌ رياضيَّةٌ تقوِّي الأبدان، وتيسِّر أنواع اللعب، وتخلق العضلات المكتنزة. 

لكن ما جدوى صناعة الأجسام المفتولة إذا لـم تملأ هذه الأجسام نفوسٌ مُشرقةٌ بالأمل الصحيح، توَّاقةٌ إلى الكدح في سبيل الله والناس! 

إنَّ إيجاد هذه المؤسَّسات أمرٌ لا محيص عنه إذا أردنا الخير لأمَّتنا عامَّةً ولشبابنا خاصَّةً. 

والآن، لنترك ما وراء جدران المدرسة، ولندخل المدرسة نفسها…

إنَّ البرامج التي تدرَّس كثيرةٌ ومنوَّعة، والجهود التي تنفق في شرحها وتثبيتها مشكورة، بيد أنَّ العلم وحده مهما زاد، والثقافة مهما اتَّسعت، لا تكوِّن شخصيَّةً متكاملةً ناضجة.

  وقد تتراكم المعلومات في ذهن الطَّالب كما تتراكم السلع في مخزن تاجرٍ لا يُحسن العرض، أو لا يريد البيع!

أو كما تستعدُّ السيارة للانطلاق لسلامة آلاتها ووفرة بترولها، ولكنَّها تفقد السائق الذي يتولَّى قيادها ويتَّجه بها حيث يشاء!

 ما قيمة العلم الميت في نفوسٍ جاهليَّة! ما قيمة الدروس المستوعبة إذا كانت هذه الدروس معزولةً عن الحياة الخاصَّة والعامَّة يدَّخرها صاحبها في ذاكرته فحسب، ثمَّ هو يهدأ أو يتحرَّك ويفتر ويتحمَّس بعوامل أخرى؟ 

إنَّ العلم لابدَّ أن تصحبه تربيةٌ دقيقةٌ، لابدَّ أن تصحبه أخلاقٌ موجَّهةٌ، لابدَّ أن تصحبه معنويَّاتٌ رقيقة. 

والتربية المنشودة ليست دروساً تُلقى، إنَّما هي جوٌّ يُصنع، وإيحاءٌ يغزو الأرواح باليقين الحيّ والعزيمة الصادقة. 

ونعود إلى ما بدأنا الحديث به، نعود إلى توكيد الحاجة الماسَّة إلى العقيدة، فإنَّ الإيمان يصنع العجائب، ويخلق وسائل النجاح من بين طيَّات العدم واليأس…

وإذا اعترفنا بأنَّ النهضات لا تنجح ولا تُثمر إلَّا إذا قامت على إيمانٍ راسخ، ويقينٍ جازم، فبقي أن نبحث من أين نجيء بالعقيدة التي نفتقر إليها.

  أَنَتَسوَّلُها من خارج بلادنا؟ أَنَسْتَوردُها من هناك بثمنٍ غالٍ أو زهيد؟

 أم نعود إلى تاريخنا ومقوِّمات حضارتنا لنتعرَّف الركائز التي نبني فوقها ونُعلي البناء؟ إنَّني شخصياً لا أتردَّد في الاختيار، وإنَّني أوقن بأنَّ القلق النفسيَّ، والاضطراب الذِّهنيَّ، وغموض الأهداف، وخفاء المثل الرفيعة… كلُّ هذا سوف يزول إذا وصَلنا الشاب بتاريخه العتيد، وملأنا قلبه بالروحانية السَّمحة، واليقين النقيّ، والخلق الجاد.

سر الفساد في العالم

مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-
مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-

سرُّ الفساد في العالم

Loading

سر الفساد في العالم

س: ما هو السرُّ في الفساد المنتشر بين الأمم الفقيرة والأمم الغنية على السواء… نريد الأسباب الرئيسية، لا الأسباب الفرعية، 

حتَّى يمكن علاج الداء من أساسه، لا علاجه من ظاهره وهو باقٍ في ضمائر أممٍ يفتك بها فتكاً ذرياً، لا سيما وأنَّ كلام المفكِّرين قد كثر وطال حتى غطَّى على الحقائق؟ 

ج: يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ[إبراهيم28].

 فالذين أحلُّوا قومهم دار البوار هم الذين بدَّلوا نعمة الله كفراً… ومعنى تبديل نعمة الله كفراً: هو ستر النعم. 

وذلك بالكسل عن البحث عنها… أو باستنباطها وحجزها عن الغير، وذلك هو الظلم.

إذن فالفساد ناشئٌ عن أمرين:

١ – الكسل عن استنباط خير الله في الوجود. 
٢ – استنباط بعض الموهوبين للخير، ثم حجز أصحاب الحقوق عن حقوقهم. 

إذن حينما يقول الله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[النحل112].

فهو يبيِّن أنَّ سبب الجوع والخوف في العالم هو كفر نعمة الله، أي سترها بالكسل عن استخراجها، أو باستخراجها وحبسها عن أصحاب الحقوق. 

ثمَّ وجدنا المفكِّرين يقولون: إنَّ الفساد جاء من ناحية قصور المواد اللازمة للحياة… وقالوا: لابدَّ من أن يأخذ الأهمَّ فالأهمّ ولابدَّ من تحديد النسل.

ونقول لهم:

لا، إمَّا أنَّكم كسالى عن استنباط الخير من الوجود، وإمَّا أنَّكم ظالمون في توزيع الخير الذي وصل إليه قومٌ من الوجود… ولو أنَّ الناس استراحوا على هذه الحلول لكان من الممكن أن نفهم منهج الله بالقصور… لكن ما دام الناس لم يستريحوا على هذه الحلول، وازداد القلق والخوف في الدنيا فلابدَّ أن يكون هناك انحرافٌ عن منهج الحـياة كما رسمه الله تعالى. 

إذن لكي يعود إلى العالم أمنه وسلامه واطمئنانه وسعـادته لابدَّ أن يحدِّد مهمَّته من الإيمان، وبعد ذلك يأخذ منهجه بعد الإيمان بالعمل الصالح… والعمل الصالح سيعرض المصلحين أو العاملـين للإصلاح لمتاعب، فقد تخور النفوس وتكسل عن مواصلة العمل الصالح… ولابدَّ في هذه الحالة من استدامة التواصي بالحقِّ وبالصبر… وعدم التواصي بالحقّ وبالصبر هو الذي يشبع الأسرة في الظلم. 

والتواصي بالحقِّ سيتعب أهله، وسينال المتواصين بالحقِّ متاعب من الظالمين، ومن هنا وجب التواصي بالصبر، وإن لم نصبر على الحقِّ فلن توجد الأسوة للثبات على الحقِّ عند أيِّ أحد… وإذا كانت ريح الظلم تصرفنا عن الحقِّ فستنطفئ معالم الحقِّ. 

إنَّ الذي جعلَ الحقيقةَ علقماً                                 لم يُخلِ من أهل الحقيقة جيلا

ولـربَّمـــا قـتـل الغـــرامُ رجــــالهــــــــــــــــــــــــا                     قُتِلَ الغــــرامُ كـــــم استبــاحَ قتيلا 

خاتم النبيين ﷺ

مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مربع-
مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مستطيل-

محمد ﷺ خاتم النبيين
وعلاقة دعوته بالدعوات السماوية السابقة

Loading

رحمته في الجهاد

محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء، فلا نبي بعده. وهذا ما أجمع عليه المسلمون وعرف من الدين بالضرورة، قال : ((مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هـذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)). 

أما دعوته وعلاقتها بدعوات الأنبياء السابقين، فقـائمـة على أساس التأكيد والتتميم، كما يدل عليه الحديث المذكور. 

وبيان ذلك أن دعوة كل نبي تقوم على أساسين اثنين؛ الأول العقيدة والثاني التشريع والأخلاق. فأما العقيدة فلم يختلف مضمونها منـذ بعثة آدم عليه السلام إلى بعثة خاتم النبيين محمد . إنما هي الإيمـان بوحـدانيـة الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق به من الصفات، والإيمان باليوم الآخر والحساب والجنة والنار، فكان كل نبي يدعو قومه إلى الإيمان بهذه الأمور، وكأن كل منهم يأتي مصدقاً لدعوة من قبله ومبشراً ببعثة من سيأتي بعده. وهكذا فقد تلاحقت بعثتهم إلى مختلف الأقوام والأمم ليؤكد الجميع حقيقة واحدة أمروا بتبليغها وحمل الناس على الإذعان لها، ألا وهي الدينونة لله عز وجل وحده، وهذا ما بينه الله تعالى بقوله في كتابه الكريم: 

{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحاً  الَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ وَمَا وَصَّیۡنَا بِهِۦۤ إِبۡرَاهِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَىٰۤۖ أَنۡ أَقِیمُوا۟ ٱلدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِیهِۚ}. [الشورى: 42/13]

بل إنه لا يتصور أن تختلف دعوات الأنبياء الصادقين في شأن العقيـدة، لأن أمور العقيدة من نوع الإخبار، والإخبار عن شيء لا يمكن أن يختلف ما بين مخبر وآخر إذا فرضنا الصدق في خبر كل منهما، فن غير المعقول أن يبعث أحد الأنبياء ليبلغ الناس أن الله ثالث ثلاثة، سبحانه عما يقولون، ثم يبعث من بعده نبي  آخر ليبلغهم بـأن الله واحد لا شريـك له ويكون كل منها صادقا فيما بلَّغ عن  الله تعالى. 

هذا عن العقيدة، أما التشريع وهو سن الأحكام التي يتوخى منها تنظيم حياة المجتمع والفرد، فقد كان يختلف في الكيف والكم ما بين بعثة نبي وآخر، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وسبب ذلـك أن التشريع من نوع الإنشاء لا الإخبـار، فلا يرد فيه ما أوردناه على اختلاف العقيـدة. ثم من المفروض أن يكون للتطور الزمني ولاختلاف الأمم والأقوام أثر في تطور التشريع واختلافه، 

بسبب أن أصل فكرة التشريع قائم على أساس ما تقتضيه مصالح العبـاد في دنياهم وآخرتهم، هذا إلى أن بعثة كل من الأنبياء السابقين كانت خاصة بأمة معينة ولم تكن عامة للناس كلهم، فكانت الأحكام التشريعية محصورة في إطار ضيق حسبما تقتضيه حال تلك الأمة بخصوصها. 

فقد بعث موسى عليه السلام مثلاً إلى بني إسرائيل وكان الشأن يقضي -بالنسبة لحال بني إسرائيل إذ ذاك- أن تكون شريعتهم شديدة قـائمة في مجموعها على أساس العزائم لا الرخص. ولا مرت الأزمنة وبعث فيهم سيدنا عيسى عليه السلام كان يحمل إليهم شريعة أسهل وأيسر مما كان قد بعث به موسى من قبل، وانظر في هذا إلى قول الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام وهو يخاطب بني إسرائيل: 

{وَمُصَدِّقا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِی حُرِّمَ عَلَیۡكُمۡۚ} [آل عمران: 3/50]، فقد بين لهم أنه فيما يتعلق بأمور العقيدة ، مصدق لما جاء في التوراة ومؤكد له، ومجدد للدعوة إليه، أما بالنسبة للتشريع وأحكام الحلال والحرام، فقد كلف ببعض التغييرات وإيجاد بعض التسهيلات ونسخ بعض ما كانوا يعانونه من الشدة  في الأحكام.

وبناء على هذا فإن بعثة كل رسول تتضمن عقيدة وتشريعاً:

فأما العقيدة فعمله بالنسبة لها ليس سوى التأكيد للعقيدة ذاتها التي بعث بها الرسل السابقون دون أي اختلاف أو تغيير. 

وأما التشريع، فإن شريعة كل رسول ناسخة للشريعة السابقة إلا ما أيده التشريع المتأخر، أو سكت عنه، وذلك على مذهب من يقول: شريعة من قبلنا شريعة لنا إذا لم يرد ما يخالفها

ويتضح أنه لا توجد أديان سماوية متعددة، وإنما توجد شرائع سماوية متعددة نسخ اللاحق منها السابق إلى أن استقرت الشريعة السماوية الأخيرة التي قضت حكمة الله أن يكون مبلغها هو خاتم الأنبياء والرسل أجمعين. 

أما الدين الحق فواحد، بعث الأنبياء كلهم للدعوة إليه وأمر الناس بالدينونة له منذ آدم عليه السلام إلى محمد ، ألا وهو الإسلام، به بعث إبراهيم وإسماعيل ويعقوب. يقول الله تعالى: {وَمَن یَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَقَدِ ٱصۡطَفَیۡنَـٰهُ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَإِنَّهُۥ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ *إِذۡ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥۤ أَسۡلِمۡۖ قَالَ أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ * وَوَصَّىٰ بِهَاۤ إِبۡرَ اهِـيۧمُ بَنِیهِ وَیَعۡقُوبُ یَـٰبَنِیَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّینَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} [البقرة: 2/130].

وبه بعث موسى إلى بني إسرائيل. يقول الله تعالى عن سحرة فرعون: 

{قَالُوۤا۟ إِنَّاۤ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّاۤ إِلَّاۤ أَنۡ ءَامَنَّا بِـَٔایَـٰتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاۤءَتۡنَاۚ رَبَّنَاۤ أَفۡرِغۡ عَلَیۡنَا صَبۡرا وَتَوَفَّنَا مُسۡلِمِینَ} [الأعراف:7/125-126].

وبه بعث عيسى عليه الصلاة والسلام. يقول الله تعالى:

{فَلَمَّاۤ أَحَسَّ عِیسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِیۤ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِیُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ} [آل عمران:3/52].

قد يقال: فلماذا يحتفظ الذين يـدعـون نسبتهم إلى موسى عليه الصلاة والسلام بعقيدة خاصة تختلف عن عقيـدة التوحيـد التي بعث بها الأنبياء كلهم؟ ولماذا يؤمن الذين يدعون نسبتهم إلى عيسى عليه الصلاة والسلام بعقيدة خاصة أخرى؟ 

والجواب على هذا ما قاله الله عز وجل في كتابه الكريم:

{إِنَّ ٱلدِّینَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَـٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۗ} [آل عمران: 3/19].

وما قاله أيضاً في سورة الشورى عقب قوله: 

{شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحا وَٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ} [الشورى: 42/14].

الآية: {وَمَا تَفَرَّقُوۤا۟ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۚ وَلَوۡلَا كَلِمَة سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰۤ أَجَل مُّسَمّى لَّقُضِیَ بَیۡنَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ أُورِثُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَفِی شَكّ مِّنۡهُ مُرِیب} [الشورى: 42/14].

فالأنبياء كلهم بعثوا بالإسلام الذي هو الـدين عند الله. وأهل الكتاب يعلمون وحدة الدين ويعلمون أن الأنبياء إنما جاؤوا ليصدق كل واحد منهم الآخر فيما بعث به من الدين، وما كانوا ليتفرقوا إلى عقائد متباينة مختلفـة ولكنهم اختلفوا وتفرقوا واختلقوا على أنبيائهم ما لم يقولوه، رغم ما جاءهم من العلم في ذلك، بغياً بينهم كما قال الله تعالى.

***

في إثبات النبوة

مع رجالات حوار -عبد القادر الجزائري-
مع رجالات حوار -عبد القادر الجزائري-

في إثبات النبوة

Loading

رحمته في الجهاد

(اعلموا) وفقكم الله أن النبوَّة هي عبارة عن طور تنفتح فيه عين أخرى زائدة على طور العقل ونظره؛ ينظر بها النبي ما يكون في المستقبل من أمور؛ العقل معزول عن إدراكها ؛ كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقولات؛ وكعزل الحواس عن مدركات التمييز. وانظروا إلى ذوق الشعر كيف يختص به قوم من الناس، وهو نوع إحساسٍ وإدراك، ويحرم منه بعضهم. وانظروا كيف عظمت قوة هذا الذوق في طائفة ؛ حتى استخرجوا بها الموسيقى، والأغاني، والأوتار، ونحوها، التي منها : المحزن، والمطلوب، والمبكي، والمضحك، والقاتل، والموجب للغشي. وإنما يقوى على استنباط هذه الأنواع من قوي له أصل الذوق، وأما العاطل عن خاصية هذا الذوق؛ فيشاركه في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الآثار، وهو بتعجب من صاحب الوجد والغشي، ولو اجتمع العقلاء كلهم من أرباب الذوق تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا.

فلا تجعلوا الكمال وقفاً على العقل، فوراء كمال العقل؛ كمالٌ آخر أعلى من كمال العقل. وكما أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل لأنكرها، واستبعدها ؛ فكذلك بعض العقلاء استبعدوا مدركات النبوة، ولا مستند لاستبعادها، إلا أنها طور لم تبلغه العقول.

وقد خلق الله مثالاً للنبوة، من حيث إنها إدراك زائد على الإدراك المتعارف، وهو النوم. إذ النائم يدرك أموراً تكون في المستقبل، إما صريحاً، وإما بإشارة يعرفها المعبرون للرؤيا. وهذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه ، وقيل له: إن من الناس من يسقط ؛ كالميت، ويزول إحساسه، وسمعه، وبصره، فيدرك المغيبات؛ لأنكره، وقال: القوى الحسية؛ أسباب الإدراك، والإنسان لا يدرك المغيبات مع وجود حواسه، فكيف يدرك مع غيبتها؟! والوجود والمشاهدة؛ قاضيان بصحة النوم.

وقد شاهدنا صحة كثير من المنامات، وبلغنا عن الثقات؛ بالنقل الصحيح أن الفردوسي الشاعر، لمَّا صنف كتابه المسمى بـ(شاهنامه)، على اسم السلطان محمود بن سبكتكين، وأنه ما قضى حقه كما يلزم، وما راعاه كما يليق بذلك الكتاب؛ ضاق قلب الفردوسي، فرأى رستم في المنام، فقال: إنك مدحتني في هذا الكتاب كثيرا، وأنا في جملة الأموات، فلا أقدر على قضاء حقك، ولكن اذهب إلى الموضع الفلاني، واحفر؛ فإنك تجد فيه دفيناً كنت دفنته ، فخذه؛ فذهب؛ فوجده وأخذه، فكان الفردوسي يقول: إن رستم بعد موته  كان أكثر كرماً من محمود؛ حال حياته.

والشك في النبوة، إما أن يكون في إمكانها، أو وجودها، أو حصولها لشخص معين. ودليل إمكانها ووجودها ؛ وجود معارف في العالم لا يمكن أن تدرك بالعقل، كعلم الطب، وعلم النجم، فإن من بحث في علميهما؛ علم يقينا، أن بعضها لا يدرك إلا من جهة الله تعالى ، ولا تكون التجربة طريقا إليها، فإن من الأحكام النجومية ما لا يقع إلا في كل ألف سنة مرة؛

فكيف يحصل ذلك العلم بالتجربة؟! وكذلك خواص الأدوية. فظهر بهذا؛ أن من الممكن وجود طريق إدراك هذه الأمور التي لا يدركها العقل، وهو المراد بالنبوة.

و ثمَّ أمور؛ تسمى: خواص، لا يدور العقل حولها أصلاً، فإن وزن دانق من الأفيون، سم قاتل؛ لأنه يجمد الدم في العروق لقوة برودته، ، والعالم بالطبيعات يقول: إنه يبرد؛ لأنه من المبردات التي يغلب فيها عنصر : الماء والتراب. ومعلوم أن أرطالاً من الماء

 والتراب، لا يبلغ تبريدها إلى هذا الحد. ولو أخبر طبيب بهذا، ولم  يجربه لقال : هذا كذب! ؛ لأن الماء والتراب، لو كانا وحدهما ما وصلا إلى هذا الحد، والأفيون فيه هوائية ونارية؛ فإذا جربه ؛ التزم أن يقول: إن في الأفيون خاصة في التبريد خارجة عن قياس المعقول.

ولو قيل لإنسان: هل يمكن أن يكون في الدنيا شيء، هو بمقدار حبة قمح في بلدة، فيأكل تلك البلدة بجملتها، ثم يأكل نفسه؛ فلا يبقى شيء من البلدة، وما فيها، ولا يبقى هو في نفسه؟! لقال : هذا محال، وهو من جملة الخرافات !! وهذه حاله؛ ينكرها من لم ير النار ، وأكثر العجائب التي يخبر بها الأنبياء؛ من هذا المعنى.

وإذا ثبت أن الله تعالى؛ فاعل مختار، لا علة موجبة، وثبت أن إرسال الأنبياء؛ ممكن غير محال في حقه، وجاءت الأنبياء بما يصدقهم من المعجزات الخارقة للعادة؛ لزم تصديقهم.

والدليل على أن الله تعالى؛ فاعل مختار، هو أن هذه الأجسام الموجودة متناهية؛ وكل متناه؛ فهو مشكل. ينتج؛ إن هذه الأجسام الموجودة مشكلة، وهذه الأشكال قسمان:

أحدهما: الأشكال التي حصلت على سبيل الاتفاق، من غير أن يحتاج حصولها إلى فعل فاعل حكيم.

والثاني: الأشكال التي يشهد صريح العقل، بأنها لم تحصل؛ إلا بقصد فاعل حكيم.

  أما القسم الأول: فمثل الحجر المنكسر، والكوز المنكسر، فإنه لا بد وأن یكون لتلك القطعة من الحجر والفخار شكل مخصوص معين، إلا أن صريح العقل؛ شاهد بأن ذلك الشكل المخصوص وقع على سبيل الاتفاق، ولا يتوقف حصوله على فعل فاعل مختار.

وأما القسم الثاني : فهو مثل الأشكال الواقعة على وفق المصالح والمنافع. مثاله: الإبريق، فإننا لما نظرنا إلى الإبريق؛ رأينا فيه ثلاثة أشياء: أحدها: الرأس الواسع، وثانيها: البلبلة الضيقة، وثالثها العروة.

فلما تأملنا في هذه الأحوال الثلاثة؛ وجدنا موافقة لمصلحة  الخلق، فإنه لا بد من توسيع رأس الإبريق؛ حتى يدخل الماء فيه بالسهولة، ولا بد من ضيق بلبلته ؛ حتى يدخل الماء منها بقدر الحاجة، ولا بد له من العروة؛ حتى يقدر الإنسان على أن يأخذه بيده .

فلما وجدنا هذه الأوصاف الثلاثة في الإبريق؛ مطابقة للمصلحة؛ شهد عقل كل واحد، بأن فاعل هذا الإبريق، لا بد وأن يكون قد فعله بناء على الحكمة، ورعاية المصلحة. ولو أن قائلا قال: إن هذا الإبريق تكون بنفسه من غير قصد؛ قاصد حكيم، ولا فعل فاعل، بل اتفق تكونه بنفسه؛ كما اتفق تشكل هذه القطعة بهذا الشكل الخاص من غير قصد قاصد حكيم، ولا جعل جاعل، لشهدت الفطرة السليمة بأن هذا القول باطل محال. ومتى ثبت القول بالفاعل المختار؛ ثبت حدوث العالم.

ومن عرف هذا؛ سهل عليه معرفة النبي، فإن من دخل بستانا، ورأى أزهاراً حادثة بعد إن لم تكن؛ ثم رأى عنقود عنب؛ قد اسودَّ جميع حباته إلا حبة واحدة، مع تساوي نسبة الماء، والهواء، وحر الشمس، إلى جميع تلك الحبات؛ فإنه يضطر إلى العلم بأن فاعله مختار، وحينئذ تحصل المعرفة الضرورية بصدق الرسول، لأن دلالة المعجزة على صدق الرسول ضرورية.

محمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين وعلاقة دعوته بالدعوات السماوية السابقة

مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مربع-
مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مستطيل-

محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وعلاقة دعوته بالدعوات السماوية السابقة

Loading

لا توجد أديان سماوية متعددة، وإنما توجد شرائع سماوية متعددة نسخ اللاحق منها السابق إلى أن استقرت الشريعة السماوية الأخيرة التي قضت حكمة الله أن يكون مبلغها هو خاتم الأنبياء والرسل أجمعين. 

محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء، فلا نبي بعده. وهذا ما أجمع عليه المسلمون وعرف من الدين بالضرورة، قال عليه الصلاة والسلام: ((مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هـذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)). 

أما دعوته صلى الله عليه وسلم وعلاقتها بدعوات الأنبياء السابقين، فقـائمـة على أساس التأكيد والتتميم، كما يدل عليه الحديث المذكور. 

وبيان ذلك أن دعوة كل نبي تقوم على أساسين اثنين؛ الأول العقيدة والثاني التشريع والأخلاق. فأما العقيدة فلم يختلف مضمونها منـذ بعثة آدم عليه السلام إلى بعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم. إنما هي الإيمـان بوحـدانيـة الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق به من الصفات، والإيمان باليوم الآخر والحساب والجنة والنار، فكان كل نبي يدعو قومه إلى الإيمان بهذه الأمور، وكأن كل منهم يأتي مصدقاً لدعوة من قبله ومبشراً ببعثة من سيأتي بعده. وهكذا فقد تلاحقت بعثتهم إلى مختلف الأقوام والأمم ليؤكد الجميع حقيقة واحدة أمروا بتبليغها وحمل الناس على الإذعان لها، ألا وهي الدينونة لله عز وجل وحده، وهذا مابينه الله تعالى بقوله في كتابه الكريم: 

{شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحࣰا وَٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ وَمَا وَصَّیۡنَا بِهِۦۤ إِبۡرَا⁠هِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَىٰۤۖ أَنۡ أَقِیمُوا۟ ٱلدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِیهِۚ}. [الشورى: 42/13]

بل إنه لا يتصور أن تختلف دعوات الأنبياء الصادقين في شأن العقيـدة، لأن أمور العقيدة من نوع الإخبار، والإخبار عن شيء لا يمكن أن يختلف ما بين مخبر وآخر إذا فرضنا الصدق في خبر كل منهما، فن غير المعقول أن يبعث أحد الأنبياء ليبلغ الناس أن الله ثالث ثلاثة، سبحانه عما يقولون، ثم يبعث من بعده نبي  آخر ليبلغهم بـأن الله واحد لا شريـك له ويكون كل منها صادقا فيما بلَّغ عن  الله تعالى. 

هذا عن العقيدة، أما التشريع وهو سن الأحكام التي يتوخى منها تنظيم حياة المجتمع والفرد، فقد كان يختلف في الكيف والكم مابين بعثة نبي وآخر، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وسبب ذلـك أن التشريع من نوع الإنشاء لا الإخبـار، فلا يرد فيه ما أوردناه على اختلاف العقيـدة. ثم من المفروض أن يكون للتطور الزمني ولاختلاف الأمم والأقوام أثر في تطور التشريع واختلافه، 

بسبب أن أصل فكرة التشريع قائم على أساس ما تقتضيه مصالح العبـاد في دنياهم وآخرتهم، هذا إلى أن بعثة كل من الأنبياء السابقين كانت خاصة بأمة معينة ولم تكن عامة للناس كلهم، فكانت الأحكام التشريعية محصورة في إطار ضيق حسبما تقتضيه حال تلك الأمة بخصوصها. 

فقد بعث موسى عليه السلام مثلاً إلى بني إسرائيل وكان الشأن يقضي -بالنسبة لحال بني إسرائيل إذ ذاك- أن تكون شريعتهم شديدة قـائمة في مجموعها على أساس العزائم لا الرخص. ولا مرت الأزمنة وبعث فيهم سيدنا عيسى عليه السلام كان يحمل إليهم شريعة أسهل وأيسر مما كان قد بعث به موسى من قبل، وانظر في هذا إلى قول الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام وهو يخاطب بني إسرائيل: 

{وَمُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِی حُرِّمَ عَلَیۡكُمۡۚ} [آل عمران: 3/50]، فقد بين لهم أنه فيما يتعلق بأمور العقيدة ، مصدق لما جاء في التوراة ومؤكد له، ومجدد للدعوة إليه، أما بالنسبة للتشريع وأحكام الحلال والحرام، فقد كلف ببعض التغييرات وإيجاد بعض التسهيلات ونسخ بعض ما كانوا يعانونه من الشدة  في الأحكام.

وبناء على هذا فإن بعثة كل رسول تتضمن عقيدة وتشريعاً:

فأما العقيدة فعمله بالنسبة لها ليس سوى التأكيد للعقيدة ذاتها التي بعث بها الرسل السابقون دون أي اختلاف أو تغيير. 

وأما التشريع، فإن شريعة كل رسول ناسخة للشريعة السابقة إلا ما أيده التشريع المتأخر، أو سكت عنه، وذلك على مذهب من يقول: شريعة من قبلنا شريعة لنا إذا لم يرد ما يخالفها. 

ويتضح أنه لا توجد أديان سماوية متعددة، وإنما توجد شرائع سماوية متعددة نسخ اللاحق منها السابق إلى أن استقرت الشريعة السماوية الأخيرة التي قضت حكمة الله أن يكون مبلغها هو خاتم الأنبياء والرسل أجمعين. 

أما الدين الحق فواحد، بعث الأنبياء كلهم للدعوة إليه وأمر الناس بالدينونة له منذ آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ألا وهو الإسلام، به بعث إبراهيم وإسماعيل ويعقوب. يقول الله تعالى: {وَمَن یَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَا⁠هِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَقَدِ ٱصۡطَفَیۡنَـٰهُ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَإِنَّهُۥ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ *إِذۡ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥۤ أَسۡلِمۡۖ قَالَ أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ * وَوَصَّىٰ بِهَاۤ إِبۡرَ اهِـيۧمُ بَنِیهِ وَیَعۡقُوبُ یَـٰبَنِیَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّینَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} [البقرة: 2/130].

وبه بعث موسى إلى بني إسرائيل. يقول الله تعالى عن سحرة فرعون: 

{قَالُوۤا۟ إِنَّاۤ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّاۤ إِلَّاۤ أَنۡ ءَامَنَّا بِـَٔایَـٰتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاۤءَتۡنَاۚ رَبَّنَاۤ أَفۡرِغۡ عَلَیۡنَا صَبۡرࣰا وَتَوَفَّنَا مُسۡلِمِینَ} [الأعراف:7/125-126].

وبه بعث عيسى عليه الصلاة والسلام. يقول الله تعالى:

{فَلَمَّاۤ أَحَسَّ عِیسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِیۤ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِیُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ} [آل عمران:3/52].

قد يقال: فلماذا يحتفظ الذين يـدعـون نسبتهم إلى موسى عليه الصلاة والسلام بعقيدة خاصة تختلف عن عقيـدة التوحيـد التي بعث بها الأنبياء كلهم؟ ولماذا يؤمن الذين يدعون نسبتهم إلى عيسى عليه الصلاة والسلام بعقيدة خاصة أخرى؟ 

والجواب على هذا ماقاله الله عز وجل في كتابه الكريم:

{إِنَّ ٱلدِّینَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَـٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۗ} [آل عمران: 3/19].

وما قاله أيضاً في سورة الشورى عقب قوله: 

{شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحࣰا وَٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ} [الشورى: 42/14].

الآية: {وَمَا تَفَرَّقُوۤا۟ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةࣱ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّى لَّقُضِیَ بَیۡنَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ أُورِثُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَفِی شَكࣲّ مِّنۡهُ مُرِیبࣲ} [الشورى: 42/14].

فالأنبياء كلهم بعثوا بالإسلام الذي هو الـدين عند الله. وأهل الكتاب يعلمون وحدة الدين ويعلمون أن الأنبياء إنما جاؤوا ليصدق كل واحد منهم الآخر فيما بعث به من الدين، وما كانوا ليتفرقوا إلى عقائد متباينة مختلفـة ولكنهم اختلفوا وتفرقوا واختلقوا على أنبيائهم ما لم يقولوه، رغم ما جاءهم من العلم في ذلك، بغياً بينهم كما قال الله تعالى.