الرزق بمفهوميه السطحي والعميق

الرزق بمفهوميه السطحي والعميق

الرزق بمفهوميه السطحي والعميق

من النَّاس مَن يحصرُ في ذهنه مفهومَ الرزق بالمال والأملاك… فإذا خسر ما يملك، أو لم يستطع أن يبلغَ ما تعلّق قلبه به من ماديات الحياة… سخط على واقعه… وربَّما سخط على قدره.

هؤلاء عليهم أن يعيدوا النظر في نظرتهم إلى الحياة، وإلى سنن الله مع خلقه، وأن يعوا حقيقةَ بأنَّه لن يكون الجميع أغنياء حدَّ الترف، ولن يكون الجميع مرتاح البال على الدوام، ولن ينعم الجميع بسكنٍ خاصٍّ يلجؤون إليه آخر نهارهم، ولن يكون للبعض زوجٌ يؤنسهم، ولن يكون للبعض الآخر ولدٌ وذرية، لن يستطيع البعض أن يكملوا تحصيلهم العلمي لدرجاتٍ عالية، لن ولن…

وهذا واقع الحياة الذي نعيشه بلا اختيارٍ منا، بل هو الواقع الذي اختاره خالقنا جلّ وعلا… اختار أن يعطي ويمنع، أن يبسط ويقبض… وأن يهب ويحرم… كلُّ ذلك لحكَمٍ ربَّانية… قد تكون لخيرٍ دنيويٍّ، ولدفع شرٍّ قد يكون، وقد تكون اختباراً وابتلاءً…

من المريح للنفس البشرية والعقل البشري أن يستسلما لواقع العبودية الذي أقامنا الله عليه، أن يخضعا لسنن الله الكونية في خلقه …فلمَ العناءُ في شيءٍ لن يجديَ العناء فيه؟ ولمَ طول التفكير في شيءٍ لن يغيِّر إعمال العقل فيه شيئاً ؟! قال صلى الله عليه وسلم: ” واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ[الترمذي].  

رُسم الكون وفق أسس وسنن… سخطك اتّجاهها لن يغير شيئاً… بل سيعود سخطاً ونقمةً عليك.

وحريٌّ بالعاقل أن يتفكَّر ويعيد لكلٍّ نصابَه بلا إفراطٍ أو تفريط… فيستشعر نعمَ ربِّه عليه… يقنع بما وهبه… ويكون على يقينٍ تامٍّ أنَّه لن يملك كلَّ شيء… لا يمدُّ عينيه إلى ما أعطاه الله لغيره، ممَّا لم يُقسم له، فهذا لن يزيده إلَّا حسداً ونقمةً… قال حاتم الأصم: “رأيت الناس يذمُّ بعضهم بعضاً، ويغتاب بعضهم بعضاً، فوجدت أصل ذلك من الحسد في المال والجاه والعلم، فتأمَّلت في قوله تعالى:نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم معِيشَتَهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا فعلمتُ أنَّ القسمة كانت من الله في الأزل فما حسدت أحداً [مختصر منهاج القاصدين].

فقد قسَم الله الأرزاق المادّية والمعنوية، وأمر بالسعي. أمر بالتوكُّل لا بالتواكل، والتوكُّل كما عرَّفه العلماء الربَّانيون: “هو اضطرابٌ بلا سكون، وسكونٌ بلا اضطراب “. أمر بسعي الجوارح والأعضاء، وبراحة القلب واطمئنانه.

مشتِّتات القلب في هذا العصر كثيرةٌ، نعم، وعلى رأسها “السوشال ميديا“، ومرض المثالية المفرطة الذي أصبح متفشّياً بين الناس، وهي في مجموعها سببُ كثيرٍ من الأمراض النفسية، فكم من فتاةٍ ساخطةٍ على شكلها بسبب “الانفلونسرز“، وكم من شابٍّ ساخطٍ على واقعه وحالته المادية، بسبب “البلوغرز، واليوتيوبرز“، وكم من زوجةٍ غير راضيةٍ بما قُسِمَ لزوجها من المال، وتشدِّد عليه وتلحُّ في طلب مالا طاقة له به، ممَّا أدَّى إلى ذهاب الودِّ والسكينة، وانمحاق البركة، وكم وكم.

ولو تفكّروا قليلاً، لوصلوا إلى حقيقة أن لا أحد لديه السعادة الكاملة، كلٌّ منَّا لديه نقصٌ في شيءٍ أو أشياء، والمقارنة تقتل. 

ثمَّ ما أدراك أنَّ ما يتمُّ تصويره حقيقة؟ بشهادة أهله هو ليس بحقيقة. وأنَّه يتمُّ التلاعب بالأشكال، والأطوال، والألوان، كما يتمُّ التلاعب بالعقول، والقلوب، والعواطف، ومسلَّمات الأمور.

من السطحية بمكانٍ أن تأخذ بالقشور الظاهرة، وتصدِّق كلَّما تراه، فكم من “بلوغرز” كانوا يتغنَّون بسعادتهم الزوجية على مدار الساعة، ويظهرون مدى ترفهم المعيشي وراحتهم الحياتية فقط ليصبحوا “تريند”، ثمَّ ما لبثوا أن عرضوا مشاكلهم وخلافاتهم على الملأ، هؤلاء عبيد للمال، ورأس مالهم الحقيقي هو من العقول المُغيّبة التي تنجرُّ خلفهم، وتفاهة تفكير من يدعمهم.

ولا يخفى عليك الأثر النفسي لإدمان “السوشال ميديا“، والتأثُّر بمحتواها على الصغير والكبير، والدراسات والأبحاث كثيرةٌ في هذا المجال. فالانجرار وراء مادّيات الحياة والتكالب عليها سببٌ للإصابة بالأمراض النفسية، والكآبة، والأمراض القلبية من: حسدٍ، وحقدٍ، وطغيان النفس على الروح، وسبب هذا كلِّه ضياع الهوية الفكرية، والتشتُّت الفكري، والانحراف عن مصدر الفكر السليم للبشرية ألا وهو كتاب الخالق وشِرعة نبيّه، فتحوَّرت المفاهيم وتغيَّرت المسلَّمات.

فمفهوم الرزق مثلاً أصبح محصوراً في المال والمادَّة، وأخرجنا منه كل ما سواهما.

تناسينا نِعمَ الصحَّة، والعافية، والولد، والوالدين، والسكينة، والعلم، والقدرة على التفكير، والتعقُّل.

تناسينا نعمة الإسلام والقرآن، ونعمةَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، تناسينا نعمةَ الصلة بالله.

تناسينا نِعم الأكل، والشرب، والعمل، ونِعم الحبِّ، والعطف، والرحمة.

تناسينا نعمة تكريمنا من قبل الله حين جعلنا خلفاء في الأرض.

تناسينا نعمة الشكر والصبر، ونعمة امتحانات الله، والعقبات التي يضعها في طريقنا ليعيدنا إليه بعد غفلة.  

تناسينا نعمة رمضان، والليالي العشر، وأيَّام الله.

تناسينا أنَّ الرزق الحقيقيَّ هو الصِّلة الدائمة بالله دون بعدٍ أو جفاء.

تناسينا إرادة الله فينا عندما قال: “والله يريد أن يتوبَ عليكم، ويريدُ الذين يتَّبعون الشهواتِ أن تميلوا ميلاً عظيماً[النساء:27]

تناسينا أنَّنا عبيدٌ له، ولو أراد بنا فقراً، وجوعاً، وعطشاً، مدى عمرنا، لم يكن لنا من الأمر شيءٌ إلَّا أن نقول سمعاً وطاعة.

ولكنَّه لم يرد ذلك، فقد أعطى وأسبغ، وكَفل لنا أرزاقنا المادّية من طعامٍ، وشرابٍ، وحاجاتٍ للجسد. قال ابن جرير: هو الرزَّاق لخلقه، المتكفِّل بأقواتهم، وهذا الرزق عامٌّ لجميع المخلوقات، البشر وغيرهم، قال تعالى: ((وما من دابَّةٍ في الأرض إلَّا على الله رزقُها ويعلمُ مستقرَّها ومستودَعها كلٌّ في كتابٍ مبينٍ)) [هود: 6].

ولكن يوجد مفهومٌ خاصٌّ للرزق كما قال العلماء، وهو يشمل عطاء القلوب العلمَ النافع، والهداية والرشاد، والتوفيق إلى سلوك الخير، والتحلِّي بجميل الأخلاق، والتنزُّه عن رديئها، قال الإمام الشعراوي: ((الرزق هو ما انتفع به، فالذي تأكله رزق، والذي تشربه رزق، والذي تلبسه رزق، والذي تتعلَّمه رزق، والصفات الخلقية من حلمٍ وشجاعة وغيرها هي رزق، وكلُّ شيءٍ يُنتفع به يُسمَّى رزقاً)).  

فواجبنا بوصفنا مسلمين تحرِّي الحلال، والسعي وعدم التواكل، والأخذ بأسباب البركة في الرزق، ومنها: صلة الرحم، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: “من أحبَّ أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه[رواه البخاري]، وصدق التوبة والاستغفار، قال تعالى: ((فقلت استغفروا ربَّكم إنَّه كان غفَّاراً يُرسلِ السماءَ عليكم مدراراً ويُمددكم بأموالٍ وبنينَ ويجعلْ لكم جنَّاتٍ ويجعلْ لكم أنهاراً )) [نوح:12-10].

أمَّا نتيجة ذلك فلا نملك إلَّا الرضا بها، ومن واجبنا أيضاً: ألَّا نربط مفهوم الرزق بالمادَّة وحسب، وألَّا نغفل عن شكر خالقنا على ما وهبنا من نِعَم -شكر قلبٍ وعمل- لا شكر لسانٍ فحسب، وأن نغرس في عقول أبنائنا مفاهيم الرزق بأوسع أبوابه، ونعرِّفهم سننَ الله في خلقه، ونسعى أن تنالنا من الله الأرزاق المعنوية، وذلك بأن نُريَ الله من أنفسنا خيراً، وأن نُلِحَّ في الدعاء، ونجِدَّ في الطلب. 

إن لربكم في أيام دهركم نفحات

إن لربِّكم في أيَّام دهرِكم نَفَحات

إن لربِّكم في أيَّام دهرِكم نَفَحات 

شهر رمضان… ليلة القدر… ليلة النصف من شعبان… عشر ذي الحجَّة… يوم عرفة… يوم الجمعة… ثلث الليل الأخير… إلخ

أيامٌ ومواقيت، جعل الله لها مزيةً على غيرها، عرّفها وحدَّدها لنا، اللهمَّ إلَّا ليلة القدر، لنجِدَّ في الطلب.

فأخبرنا الشرع أنَّها أوقاتٌ مباركة، وحثَّنا على استثمارها في الأعمال الصالحات، وأن نبتغي فيها القرب من الله بالتفنُّن في أنواع الطاعات من صلاةٍ، وصيامٍ، وصدقةٍ، وتلاوة قرآنٍ، وطلب علم، وإخلاص نية… إلخ

ولكن هناك نقطتان يغفل عنهما الكثير:

أوّلاً: طاعات الفرض مقدَّمةٌ على طاعات النفل، وعلينا استغلال مواسم الطاعة والعبادة لمزيدٍ من الرضى والغفران، وإتقان طاعات الفرض وإتمامها هو الأَوْلى والأنفع، فمحاولة تأدية صلاة الفرض بخشوعٍ ما أمكن مقدَّمٌ على ركَعات نفلٍ يركعها الإنسان ليزيد حصيله الكمّي، فالحرص على “كيفية” العبادة يغذّي القلب والروح، أمَّا الحرص على الكمِّ فقط دون الكيف، فإنَّه غالباً مايكون لخدمة الهوى والنفس، وقد يكون نابعاً عن سوء فهمٍ للأمور.

قال السري السقطي خال الإمام الجنيد رحمهما الله تعالى: ”خصلتان يباعدان العبد من الله تعالى، أداء نافلةٍ بتضييع فريضة، وعملٌ بالجوارح من غير صدق قلب[مختصر صفة الصفوة]

ومن طاعات الفرض الشبه منسيّة، والتي تُشعر الإنسان بعبوديته وتذلُّلـه لله تعالى: التوبة والاستغفار والندم على ما فات، قال تعالى: ((وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم)) [آل عمران: 133]

ثانياً: مما هو معلومٌ بالضرورة، أنَّ الله يقبل الطاعة من العاصي أو المذنب إن هو أخلص في الطاعة ولم يصرَّ على الذنب، فالطاعة ليست حكراً على العابد القانت التائب الخاشع، ولكن ما يخيف حقاً هو أداء الطاعات والاستزادة منها مع الاستهانة بعقاب الله في بعض الذنوب، اعتماداً على أنَّ الله غفورٌ رحيم، أو استكباراً من المذنب بأن يرى أنَّ ذنبه ليس ذنباً أساساً.  

ومن أمثلة ذلك، وتوضيحاً للفكرة:

  • رجلٌ مصلٍّ ذاكر ينكبُّ على تلاوة القرآن، وتعداد الختم في رمضان مثلاً، وهو في المقابل ظالمٌ لإخوته، متعدٍّ على حقوقهم، ويرى فعله صواباً، أو ربَّما حقَّاً من حقوقه.
  • أبٌ مهملٌ لتربية ابنه تمام الإهمال، ولا يسأل عنه إلَّا في المناسبات، وترى السبحةَ لا تفارقُ يده.
  • أمٌّ تعكف على الصيام، وحلقات المساجد ودروس العلم، وهي مهملةٌ لبيتها وزوجها وأولادها بحجَّة: لا وقت لديَّ، أنا خادمةٌ لدين الله! وغير ذلك كثيرٌ في واقعنا.

قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابه يوماً: “أتدرون من هو المفلس؟” قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ، فقال: “إنَّ المفلسَ مِن أمَّتي، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه. فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثمَّ طُرِح في النَّارِ [رواه مسلم]

المفاهيم المشوَّهة حول الدِّين والطّاعة والعبوديّة، أدّت إلى سلوكٍ مُشوّهٍ، وإلى انحراف ميزان الطاعة، فأصبح الحلال والحرام حسب ما تركَنُ إليه النفس، لا حسب ما شرع الشارع، ومشكلةٌ حقيقيةٌ أن نتبع ما تركن إليه دون أن نشعرَ حتَّى باقترافنا للذنب، قال تعالى:((قل هل ننبِّئكم بالأخسرين أعمالاً؟ الذين ضلَّ سعيُهم في الحياةِ الدُّنيا وهمْ يحسبونَ أنَّهم يُحسنونَ صُنعاً)) [الكهف:103-104]. هكذا كانوا يحسبون ولكن الواقع كان مخالفاً لحسبانهم. هذه الآية دقيقةٌ في تصويرها ومخيفة، نسأل اللهَ ألَّا نكون ممَّن تشملهم.  

قد يخطر في بالنا سؤال: مادام هذا العبد يسعى، ويقوم بالطاعات، وهو يحسب أنَّه يحسنُ صنعاً، لماذا تركه الله مغيَّباً هكذا ولم يهده إلى جادَة الصّواب؟

بيَّن الله عزَّ وجلَّ الطريق في كتابه وعلى لسان نبيه: “الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس.[أخرجه الشيخان] فهو لم يذرنا في جهل وتحيُّر.

ولكنَّ المسألة هنا ليست مسألة معرفة الحلال من الحرام فحسب، فلا جاهل في هذا العصر بهذه الأمور، المسألة هنا اعتياد الذنب:

  • إمَّا من خلال تفشِّيه في المجتمع فيصبح في اللاوعي أمراً اعتيادياً.
  • أو من خلال ارتكابه مراراً وتكراراً دون رقابةٍ ذاتية، فيصبح مستباحاً عند صاحبه.
  • وإمَّا من خلال الخلط بين مفهومي العيب والحرام، ويقصد بالعيب ما يعيبه الناس من حولي عليَّ بغضِّ النظر عن كونه حلالاً أو حراماً، فالناس قد تعيب حلالاً بل ربَّما واجباً، كرفضك أن تحضر حفل زفاف قريبك لأنَّ فيه اختلاطاً محرّماً مثلاً.

 فعند اختلاط العيب المجتمعي أو العرف المجتمعي بالشرع دون ضابط -علماً أنَّ العرف الصالح هو من مصادر التشريع الإسلامي الفرعية- فعند اختلاطهما يتربَّى الإنسان على أنَّ المجتمع اذا استحسن شيئاً ولو كان حراماً فلا بأس بفعله، وإذا استقبح أمراً بغضِّ النظر عن كونه حلالاً يجب الابتعاد عنه، ومثال ذلك: شابٌّ وفتاةُ أجنبيان عن بعضهما، تعارفا وقرَّرا أن تنشأ بينهما علاقةُ بغير إطارٍ شرعيٍّ ليتعرَّفا على بعضهما أكثر، ولكن لا مانع من هذه العلاقة في نظرهما ونظر المجتمع، لأنَّ أهليهما يعلمان بها وكلُّ شيءٍ تحت نظرهما!!..  ومتى كان الوالدان هما الحَكَم عن ربِّ العالمين في الأرض، وهو الذي قال:  ((وإن جاهداكَ على أن تشركَ بي ما ليسَ لكَ بهِ علمٌ فلا تُطِعهما)) [لقمان:15]   

والأمثلة كثيرةٌ على اعتياد الذنب بسبب الأسباب السابقة، أذكر منها ما هو شائعٌ في مجتمعنا:

  • إضاعة الأوقات في الساعات على أمورٍ تافهةٍ لا قيمة لها، وهو أمرٌ اعتادَه معظم شبابنا، وهو عند الشارع أمرٌ حرام ((إنَّما الحياةُ الدُّنيا لعبٌ ولهوٌ)) [محمد:36]. وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ منَ النَّاسِ الصِّحَّةُ والفراغ)) [البخاري]

ومن السلف من قال: الوقت سيف.

  • اللقاءات العائلية التي يحصل فيها اختلاطٌ غير مضبوط بضوابط الشريعة، وهي كثيرةٌ في مجتمعنا مع الأسف، أمرٌ اعتياديٌّ عندنا بل ونراها نوعاً من صلة الرحم، وقد ننويها خالصةً لله! وهي لا ترضيه في الحقيقة، وقال صلَّى لله عليه وسلَّم: “الحموُ الموت[البخاري ومسلم]. وقال: “ماتركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجالِ من النساء[البخاري]، يعني حتى لو كنت قدِّيساً فأنت لست بمأمن من الفتن، وحتى لو كنتِ قديسةً فأنتِ معرَّضةٌ لها، نسأل الله الهداية وتمام الفهم.
  • حجاب فتيات ونساء المسلمين اختلَّ ميزانه تماماً، نعم مازال الاهتمام بغطاء الرأس في مجتمعنا قائماً، ولا يزال الحثُّ عليه موجوداً، ولكنَّ مفهوم “الحجاب” في الشرع أوسع بكثيرٍ من مفهوم “غطاء الرأس” المنتشر عندنا، وهلمّ جراً.

فالله وضّح، وعلّم، وفهّم: ((واتَّقوا الله ويعلِّمكمُ اللهُ واللهُ بكلِّ شيءٍ عليم)) [البقرة: 282]. وأصبح العلم الشرعيُّ منتشراً بشكلٍ لايعذر جاهله نهائياً، ولكنَّ القضية ليست قضية جهل، بل هي قضية تشوُّهٍ في الفكر، وكبر في النفس. ولعلَّ الله أرسل له من ينبِّهه، أو ربَّما ابتلاه بأمرٍ ليفطن إلى فهمه الخاطئ ويصحِّح سلوكه، فلماذا لم يفطن هو لإشارات الله؟ وهل يعقل أنَّ بلاءً أو محنة لم تنزل به؟! لماذا ركن إلى نفسه، ولم يلقِ بالاً لصوت قلبه حتَّى أسكته نهائياً.  

فحريٌّ بنا قبل أن ننكبَّ على الطاعات في مواسم الخير وغيرها أن نتفكَّر في سلوكنا، ونضعه في مقياس الشرع الصرف لا على مقياس النفس والهوى والعرف، فنصحِّح ماخرج عن الصراط القويم، وذلك بأن نسألَ أهل العلم الثقات عن ماهية الفعل وحكمه، ونخلص التوبة لله، ونحاول إتقان الفرائض ما أمكن، والمقصود بالفرائض ليست الصلوات فحسب، بل كلُّ فرضٍ يخصُّك، ومنه إتقانك لعملك دون غش، والصدق مع إخوانك المسلمين في القول والعمل، وتنقية القلب من الغلِّ والحسد وغيرهما من الأمراض. وإعادة الحقوق إلى أصحابها، والسعي إلى نيل مسامحتهم في الحقوق المادية والمعنوية، فحقوق الله مبنيةٌ على المسامحة، أمَّا حقوق العباد مبنيةٌ على المشاحة، وقال أحد السلف فأحسن:” نم مظلوماً، ولاتنم ظالماً “

ثمَّ نتفنَّن بأنواع الطاعات والقربات ما شئنا، قال تعالى في الحديث القُدسيّ:” ماتقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتَّى أحبَّه”  فرضى الله لا يُبلغ إلَّا من الطريق الذي شرع، وحُبُّ الله ومحبّته لا يُنالُا إلَّا بفعل ما أمر .  

هل يحتاجنا الله لنصرة دينه؟

هل يحتاجنا الله لنصرة دينه؟

هل يحتاجنا الله لنصرة دينه؟ 

يقول أحدهم: تدّعون أنَّ من واجب المسلم – كلِّ مسلم- السعيُّ لنصر الإسلام، والدفاع عنه، ولكن! هل يحتاج الله إلى خلقه ليدافعوا عن دينه؟! وهو القائل: ((واللهُ مُتِمُّ نورهِ ولو كرهَ الكافرون)) [الصف:8].

لقد تكفَّل الله بدينه! ونحن لن نقدِّم أو نؤخِّر! ومن ثمَّ فإنَّ نصر دين الله إن كان مسؤوليةَ أحد، فهم الشيوخ ورجال الدين! ولا يكلّف الله نفساً إلَّا وسعها!

وأقول: الروتين اليومي لمعظمنا بوصفنا مسلمين، هو أن نستيقظ، ربَّما نؤدِّي صلاة الفجر حاضراً، وربَّما قضاءً، وربَّما هي ليست بالحسبان أساساً، الفطور، العمل/الدراسة، الغداء، إضاعة الوقت بلا طائل، النوم، ونعيدُ الكرَّة، وهذا في أفضل الأحوال إذا مضى النهار بلا تجاوزاتٍ واضحةٍ لحدود الله، واعتداءاتٍ على حقوق الناس.

حسناً، وبعد؟! يمضي العمر، ولم نحقِّق غاية وجودنا، يمضي العمر في ضنكٍ ومشقَّةٍ دون التفاتٍ إلى السبب أو دون أن نعيه.

يمضي العمر بتأفُّفٍ وتبرُّمٍ، وربما يتمنَّى أكثرُنا لو أنَّ الله لم يخلقه أساساً في دنيا المشقةِ هذه.

يمضي العمر، وواحدنا بعيدٌ كلَّ البعد عن روحه التي بين جنبيه، وعمَّا تريد هذه الروح وتبتغي!

يمضي العمر، وقد حقَّقنا مطالب أنفسنا وأجسادنا بنجاح، متناسين تماماً أنَّه _حاشا لله_ أن يخلُقَ الخلقَ ويقيمَ الكون، لنأكلَ ونشربَ ونتكاثرَ!

أليس من العجب أن نعطي لكلَّ شيءٍ في هذه الحياة أهميةً إلَّا الشيء الذي خُلقنا من أجله؟!

أليس من العجب أن ننسى ما فعله السابقون الأوّلون لأجل أقدس شيء؟ لأجل هذه الدعوة؟

أنْ تحمل همَّ نصر الدِّين، وتضعه في رأسِ سُلَّم أولوياتك، ليس تكرُّماً منك وفضلاً، بل هو أقلُّ ما يمكن أن تفعله لمولاك جلَّ وعلا، ولسيِّد الخلق صلَّى الله عليه وسلَّم الذي أدَّى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، فعلَّم أصحابه السير على نهجه، فبايعوه، وصدَّقوه: ((من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا اللهَ عليه، فمنهم من قضى نحبَه ومنهم من ينتظرُ وما بدَّلوا تبديلاً)) [الأحزاب:23].

أن تحمل همَّ هذه الدعوة هو غاية وجودك أساساً، فكيف لا يكون على الأقلِّ” فرضاً”؟  

فقد خلقَ اللهُ الإنسانَ مُكَرَّماً: ((ولقد كرَّمنا بني آدم)) [الإسراء:70]،  وأوكلَ إليه مُهِمَّةَ إعمارِ الأرض وفق القواعد التي أراد، وعلى النحو الذي أمر، وأقرب مايكونُ العبدُ لنفسه وحقيقته، عندما يتمثَّل بوظيفته الأولى التي خُلِقَ من أجلها، وهي العبودية، قال تعالى: ((وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلَّا ليعبدونِ)) [الذاريات:56]، وخلافةُ الإنسان في الأرض هي فرَعٌ عن هذه العبودية، قال تعالى: ((إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة)) [البقرة:30]

قد يقول قائل: أليس معنى أن أكون ناصراً لدين الله، يعني أن آمر الناس بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر وأوضح لهم أمور دينهم و…؟! فكيف أفعل كلَّ هذا إن لم أكن قد درست الشريعة الإسلامية بتفاصيلها كبيرها وصغيرها؟! وهل يتوجَّب عليَّ أن أترك عملي أو دراستي كي أتفرَّغ للدَّعوة إلى الله؟! ومن يعمر الأرض أساساً إن توجَّهنا كلُّنا إلى الدعوة لدين الله؟!

وأقول: من البدهي أنَّ من يريد تعليم الناس شؤون دينهم، ومن يريد أن يصلَ الناس بخالقهم لا بدَّ أن يدعوهم على بصيرةٍ وعلمٍ ومعرفة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وإن قام به بعض المسلمين سقط عن بعضهم الآخر، ولكن لن يسقط عنك واجب تحقيق خلافتك لله على هذه الأرض إن قام به غيرك! لأنَّ هذا الواجب هو هويتك الأولى، فنحن هنا نتكلَّم عن واجب كلِّ مسلمٍ تجاه دينه، سواء كان متبحِّراً في علوم الدين، متخصِّصا بها، أم كان عالماً بالحدِّ الأدنى من شؤون دينه الذي يجب على كلِّ مسلمٍ معرفته.

فأن تنصر دين الله -بكلِّ بساطة- يعني أن تكون على الشأن الذي ينبغي أن تكون عليه، على الشأن الذي وُجدْت من أجله، أن تكون مسلماً، مسلماً حقّاً.

عندما شرَّفنا الله بالانتساب إلى الإسلام فهو لا لتوضع على الهوية الشخصية عند خانة الدِّين كلمة “مسلم“، ولا لكي نُدفنَ في مقابر المسلمين عند رحيلنا من هذه الحياة.

حاشا لله أن يبعث أنبياءَ ورسلاً، وينزل كتباً، وصحفاً عبثاً: ((وأنزلنا إليك الذِّكرَ لِتبيِّنَ للنَّاس مانُزِّل إليهم ولعلّهم يتفكَّرون)) [النحل:44].  

فينبغي على كلٍّ منَّا أن يأخذ دوره، ويعمل جهد استطاعته ليجسِّد الإسلام في شخصه قولاً وفعلاً، وهذا الواجب لا ينحصرُ في شيخٍ أو إمام. فليس المطلوب منك أن تكون متخرِّجاً من كلية الشريعة، أو ترتدي لفَّةً وعمامة لكي تكون خليفةً لله عزَّ وجلَّ في أرضه، وهذا لا يتحقَّق إلَّا بعد فَهْمِ الإسلام كما هو.

فالإسلام لا ينسلخ عن الواقع ليتمثَّلَ بشعائرَ منزليةٍ يقوم بها الإنسان على عجل، وهو لا ينسلخُ عن الواقع ليتمثَّلَ بقرآنٍ يُتلى على جنازة، أو ليتمثَّلَ بدرس وعظٍ نسمعه هنا وهناك، ونقول:” إي والله مقصِّرين،  الله يهدينا“، وفي أفضل حالٍ نذرفُ دمعتين قبل أن نعود لنعاركَ الحياة.

ما لهذا خُلقنا! وما لهذا حُمِّلنا أمَانة الدعوة المحمَّدية، ما لهذا قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: “إنِّي فَرَطُكم على الحوضِ، وإنِّي مُكاثرٌ بكم الأممَ[فتح الباري لابن حجر]، فاليوم نحن كثير، ولكنَّا مع الأسف “غثاءٌ كغثاء السيل“.

ما لهذا حُمِّلنا أمانة (دينٍ، وعقلٍ، وقلب) أطفالنا ويافعونا الذين تتخطّفهم أمواج الرذيلة والانحراف من كلِّ صوب إن نحنُ لم نأخذ بأيديهم، ونُحسنُ بناء عقولهم وتوجيههم، فمن يفعل؟

عندما شرّفنا الله عزَّ وجلَّ بالانتساب إلى دينه، أخذ علينا عهداً أن ننصر دينه كلٌّ حسب قدراته: ((وإذ أخذَ ربُّك من بني آدم من ظهورهم ذريَّتَهم وأشهدَهم على أنفسِهم ألستُ بربِّكم؟ قالوا بلى شهدنا ..)) [الأعراف:172]، فعندما شهدنا وأذعنّا في عالم الذرِّ بربوبية خالقنا، وبعبوديٍتنا له يعني أن نكون على النَّهج الذي أمر به، ويعني أن نسعى جاهدين لنؤدِّي الأمانة ونفي بالعهد، كلٌّ على حسب قدرتهِ وموقعهِ. ينبغي ألَّا يغيب عن بالنا هذا المفهوم.

فحملُ همِّ نصر الدِّين في القلب وجهٌ من وجوه تأدية الأمانة، وهو أضعف الإيمان .

حمل مسؤولية تبليغ العلم النافع للناس وجهٌ من وجوه تأدية الأمانة.

حمل مسؤولية تنشئة الجيل بعيداً عن المفاسد، تأديةٌ للأمانة.

رفع كلمة الإسلام في السلوك والمعاملات، تأديةٌ للأمانة.  

جهادك نفسَك لترقى بها، وتُخرجها من أسرِ الشهوات والأهواء، هو تأديةٌ للأمانة.

الإخلاص في كلِّ عملٍ دينيٍّ أو دنيوي هو في أن يكون لوجهٍ الله فقط، تأديةٌ للأمانة.

السعي لمعرفة الله عزَّ وجلَّ وفهم سننه ومقاصده في القرآن الكريم، تأديةٌ للأمانة.

العمل بإتقانٍ لتقديم خدمة (مادّية/معنوية) للمسلمين تأديةٌ للأمانة.

وتتعدَّد الوجوه مع كلِّ لمحةٍ ونفَس.

وعليه، فنصر دين الله يتمُّ عن طريقِ كلٍّ منَّا، عندما نكون كما أمر، وهذا هو نصرنا “المبدئي” لدين الله.

أمَّا إظهار دين الله، ورفع كلمته، وعودة الأمجاد، فهذا يأتي عندما ننصر -نحن- أوّلاً، عندما نذعن حقَّاً، عندما نَصدُقُ الله، فيصدُقنا وعده، أمَّا أن ينصرنا الله، ويُظهِرنا على من عادانا، ونحن عنه غافلين، فهذا مالا يرضاه عقلٌ، ولا يطالب به إلَّا مُتواكلٌ أو منافق.

وقد وعدَنا الله في مُحكم تبيانه إن نحن أخلصنا له حقَّاً في عبوديتنا أن يرينا نصره وتمكينه: ((وعدَ اللهُ الذينَ آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرضِ كما استخلفَ الذين من قبلهم وليمكنَّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم)) [النور:55]. ومع هذا الوعد أعرضنا وتقاعسنا وتناسينا قوله تعالى: ((وإن تتولَّوا يستبدل قوماً غيركم ثمَّ لا يكونوا أمثالكم)) [محمد:38].

وها نحن تولَّينا، ولم نؤدِّ الأمانة، لم نسخِّر ما وهبنا لأجل ما أمرنا، فأيُّ جحودٍ أكبر من هذا؟

فاللهَ نسألُ ألَّا يستبدلنا، وهو قادر.

واللهَ نسألُ أن يحييَ في قلوبنا الحُبَّ لذاته العليّة أولاً، لأنَّه سبب كلِّ اندفاعٍ، وهمةٍ، ومسعىً نبيلٍ.

واللهَ نسألُ أن يسخِّرنا قلباً، ونفساً، وعقلاً، له ولحبِّه، وعلى حبِّه، لنكون ممَّن يتشرّف بقول الله لهم بعد استقرارهم في جنَّات النعيم “تريدون شيئاً أزيدكم؟” [مسلم].

خالق كلِّ شيء، وربُّ كلِّ شيء، يسأل عباده الذين أخلصوا له في الدنيا: “تريدون شيئاً أزيدكم؟” ثمَّ يكشف لهم عن نور وجههِ الكريم فتكون اللذَّة الكبرى، والنعيم الأكبر.  

واللهَ نسألُ أن يجعلَ لنا نصيباً في درء النجس عن دينه المعظَّم، وردِّ إبطال المبطلين، وفساد الفاسدين عنه. وأن يعرِّفنا عظمة دينه، ويجعل همَّ الدعوة إليه، ورفع كلمته، هو الغاية الكبرى والمقصد الأعظم بأي وسيلةٍ استطعنا.

ولكن قد يخطر لنا اشكال: أليسَ اللهُ قادراً على أن يُظهر هذا الدين بلمح البصر؟ فما حاجته لنا؟ أليس قادراً على أن يزيل كلَّ الشبهات والأباطيل الملتصقة بدينه بكلمة “كن”؟!

كلُّ مسلمٍ مُسلِّم، سيُجيب بالإيجاب، ولكنَّه أمر الله في استخلافنا.

وإن قيل: لمَ كلُّ هذا أساساً؟ ولم خُلقنَا لنُستَخلَف؟ وما الذي يستفيده الله تعالى من هذه المهمة التي أوكلها إلينا؟

أمَّا ما يستفيده، فنحن عبيده، وهو ربُّنا، ومتى كان العبدُ هو الذي يفيدُ ربّه؟!

وأمَّا لمَ خلقَنا الله تعالى، وكلَّفنا بالعبودية وبمهمَّة إعمار الأرض؟!

فقد سألتِ الملائكةُ اللهَ هذا قبلنا فقالوا: ((أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماءَ ونحنُ نسَبِّحُ بحمدِكَ ونقدِّسُ لك؟)) فأجابهم تعالى: ((إنِّي أعلمُ مالا تعلَمون)) [البقرة:30]

فهذا شأنه عزَّ وجلَّ، يخلق ما يشاء، ومَن يشاء، ويكِلُ لخلقه ما شاء على النحوِ الذي يشاء، نحنُ نُسأل، وهو لا يُسأل ،فحريٌّ بنا أن نشتغل اليوم بما يُسعِفنا غداً، يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنون، لا أن نخترعَ أسئلةً ثمَّ نُفتِّشَ عن أجوبةٍ لها، رجاءَ أن يُعزَّنا اللهُ بالإسلام، وُيعِزَّ الإسلامَ بنا .

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين

الحركة النسويّة في مواجهة الظلم الديني والاجتماعي

الحركة النسويّة في مواجهة الظلم الديني والاجتماعي

الحركة النسويّة في مواجهة الظلم الديني والاجتماعي

ترفع النسويَّات أصواتهنَّ في مواجهة ما تتعرّض له المرأة من الظلم الذي فرضته العادات والأديان، فعاشت مضطهدةً مقهورةً مسلوبة الحقوق… وكانت الحركة النسويّة هي المخلّص لها، وتسعى إلى تحريرها من تلك القيود، واستعادة حقوقها وكرامتها!

إنّ هذا الظلم يلاحق الأنثى منذ نشأتها ويدوم معها طيلة حياتها!

تقول الدكتورة نوال السعداوي في هذا الصدد: (بدأ الصراع بيني وبين أنوثتي مبكّراً جدّاً، قبل أن تنبت أنوثتي، وقبل أن أعرف شيئاً عن نفسي وجنسي وأصلي… قبل أن أُلَفَّظ إلى هذا العالم الواسع. كلُّ ما كنت أعرفه في ذلك الوقت أنّني بنتٌ كما أسمع من أمّي. ولم يكن لكلمة بنت في نظري سوى معنىً واحد، هو أنّني لست ولداً، لست مثل أخي، أخي يقصّ شعره ويتركه حرّاً ولا يمشطه، وأنا شعري يطول ويطول، وتمشطه أمّي في اليوم مرّتين، وتقيّده في ضفائر، وتحبس أطرافه بأشرطة. أخي يصحو من نومه ويترك سريره كما هو، وأنا عليّ أن أرتّب سريري وسريره أيضاً. أخي يخرج إلى الشارع ليلعب بلا إذن من أمّي وأبي، ويعود في أيّ وقت، وأنا لا أخرج إلا بإذن… أخي يأخذ قطعة من اللحم أكبر من قطعتي، ويأكل بسرعة ويشرب الحساء بصوت مسموع، وأمّي لا تقول له شيئاً. أمّا أنا فأنا بنت، عليَّ أن أراقب حركاتي وسكناتي،…عليّ أن أخفي شهيّتي للأكل، فآكل ببطء وأشرب الحساء بلا صوت…) [مذكرات طبيبة: (ص:13)].

فعين الرقابة غضيضة عن الولد، وترمق البنت بنظرات حادّة!  

نعم هذا لا يُنكَر في كثير من المجتمعات، وإنّ هناك عاداتٍ وتقاليد بالية قد تساهم في ظلم المرأة، وظلم الضعفاء، وذلك مرهونٌ بالابتعاد عن الدين والعلم والعدل، وقلّة الوعي، وكلّما تمسّك المجتمع بالدين والعلم وتحلّى بالوعي تلاشت مظاهر هذا الظلم. ولكنَّ ما تشكو منه الكاتبة في هذا المقطع وغيره، وتراه ظلماً وانتقاصاً من حقّ البنت والمرأة، ليس مبرّراً لنشر النسويّة، وبعض ما تراه ظلماً لا يعدو كونه تمييزاً للأنثى عن الذكر من حيث المظهر، أو حرصاً عليها وتقويماً لسلوكها، من حيث تهذيب حركاتها، واستئذان أهلها في الخروج، وعدم الشراهة في الطعام، ونحو ذلك، وهذا كلّه من الآداب العامّة التي تصبّ في صالحها…

فقد يقصّر المجتمع في توجيه الأولاد وتقويم سلوكهم، ويؤكد على البنات من باب العادات أو الحرص أو غير ذلك.

أمّا الإسلام: فإنه بريء كلّ البراءة من ظلم البنت، فلا يحقّ للأخ تسخير الأخت في خدمته إلّا عن طيب نفس منها، وهي غير مسؤولةٍ عن إهمال أخيها، ولم يحرم الدين المرأة شيئاً من حقوقها لجنسها، بل منحها شخصيّتها المستقلّة، وحقوقها كاملة، لكنّه راعى الفروق بينهما والفطرة التي نشأت عليها من الزينة واللطف، فميّزها بما يصلحها، من صفة اللباس الذي ترتديه، وأباح لها لبس الذهب والفضّة والزينة، وجعلها مستقلّة بمالها، ولم يوجب عليها إنفاق شيءٍ منه، ولم يلزمها بالعمل وكسب المال، وأوجب على ذويها الإنفاق عليها حتى لو كانت غنيّة.

وبالمقابل ميّز الرجل بما يناسب طبيعته، فحرّم عليه الحُليّ والزينة وما يتعلّق بالليونة، وأوجب عليه الكسب والإنفاق على المرأة والأولاد…  

  وقد حرص الإسلام على العدل، وضمان حقوق المرأة في جميع تفاصيل الحياة، والكلام في ذلك يطول، وليس ثمّ مقام التفصيل، ولكن نكتفي بمثال واحد، يشير إلى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على معاملة البنات بالعدل مع الأولاد، حتّى في أصغر الأمور، ولو في القُبلة، فعن أنس رضي الله عنه قال: ((كان رجل جالسٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه ابن له، فأخذه فقبّله، ثمّ أجلسه في حجره، وجاءت ابنة له، فأخذها إلى جنبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا عدلت بينهما؟)) [الطحاوي في شرح معاني الآثار:(5847)، البيهقي في شعب الإيمان: (8327)].

يعني: حضَّه على تقبيل البنت، وأن يضعها في حجره كما صنع بولده. وإنّ العدل والمحبّة بين الأولاد والبنات لم يغفلها دين ولا خُلق…

ولم يقف الدين الإلهي ولا قانونٌ منصف، ولا مجتمع واعٍ ضدّ المرأة، وإنّ معالجة حالات ظلم المرأة تتمّ بنشر الوعي والتمسُّك بتعاليم الدين الذي ضمن العدل للجميع.

على أنّ القصد من هذا المقال بيان الحقيقة تحت مظلّة الدين والأخلاق، وليس الحوار مع من يسعى إلى نسف الدين من أصله.  

فإذا نظرنا في النسويّة نجدها لا تبحث عن حقوق المرأة وإنصافها، ولا تقصد مناهضة الظلم، بل تريد التمرُّد على المجتمع بكلّ أركانه، فضخَّمت الأمور، وهوّلت الصورة، ووضعت المرأة في معركةٍ وهميّةٍ حامية الوطيس، ووصفتها بأنّها تقف وحيدةً ضعيفةً عازلةً مظلومةً مهزومة، مسلوبة الحقوق، يواجهها جيشٌ جرّارٌ من المجتمع والأديان يرفعون عليها سلاح الظلم والبطش والقهر…

تقول د. نوال السعداوي: (معركة الرجل والمرأة، تلك المعركة المزيّفة العجيبة، تقف فيها المرأة أمام الرجل وحدها، ويقف فيها الرجل أمام المرأة ومن ورائه متاريس من التقاليد والقوانين والأديان وسدودٌ من التاريخ والأحقاب والأجيال، وصفوفٌ من الرجال والنساء والأطفال، يحملون ألسنةً ممدودةً حادّةً كسنان السيوف، ويصوّبون عيوناً مفتوحة كفوّهات البنادق، ويفتحون أفواهاً واسعةً كالمدافع والرشَّاشات) [مذكرات طبيبة: (ص:54)].  

فقد عمّمت الصورة وهوّلت الأمر، وادّعت أنَّ التمرّد على الدين والمجتمع هو السبيل الأوحد لنيل حقوق المرأة.

ولكن إذا قارنّا بين الشعارات التي يرفعنها وبين أفعالهنّ في الواقع نجد التناقض جليّاً، وأنّ تلك الشعارات خلّابة خدّاعة.

فإنّ ممّن رفع شعار النسويّة وادّعى رفع الظلم الذي يحيط بالمرأة بالصورة المبالغ فيها، هدى شعراوي زعيمة النسويّات في مصر، التي خلعت الحجاب في ميدان الإسماعيليّة، ونادت بحرّيّة المرأة وإنصافها ورفض الاعتداء عليها…

وإليكم قصَّة زعيمة النسويّات هذه التي ذكرها الأديب مصطفى أمين:

 ذات يوم قام محمد ابن هدى شعراوي بملاحقة الفنانة فاطمة سريّ، من مسرحها إلى بيتها، وهي تصدّه وتردّه لكنّه بقي يتابعها، حتى اغتصبها، فحملت منه، وطلبت إصلاح خطئه بتثبيت العقد في المحكمة الشرعيّة؛ للحفاظ على حقوق الجنين الذي بينهما، والستر على الطرفين، فوافق على طلبها، وفعل ما طلبت منه.

وعندما سمعت بذلك أمّه هدى شعراوي ثارت ثائرتها، ورفضت الاعتراف بالزواج من هذه الفنانة، وأجبرته على إلغاء تثبيت هذا العقد، وأمرت ولدها أن يسافر إلى أوروبّا للابتعاد عن تلك المرأة، كي لا يعترف بالمولود عند وضع الحمل، لكنّ محمد الشعراوي وعد فاطمة سريّ بأن تلحقه إلى تلك البلاد، وسوف يتَّفقان هناك، ثمَّ سافرت فاطمة سري إلى أوروبا، وقد ولدت بنتاً وأخذتها معها، وتواعدت مع محمَّد شعراوي، لكنَّه أتعبها في تحديد الأمكنة التي يلتقيان فيها من دولةٍ إلى دولة، فهي تتبعه وهو يهرب ويخلف، حتى تمّ اللقاء في باريس، ولم يزل متهرباً من مسؤوليّته واعترافه ببنته، فيعدها أن يعترف ببنته ويخلف، حتى صرّح بأمره صبيحة يوم عندما اتصلت به، فأغلق في وجهها الهاتف وانهال عليها سبّاً وشتماً، فلجأت فاطمة سريّ إلى أمّه، هدى شعراوي، زعيمة النسويّة التي تدافع عن حقوق المرأة ولا ترضى لهنّ بالظلم!  

وأرسلت لها رسالة تطلب منها الإنصاف بعد أن خدعها ولدها، فقالت في مقدمة الرسالة: (سلاماً وبعد: إنّ اعتقادي بك وبعدلك، ودفاعك عن حقّ المرأة، يدفعني كلّ ذلك إلى التقدّم إليك طالبة الإنصاف، وبذلك تقدّمين للعالم برهاناً على صدق دفاعك عن حقّ المرأة) ثمّ عرضت قضيتها ومما قالته: (فلم يجد محمد منّي قبولاً للمال، وعندما وجد منّي امتناعاً عن إنكار نسب ابنته سكت عنّي تماماً، فوسّطت حضرة فهيم أفندي باخوم مُحامِيَهُ، فاجتهد في إقناعه بصحّة حقوقي وعقودي واعترافه بابنته، وتوسّط في أن ينهي المسألة على حلّ يرضي الطرفين، فلم يقبل نجلك نصيحته بالمرّة، وكان جوابه أن ألجأ برفع دعوى عليه ومقاضاته، وهو يعلم تماماً نتيجة الدعوى تكون في صالحي، ولا أدري ماذا يفيده التشهير في مسألة كهذه سيعلم بها الخاصّ والعامّ، وسنكون أنا وأنتم مضغة في الأفواه… وهذا يضطرني إلى أن أرجع إليك قبل أن أبدأ أي خطوة قضائيّة ضدّه، وليس رجوعي هذا عن خوف أو عجز، فبرهاني قويّ، ومستنداتي لا تقبل الشكّ، وكلّها لصالحي، ولكن خوفاً على شرفكم وسمعتكم وسمعتي… فهل توافقين يا سيّدتي على رأي ولدك في إنهاء المسألة أمام المحاكم؟

أنتظر منك التروّي في الأمر، والردّ عليّ في ظرف أسبوع؛ لأنّني قد مللت كثرة المتدخّلين في الأمر… ودمتِ للمخلصة فاطمة سري).

وما كادت زعيمة حقوق المرأة هدى شعراوي تتلقّى هذه الرسالة حتّى ثارت ثائرتها، وعدّته إعلاناً لحرب، وإنذاراً نهائيّاً مدّته أسبوعٌ واحد، ولم تقصد تلك المرأة شيئاً من هذا أبداً… وعدّته النسويّات المحيطات بالزعيمة بأنَّه قلَّة أدبٍ ووقاحةٌ وتطاولٌ من تلك المغنّية على هذه الزعيمة، ودفعوا هدى شعراوي للدخول في صراعٍ معها، وكانت من بينهنّ نوال سعداوي!

 وتحمّس الكبراء والعظماء ضدّ فاطمة سري، هذه الصعلوكة الفلّاحة التي تتطاول على القامات العليا، وتلوّث شرف أعرق الأسر والعائلات!

وفي كلّ يوم تتضاءل فاطمة سريّ وتتضخم زعيمة حقوق المرأة!

فانقسم الناس إلى قسمين:

الفقراء والبسطاء والمظلومين تعاطفوا مع الفنانة.

والأغنياء والكبراء والمترفين وقفوا مع هدى شعراوي! 

ثمّ برز محام وصحفي اسمه فكري أباظة، ووقف مع فاطمة، ورفع القضيّة إلى سعد زغلول فأبى أن يتدخّل، ثمّ رفعها إلى وزير العدل، فأقرّ بالظلم، وأبدى استعداده لنصرة صاحب الحقّ، والوقوف مع الضعفاء، فوظّفت هدى شعراوي كلّ ما تملك من جاه وأموال لأثبات براءة ولدها من فعلته الشنيعة، ووصف تلك المرأة بأنّها أفّاكة خدّاعة محتالة، وبذلت الكثير من الأموال في الرشاوى، ولكن في نهاية المطاف ربحت تلك المرأة دعواها. [يُنظر: مسائل شخصيّة للكاتب مصطفى أمين (ص: 111) وما بعدها].

لم نذكر هذه القصة تعاطفاً مع فاطمة سريّ ولا تبريراً لخطئها الفادح وتعريض نفسها للابتذال، وإنَّما نذكرها لإظهار الحقيقة المزيّفة التي ترفعها النسويّات، فإنّ زعيمة النسويّة ذاتها تقف مع ولدها الظالم ضدّ المرأة المظلومة، وتثور ثائرتها عندما ترفع إليها تلك المرأة شكواها وتطلب الإنصاف منها!… بل تبذل زعيمة النسويّات الأموال الطائلة في الرشاوى؛ لتسلب تلك المرأة حقّها، وتتّهمها بالباطل، وبأنّها محتالةٌ خدّاعةٌ أفّاكة!… وتأخذها العزّة والتجبّر والفخر بعراقتها وتستصغر وتحتقر تلك المرأة المظلومة!

وتقف معها جميع النسويّات اللواتي يرفعن الشعارات البرّاقة الخدّاعة الخالية الخاوية من المضمون والحقيقة ومن بينهنّ نوال سعداوي!  

  لو كانت النسويّة تدعو إلى الحقّ، لطالبت بحقوق المرأة المشروعة ضمن ما يتفق مع القانون والدين والعرف، فالعدل لا ينكره منصف، والظلم لا يقرّه عاقل، لكنّ الحركة النسويّة لم تأتِ بهذا، بل جاءت بالعدوانيّة والتمرّد على المجتمع كافّة، فهي تسعى إلى إزاحة الدين ونسفه ومهاجمته، وتفكيك الأسرة وتشتيتها، ومحو السلطة الأبويّة، وإنهاء الزواج وفق منظوره التقليدي، ونشر الحرّيّة الجنسيّة، ورفض الاختلاف البيولوجي بين الذكر والأنثى، ورفض الاختلاف الجندري، والدعوة إلى التفلّت والفساد بكلّ أنواعه…  

إنّ هذه المطالب التي ترفعها النسويّات تنبع من اضطراب نفسيّ، إذ لا يُتخيّل أن يرفض إنسانٌ سويٌّ نفسيّاً الفروق البيولوجيّة الطبيعيّة بين البشر، وهو أمر مستقرّ تاريخيّاً على وجه الأرض، وثابتٌ علميّاً وعقليّاً ومنطقيّاً، محسوسٌ وملموس في الهيئة والشكل والتصرّفات والقدرات البدنيّة الجسديّة، فكيف لإنسان أن ينكر ذلك ويكون سليماً نفسيّاً؟

إنّهنّ يعادين المجتمع معاداةً سافرة، ولا يراعين السلوك المقبول، ولا يُقِمن اعتباراً للصواب والخطأ، مع قلوبٍ متحجّرةٍ خالية من العواطف، ويتجاهلن مشاعر الآخرين ولا يأبَهْن بها… هذه الأعراض ذاتها التي تظهر بجلاء في أحد ركائز الفلسفة النسويّة (الفيمينزم) هي من مظاهر الاضطرابات النفسيّة. [ينظر: صفحة أخيرة، مقال بعنوان: النسويّة والأمراض النفسيّة والعقليّة، بقلم: مولانا العارف، واحة النفس المطمئنّة، مقال بعنوان: سيكلوجيّة التطرّف، للدكتور محمد المهدي استشاري الطب النفسي].  

 وإنّ الآثار التي تتركها النسويّة على المجتمع آثارٌ كارثيّةٌ هدّامة، فإنّهن يسعين إلى الانحلال من الدين والأخلاق وتفكيك الأسر، والتمرّد على المجتمع، وإزالة الفروق بين الذكر والأنثى، ونشر المثليّة، والجندر…

وكانت النتائج السلبيّة للنسويّة ظاهرة حسب ما ذكره تقرير (u.s.a TO DAY) في الولايات المتّحدة، وقد ذكر التقرير أنّ:

– 80% من الأمريكيّات يعتقدن أنّ الحرّيّة التي حصلت عليها المرأة خلال الثلاثين عاماً هي سبب الانحلال والعنف في الوقت الراهن.

– 75% منهنّ يشعرن بالقلق لانهيار القيم والتفسخ العائلي.

– 87% يرين لو أنّ عجلة الحياة عادت إلى الوراء لاعتبرن المطالبة بالمساواة مؤامرةً اجتماعيّةً ضدّ الولايات المتحدة وقاومن اللواتي يرفعن شعارها. [المرأة في عالم مختلف، أ.د أكرم ضياء العمري: (ص: 68)]

هل ينقلب البغض حباً.. بكلمة؟!

هل ينقلب البغضُ حبّاً.. بكلمة؟!

هل ينقلب البغضُ حبّاً.. بكلمة؟!

بقلم: أحمد الشافعي

 تخيلوا أنَّ رجلاً كان سيِّداً في قومه، وأحدَ زعماء المشركين الذين آذوا المسلمين والنَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، يقع أسيراً بين أيدي مجموعةٍ صغيرةٍ من المسلمين، كانت قد خرجت قبالة نجد في مهمَّة استطلاعية، وتحسُّباً لأيِّ غارةٍ قد يُغار بها على المدينة.

جاء الصحابة بهذا الرجل وربطوه في سارية المسجد، وهم لا يعرفون أنَّ هذا الأسير هو سيِّد أهل اليمامة، وهو بمثابه صيدٍ ثمينٍ أصبح بحوزتهم، وتحت تصرُّفهم.

لما رأى النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم هذا الأسير عند سارية المسجد عرفه، وقال لأصحابه: أتعرفون من الرجل؟ هذا “ثمامة بن أثال” الحنفيُّ سيِّد اليمامة.

_ هذه القصَّة ليست مجرَّد كلماتٍ من سيرته صلَّى الله عليه وسلَّم يُستأنس بها فقط، ولكن إن أمعن صاحب النظر بين سطورها فسيجد فيها العبر والحكم، وبُعدَ النظر في تصرُّف النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

فقد أمر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أصحابه أن يحسنوا ضيافته، فتسابقوا رضوان الله عليهم لتقديم أخيَر ما عندهم من طعامٍ وشراب، ويقال أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم قدَّم له من حليب ناقته، وجاء إليه وسأله: “ما عندك يا ثمامة” فقال: “عندي خير، إن تقتل، تقتل ذا دم، وإن تُنعم، تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل منه ما شئت”.

وقف الصحابة يرقبون ردَّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فما كان منه صلَّى الله عليه وسلَّم إلَّا أن تركه وذهب، وعاد إليه في اليوم التالي، وقال: “ما عندك يا ثمامة”، فأعاد ثمامة مقولته: “إن تقتل، تقتل ذا دم، وإن تُنعِم تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد مالاً فاسأل ما شئت”، فتركه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يردَّ عليه، وعاد إليه في اليوم الثالث، وسأَله: “ما عندك يا ثمامة” فأعاد مقولته أيضاً: “إن تقتل…”.

لكنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أخذ قراراً بشأن الأسير هذه المرة، وقال: “أطلقوا ثمامة”.

مشى ثمامة مذهولاً ممَّا جرى، وكذلك الصحابة، فمثل هذا الرجل قد يُكسب مقابل حريَّته الكثير، وخصوصاً أنَّه سيِّدٌ في قومه…!!

هل انتهت القصَّة هنا…؟! 

ما حصل مع ثمامة، وما لقيه من إحسانٍ وعفوٍ من النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وما شاهده خلال تلك الأيَّام في المجتمع المسلم من أخلاقٍ ومعاملات، كان مختلفاً تماماً عن تلك الإشاعات التي تُطلَق عن المسلمين، وكان ذلك كلُّه كفيلاً بأن يُدخل الهداية إلى قلبه، فما إن خرج من المسجد حتَّى انطلق إلى نخلٍ قريبٍ من المسجد، فاغتسل ثمَّ دخل إلى المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمَّداً رسول الله، يا محمَّد، والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ، والله ما كان من دينٍ أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ دينٍ إليّ، والله ما كان من بلدٍ أبغض إليَّ من بلدك فأصبح بلدك أحبَّ البلاد إلي، وإنَّ خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشَّره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمره أن يعتمر، فلمَّا قدم إلى مكَّة قال له قائل: صبوت (خرجت من دينك)؟ قال: لا، ولكن أسلمت مع محمَّدٍ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّة حنطةٍ حتَّى يأذن فيها النَّبيُّ  صلَّى الله عليه وسلَّم.

وقطع ثمامة بالفعل عن أهل مكَّة ما كان يأتيهم من محاصيل وغذاء، وحين أحسُّوا بالضرر، ما كان منهم إلَّا أن بعثوا بكتابٍ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يشتكون إليه حالهم إثر منع المؤنة عنهم، ويطلبون منه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يكلِّم سيَّد اليمامة أن يتراجع عن قراره.

وبالرغم من حالة الحرب مع مشركي مكّة، إلَّا أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم كتب إلى ثمامة: “أن خلِّ بين قومي وميرتهم”، فامتثل ثمامة لأمر النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، واستأنف إرسال المحاصيل إلى مكَّة، فارتفع عن أهلها الخوف من المجاعة.

أخيراً… ولنرجع الآن إلى بداية القصَّة، ولنفترض أنَّ الأمور لم تسر كما سارت، ولم يتعامل معه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على هذا الشكل، فما كان ليحصل حينئذٍ؟

هل كان لثمامة أن يُسلم، ويَحسُن إسلامه، وهل سيكون لاحقاً من فضلاء الصحابة، وهل كان ليهدي الله به قومه فيسلم أكثرهم…

لم يكن ذلك لولا حكمة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وتطبيقه لأمرِ الله في التعامل مع الأسرى، والوقوف عند قوله عزَّ وجلَّ في العفو عن المسيء: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسنُ فإذا الذي بينك وبينه عداوة ٌكأنَّه وليٌّ حميم} (فُصِّلت:34).  

تظن أنك عاجز عن فعل شيء لكنك قادر على شيء

تظن أنك عاجز عن فعل شيء.. لكنك قادر على شيء

تظن أنك عاجز عن فعل شيء لكنك قادر على شيء

بقلم: أغيد الخطيب 

قد يبادر لذهنك أخي الكريم عند قراءتك العنوان أنَّ هذه مقالةٌ تحفيزية، أُخبرك فيها عن قدرتك على القيام بالمهام المتراكمة عليك، أو عن قصص تخديرية عن نجاح أشخاص كانوا ينامون ساعاتٍ كثيرة ونجحوا في الحياة، أو أنَّني أضحك عليك بكلماتٍ معسولة لتدفع لي أموالاً مقابل كورس معين، لكن لا!!!!!

الأمر مختلفٌ تماماً، كتبت هذه المقالة لأذكِّرك وأذكِّر نفسي بإخواننا الذين تركناهم وهم في أمسّ الحاجة لنا، وهجرناهم في أشدّ الأوقات عليهم، وصمتنا عمَّا يحصل لهم في أعظم الأوقات التي ينبغي التحدُّث فيها، إخواننا في غزّة، في جباليا، إخواننا في فلسطين، في لبنان، في اليمن، في سوريا، في السودان، إخواننا المسلمون الذين قال الله تعالى عنَّا: (إنّما المؤمنون إخوة)، والذين قال عنهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) [صحيح مسلم]. هل شعرت، هل عرفت ما أعني؟؟

ستقول لي: ما باليد حيلة… لكنَّك مخطئٌ تماماً، سأخبرك وأذكِّر نفسي بما علينا فعله.

أوَّلاً، ابدأ بنفسك: تُب إلى الله، فإنَّ توبتك سوف تساهم في تسريع الفرج، ما دليلي على ذلك؟

يروى أنَّه بعد فتح صلاح الدِّين الأيوبي لبيت المقدس، تحالفت الأمم الأوروبية لاستعادة بيت المقدس، فطلب صلاح الدين من شيخه أن يدعوَ له بالنصر، فرفض الشيخ!! وأخبره بأنَّ عليه أن يطلب من الناس أن يصلحوا أنفسهم أوَّلاً، فذهب ثمَّ عاد ثانيةً، وأخبره أنَّ الجيوش قد استكملت العتاد، وسوف تبدأ بالحراك وطلب منه أن يدعو له، فرفض ثانياً، وضربه على صدره فوقعت عمامته، وأمره أن يُصلح قومه قبل أن يدعو له، فأرسل رسائل إلى جميع الأقطار أن يُصلحوا أنفسهم ويتوبوا إلى الله وعاد إلى شيخه فدعا له، فتعثَّرت بعض الجيوش على الطريق، وتخلَّف بعضها، وانتصر صلاح الدين ولم تُسرق القدس… فتُب أخي إلى الله، واترك المعاصي والذنوب التي أنت واقع فيها.

ثانياً، انشر:  لا تقل ليس لدي متابعين، انشر وعرِّف العالم، عرِّف المحيطين بك بما يحدث، لا تسكت فهم يريدونك أن تسكت، ادعم وانشر ولا تتوقَّف عن نشر معاناتهم، علِّ صوتك وإن يصل إلى واحد فيتوب إلى الله أو ينشر كما تنشر.  

ثالثاً، قاطع: لا تشترِ المنتجات التي تدعم هذا الكيان الغاصب القاتل، قطعة شوكولا تستلذّ بها قد تتسبَّب بقتل شخصٍ بريءٍ ليس له ذنبٌ سوى أنَّه ولد في هذا المكان، ربما تقول: أنا أعيش في مكانٍ كلُّه منتجاتٌ وضعت في لائحة المقاطعة، قاطع “البراندات” الأساسية التي تدعم الكيان على صفحاتها بكلِّ جرأة، واستغفر الله على كلِّ منتجٍ تشتريه وأنت غير قادر على بديلٍ غير مقاطع، واعلم أنَّ الأمر لا يقتصر على المنتجات فقط، بل هناك أناس يحتاجون أن تقاطعهم، فلا بد أنَّك رأيت الحفلات التي تجرى في الوقت الذي يباد فيه إخواننا، وكأنَّهم في عالم غير عالمنا ، فقاطعهم ولا تتفاعل على منشوراتهم، كي لا تكون سبباً في انتشارهم.

رابعاً، اعتبر: تعلّم الدروس من هؤلاء الأبطال، الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم وعوائلهم في سبيل الله تعالى، تعلّم منهم الصّبر والشّجاعة ، تعلّم الرضا بالقدر ولو كان ظاهره مؤلماً، وارض به، ولا تيأس، لا تقنط من ضيق رزق، أو لأجل شيء أحببته فلم تستطع أن تشتريه، فالأمر أكبر من ذلك!

خامساً، ادعُ: ادعُ لهم، لا تتوقَّف عن الدعاء، استيقظ قبل الفجر لأجل أن تدعو لهم، ، ادع لهم في كلِّ سَكَنة وحركة، تذكَّرهم عندما تأكل وتشرب وتأوي إلى فراشك بسلام، تذكَّرهم دائماً، واجعل لسانك يلهج بالدعاء لهم.

سادساً، صحّح الصّورة: وضّح للعالم قبح الجرائم التي يقوم بها الصهاينة، وما يقومون به من قتل أبرياء لم يفعلوا أيَّ شيء، عرِّف الناس أنَّ الأمر أكبر من الطوفان الذي حدث، فعمر الأمر عقود، عرِّفهم أنَّ الإبادات التي يقومون بها هي ضدّ جميع القوانين الدّولية، ويجب أن يعاقبوا عليها، ويجب ألَّا يسكت عنها أبداً!! تحرّك… تحرّك… تحرّك!ّ!!!!!

جَدَّ الزَّمانُ وأنتَ تلعَبُ

                                        والعُمرُ في لَا شيءَ يذهبُ

كَم قَد تَقُولُ: غداً أتُوبُ

   غداً، غداً، والمَوتُ أقربُ

ضغوطات الحياة والثبات على الإيمان

ضغوطات الحياة والثبات على الإيمان

ضغوطات الحياة والثبات على الإيمان

ينطلق المسلم في حياته كلِّها من منطلقاتٍ شرعية، ويتحرَّك بناءً على أسسٍ ثابتةٍ قوية، فلا يستسلم لهواه ونفسه الأمَّارة بالسوء، ولا يصبح إمَّعةً يتبع كلَّ متكلم، ويسير خلف كلِّ مناد، كما أنَّه لا يرضخ لضغط الواقع الذي يحيط به، والمجتمع الذي يعيش في وسطه.

هي مشكلةٌ كبيرةٌ وقع فيها عددٌ من الناس، فنرى أحدهم يحبُّ شيئاً، ولكنَّه لا يفعله؛ خوفاً من مخالفة الواقع وانتقادات المجتمع. أو يكره شيئاً وينتقده في نفسه، لكنَّه في الواقع يمارسه مجاملةً لواقعه وبيئته التي يعيش فيها.

وربَّما يتَّخذ أحياناً مواقف فيصلية، ويقرِّر قراراتٍ مهمَّة، ليس راضياً عنها، ولا مطمئناً لها، وإنَّما هناك ضغوطاتٌ وعوامل جعلته يُصدر تلك القرارات، أو يتَّخذ تلك المواقف والتصوُّرات.

فكم من إشكاليةٍ وقع فيها مسايرةً للواقع؟

وكم من مخالفةٍ مارسها نتيجة لضغوطات الواقع؟

وكم من عاداتٍ قبيحةٍ سايَرها مراعاةً للواقع والتماساً لرضى الناس وتجنُّباً لسخطهم؟

وربَّما يقع -والعياذ بالله- في المعاصي… ثمَّ يعتذر بالواقع!

نحن بحاجة إلى التثبـيت والثبات خاصَّةً في هذا الزمان الذي كثرت فيه الشهوات، وتتابعت فيه الشبهات، وازدادت فيه التأويلات، وكثرت فيه الاختلافات، واختلطت فيه الأمور، والتبس فيه الحق بالباطل، فصرنا نقول أقوالاً أو نفعل أفعالاً ثمَّ نحكم عليها أحكاماً غالباً ما تصدر أحكامنا على هذه الأمور من ضغط الواقع لا من حكم الشرع.

قال النَّبيُّ e: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ)) [الترمذي].  

 إنَّ مُشكلة (ضغط الواقع) مشكلةٌ عظيمة، ضعف كثير من المسلمين اليوم أمامها، واستسلموا لها، وضعفوا عن مقاومتها، وإذا كان رسولنا e قد قال له ربَّه: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) [الإسراء: 74] فكيف بغيره؟ فإنَّ غيره أحوج إلى التثبيت، وأولى أن يُخاف عليه من تأثيرات الواقع وضغوطاته.

 وتعظم هذه المصيبة وتشتدُّ حين نجعلها هي الأصل والمطلوب، فكلُّ ما وافق أهواءنا ورغباتنا وخالف الهدي الإسلامي وأحكامه قمنا بضمِّه وأدخلناه ضمن دائرة الإسلام، تحت حُجَّة أنَّه صار واقعاً، ولا مناص لنا من ممارسته وارتكابه، فأدخلنا كثيراً من الأمور في الدِّين ونسبناها إليه والدِّين منها براء، وبدلاً من أن نكيِّف الواقع للإسلام صرنا نكيِّف الإسلام للواقع، وبدلاً من اعتبار الأمور النادرة والرخص استثناءاتٍ وحالاتٍ اضطرارية، قمنا بجعلها منهجاً نمشي عليه ونراه هو الأصل، ومن خالفه فهو المتزمِّت المتشدِّد.

وكأنَّنا نسينا قول الله سبحانه وتعالى: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:63]

وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران:7]    

إنَّ الضغوطات حينما تشتدُّ وتقوى فإنَّها تميِّز أهل الإيمان الحقيقيين عن غيرهم ممَّن يدَّعي الإيمان أو أنَّ إيمانه ضعيف رخو، وتكشف المؤمنين الصادقين من غيرهم، ولهذا حينما اشتدَّ الضغط على المسلمين يوم الأحزاب وبلغ بهم الخوف أشُدَّه، واجتمع عليهم المشركون من الخارج، واليهود من الداخل، وحوصروا من كلِّ الجهات حصاراً خانقاً، انقسم المحاصرون إلى قسمين:

قسمٌ ثبت على دينه، معتزٌّ بإيمانه، صابرٌ على تلك الضغوطات العظام، التي زاغت فيها الأبصار، وبلغت فيها القلوب الحناجر، وهم أهل الإيمان والعزَّة الذين مدحهم الله بقوله: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22]

وقسم آخر تقهقر وانهار لتلك الضغوطات والتأثيرات، فلم يصبر عليها ولم يتحمَّلها، فقال الله عنهم: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) [الأحزاب:12]

 إنَّنا نقول هذا لأنَّ هناك من يقول أنَّه لا عذر اليوم من الواقع وضغوطاته، وأنَّ الإنسان في هذا العصر إن لم يستجب لهذه الضغوطات وينجرف وراءها فإنه سيعيش وحده ويبقى منعزلاً عن واقع الحياة، ولن يستطيع أن يؤثِّر فيها أو يغيّر، ولهذا فلابدَّ عندهم من التأثُّر بتلك الضغوطات، حتى يستطيعوا بزعمهم التغيير من داخل الواقع لا من خارجه، وهذا _لا شكَّ_ تصوُّرٌ مغلوطٌ ومنهجٌ مخالفٌ لمنهج النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، الذي غيَّر وجه الأرض كلِّها دون أن يحتاج إلى الاستسلام لتلك الضغوطات الكبيرة التي كانت تحيط به والأرض يومئذ على الضلال.

يقول النَّبيُّ e: ((إِنِّي مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَهَافَتُونَ فِيهَا أَوْ تَقَاحَمُونَ تَقَاحُمَ الْفَرَاشِ فِي النَّارِ وَالْجَنَادِبِ -يَعْنِي: فِي النَّارِ- وَأَنَا مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنَا فَرَطٌ لَكُمْ عَلَى الْحَوْضِ فَتَرِدُونَ عَلَيَّ مَعًا وَأَشْتَاتًا فَأَعْرِفَكُمْ بِسِيمَاكُمْ وَأَسْمَائِكُمْ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الْفَرَسَ فَيُؤْخَذُ بِكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: إِلَيَّ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: أَوْ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، كَانُوا يَمْشُونَ بَعْدَكَ الْقَهْقَرَى…)) [مسند البزار]

المطلوب اليوم منَّا جميعاً الثبات على الدين، والصبر عليه، وعدم الاستسلام للواقع وضغوطاته وتأثيراته، فإنَّ ربَّنا تبارك وتعالى يقول: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ) [إبراهيم:27]  

لن أحاور

لن أحاور ...!

لن أحاور

لن أحاورك لأنَّني لا أستطيع إقناعك برأيي…

لن أحاورك لأنَّني لا أملك الدليل على صواب رأيي…

لن أحاور لأنَّني لا أحب الحوار، فأنا أفرض رأيي على كلِّ من حولي!!!

لن أحاور الصغير لأنَّني كبير، ولا يليق بي محاورة الأطفال.

لن أحاور زوجتي لأنَّني أملك القوامة والقيادة لأسرتي، وأقرِّر ما أشاء.   

لن أحاور أعدائي لأنَّني لا أحبُّهم.     

لن أحاور وإن كان ظاهر ما أريده هو الحق، لأنَّني معاندٌ برأيي…

لن أحاور وفقط…

أعتقد أنَّ هذه الأفكار السابقة تراود بعض الناس، سواء أعلنوا ذلك أم أسرّوه، باحوا به أم كتموه، فعدم الحوار في حياتنا دليلٌ على الضعف والجهل والتراجع وغير ذلك من مشاكلنا التي نتعثَّر بها في حياتنا اليومية والآنية.

يفهم البعض الحوار خضوعاً، أو تبعيةً لأفكارٍ موروثةٍ أو أشخاصٍ معيَّنين…

ويفهم البعض الآخر الحوار تنازلاً عن حقوقه المشروعة في اتِّخاذ القرار الذي يناسبه، ويرى فيه مصلحته…

وآخرون يرون أنَّ آخر ما يمكن أن نتحدَّث به في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، وتداعت علينا فيه الأمم، وتنافس الناس فيه على المال والدنيا عموماً؛ يرون أن آخر ما يمكن فعله هو أن نُحاور أو أن نُدخل الحوار في حلول مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية…

إنَّ معظم مشاكلنا الكبرى والصغرى، لا يمكن حلُّها إلَّا بالحوار، ولقد انتهت حروبٌ عظيمةٌ في التاريخ القديم والحديث بين دولٍ بالمفاوضات والحوار، فما بالنا بما دون ذلك.

أذكر نموذجاً من السيرة النبوية في حرب قريشٍ مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأكثر من ست سنواتٍ، حيث انتهت تلك الحرب بالحوار الذي سُمِّي في السيرة النبوية بـ (صلح الحديبية).

((رأت قريش ألَّا قِبَل لها بحرب المسلمين، وإلّا دارت عليهم الدائرة، ونمى إليها أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يريد حرباً، فأرسلت إليه من يفاوضه تعرفاً على قوَّة المسلمين وعزمهم على القتال من جهة، وطمعاً في صدِّ المسلمين عن البيت بالطرق السلمية من جهةٍ أُخرى… فأتاه بديل بن ورقاء في رجالٍ من خزاعة… فسألوه عما جاء به، فأخبرهم أنَّه لم يأت يريد حرباً، وإنَّما جاء زائراً للبيت ومعظّماً له، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنَّكم تعجِّلون على محمَّد، وإنَّه لم يأت لقتال، وإنَّما جاء زائراً للبيت، … ثمَّ بعثوا إليه مكرز بن حفص… ثمَّ بعثوا بحليس سيّد الأحابيش، … ثمَّ بعثوا إلى رسول الله حكماً يطمئنون إليه، وهو عروة بن مسعود الثقفي، … فكلَّمه رسول الله بنحو ما كلَّم به من سبقه وأنَّه ما جاء يريد حرباً، وكان عروة يرمق أصحاب رسول الله ويتعرَّف أحوالهم، فرأى أمراً عجيباً: رأى رسول الله لا يتنخّم نخامةً إلَّا وقعت في كفِّ رجلٍ منهم فدلك بها وجهه وجلده!! وإذا أمرهم ابتدروا أمره: أيُّهم ينفذه أولا!! وإذا توضَّأ كادوا يقتتلون على وضوئه!! وإذا تكلَّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له!! فرجع عروة إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إنِّي قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإنِّي والله ما رأيت ملكاً في قومه قطّ مثل محمَّدٍ في أصحابه، لقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيءٍ أبداً، وإنَّه قد عرض عليكم خطّة رشدٍ فاقبلوها، فإنِّي لكم ناصح، فقالت قريش: لا تتكلَّم بهذا، ولكن نردُّه عامنا هذا ويرجع من قابل… ولم يكن بدٌّ لقريش وقد جرى ما جرى من أن تفكِّر في الصلح جدّيا، وأن تنتهي هذه الحالة التي قد تدور بسببها الدائرة عليهم، فأرسلوا سهيل بن عمرو إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقالوا له: ائت محمَّداً وصالحه، ولا يكن في صلحه إلَّا أن يرجع عنَّا عامه هذا، فو الله لا تتحدَّث العرب أنَّه دخلها علينا عنوةً أبداً. فلمَّا انتهى سهيلٌ إلى رسول الله ورآه تفاءل به، وقال: «لقد سهل لكم من أمركم» وتكلَّم سهيل فأطال الكلام، وتراجع هو والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى انتهيا إلى صيغة الصلح، وتمَّ الاتِّفاق…)) [السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة، لمحمد محمد أبو شهبة: 2/ 327 باختصار لعدد من التفاصيل].

أختم مقالتي هذه بذكر نماذج من فكر الإسلام في الحوار من القرآن الكريم والسنة النبوية، تنير لك طريق الحوار الصحيح، وخطواته الإيجابية، والله الموفق:

أولاً- لا حوار بغير علم:

قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8].

ثانياً- على طاولة الحوار يجب على المحاور أن يفترض احتمال ثبوت الحقِّ على لسان الخصم:

قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].

ثالثاً- التزام اللين والتهذيب أثناء الحوار:

قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}.

ذكر بعض المفسرين أنَّ المقصود بالذين ظلموا أولئك الذين نصبوا القتال للمسلمين بدل الجدال.

وجاء قول الله تعالى مؤكِّداً استخدام القول الليّن في مخاطبة الآخرين في وصية موسى وهارون عليهما السلام: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}. 

رابعاً- حسن الاستماع للطرف الآخر:

فالحوار مسألة تبادل للآراء؛ وليس مجرَّد إرسالٍ من طرفٍ واحدٍ واستقبالٍ من الطرف الثاني.

قال السحرة لسيِّدنا موسى عليه السلام: {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} فأعطاهم الفرصة الأولى للإدلاء بالبينات.

وروى ابن إسحاق في سيرته صلَّى الله عليه وسلَّم: «أنَّ عتبة بن ربيعة قال يوماً وهو جالسٌ في نادي قومه، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جالسٌ في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلِّمه وأعرض عليه أموراً لعلَّه أن يقبل بعضها فنعطيه أيّها شاء ويكفَّ عنَّا؟! – وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، ورأوا أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يزيدون ويكثرون – فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه.

فقام إليه عتبة حتّى جلس إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: يا ابن أخي، إنَّك منَّا حيث علمت من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنَّك قد أتيت قومك بأمرٍ عظيمٍ فرَّقت به جماعتهم، وسفَّهت أحلامهم، عبت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منِّي أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلَّك تقبل منها بعضها.

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ” قل يا أبا الوليد أسمع “.

قال: يا ابن أخي إن كنت إنَّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتَّى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سوَّدناك علينا حتَّى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منها، فإنَّه ربَّما غلب التابع على الرجل حتَّى يداوى منه.

حتَّى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يستمع منه، قال: ” أفرغت يا أبا الوليد؟ “

قال: نعم، قال: “فاستمع منِّي”، قال: أفعل.

قال: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم  تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ  كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ومضى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقرؤها إلى السجدة، واستمع إليها عتبة حتَّى تغيَّر وجهه وتأثَّر ممَّا سمع، وذهب إلى القوم وهو يمدح القرآن، فقالوا له: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه».

ومهما تكن نتيجة الحوار فالمسلم مكلَّفٌ بالاستماع تطييباً لخاطر من يتكلَّم، وذلك أدعى إلى جلبه إلى جانب الحقّ، وذلك ما فعله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا الموقف، وفي كلِّ موقفٍ حوارٌ له مع الكفار والمخالفين.

وإذا كان حتَّى الكافر يمنح تلك الفرصة في الاستماع ليعرض أفكاره وآراءه، فإنَّ ذلك الحقّ نفسه لا بدَّ أن يعطى للمخالفين.

خامساً- إقناع الآخرين بالدليل المنطقي والعقلي:

قال ابن إسحاق: وحدَّثت عن ابن عباس أنَّه قال: «لما قدم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة، قال أحبار يهود: يا محمَّد، أرأيت قولك: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} إيَّانا تريد، أم قومك؟

قال: كلاً، قالوا: فإنَّك تتلو فيما جاءك: أنَّا قد أوتينا التوراة فيها بيان كلِّ شيء.

فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه.

قال: فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: أي أنَّ التوراة في هذا من علم الله قليل».

هذه نماذج تدلِّل ببساطةٍ لزوم الحوار، فهل بعد هذا من يقول: لن أحاور…!! 

الفراغ العاطفي والإباحية

الفراغ العاطفي والإباحية

الفراغ العاطفي والإباحية

مشكلتُّنا مع الإباحية أنَّها تعلِّم الفتاة:

– أنَّ قیمتها هي في جسمها فقط.

– أنَّ أجزاء جسدها الخاصَّة هي في الواقع أجزاء عامة.

– أنَّ الفتیات مجرَّد أشیاء.

وحتَّى لا نقع فريسة الإدمان، يجب أن ندرك مقدِّمات الوقوع حتَّى نتجنَّبها:

من المهم أن نفهم الأنواع المختلفة من المحفِّزات، ونستطيع إجمالها في نوعين:

  • محفِّزات جنسية الطابع.
  • محفِّزات غير جنسية الطابع.

🔸محفزات جنسية الطابع:

يشمل هذا النوع غالبية المحفِّزات التي تتَّخذ طابعاً جنسياً مثل:

  • صفحات الإعلانات المنبثقة التي تحمل  طابعاً جنسياً على الإنترنت.
  • كتالوجات ملابس النساء.
  • الأفلام السينمائية التي تحمل تصنيف “للكبار فقط”.

منتجو الإعلانات والإباحية على علمٍ بأنَّ الرجال يُستثارون بصريًّا؛ لذا فإنَّ أيَّ نوعٍ من المواد المُنتَجة التي تستهدف الرجال ستحتوي على إيحاءاتٍ جنسية، إن لم تكن محتوى جنسياً صريحاً.

بالنسبة لبعض الرجال تعتبر مجرد رؤية أجهزة الكمبيوتر، الهاتف، الأجهزة اللوحية وما إلى ذلك بحدِّ ذاته عامل إثارة، ويعتبر استرجاع المشاهد الجنسية في المُخيِّلة من عوامل الإثارة أيضاً، تسمَّى هذه الحالة: “استدعاء البهجة”.

🔸محفِّزات غير جنسية الطابع:

توجد بعض الصعوبات لتحديد المحفِّزات غير جنسية الطابع، فهذا النوع من المحفِّزات ذو قوةٍ أشدَّ من النوع السابق، وعادةً ما تكون هذه المحفِّزات متجذِّرةً داخل المشاعر المؤلمة، فيذهب الرجال إلى الإباحية طلباً للخلاص من هذه المشاعر.

وللمساعدة في تحديد هذا النوع من المثيرات؛ نستخدم اختصاراً ”BLAST”، وتشير حروف الاختصار إلى:

B: Bored or Burnt Out

  • الشعور بالملل، أو الإرهاق

L: Lonely

  • الوحدة

A: Angry,Afraid

  • الغضب، الخوف.

S: Sad,Stressed

  • الحزن، التوتر

T: Tired

  • التعب  

ماذا عن الفراغ العاطفي؟

الجميع يحتاج الحبَّ ولا ننكر ذلك، إذاً:

الخطوة الأولى: الاعتراف بالمشكلة:

إنَّ غياب الحبِّ في حياتنا يسبِّب الشعور بالوحدة، والفراغ العاطفي للأسف، ولكن؛ لنسأل أنفسنا بعض الأسئلة:

هل إحساسنا بالوحدة، والفراغ العاطفي يدفعنا لسلوكٍ يؤذينا أكثر، ويسبِّب مشاكل نفسيةً وجسديةً أكثر من الوحدة؟

هل الفراغ العاطفي، وغياب الحبّ، يجب أن يُملأ بشكلٍ تامٍّ ونهائيٍّ بالإدمان على القذارة؟

أم أنَّه مجرَّد هروبٍ وقتي؟ هل أُطفئ الماء بالوقود؟

 بكلِّ تأكيدٍ، الجواب: لا.

لكن، ما الحلَّ؟

أوَّلاً: أصلحي علاقتك بأسرتك ودينك.

احضني والدَيك يومياً مرَّتين أو مرَّةً على الأقل، لا تخجلي فهذا حقُّك.

عاملي أخواتك بحنانٍ أيضاً.

ثانياً: الأطفال الصغار عامَّةً:

أنشئي معهم علاقاتٍ جيَّدة، ولاعبيهم، وأَفرحيهم، وأحضري لهم أشياء حلوةً وجميلةً يحبُّونها، وحبِّبيهم فيك، فنتيجة هذا شعورٌ جميلٌ جدَّاً أكثر ممَّا تتخيَّلين.

ثالثاً: الحيوانات الأليفة

اعتني بأيِّ حيوانٍ أليف (قطط، أو حوض سمك زينة، أو عصافير…)، واهتمِّي به، وبأكله ورعايته، فهذا يُساعد في التخفيف من حدَّة الوحدة والفراغ.

رابعاً: تعلَّمي أشياء جديدة في أيِّ مجالٍ تحبينه، وطوِّري نفسك.

خامساً وأخيراً: ابتعدي بطبيعة الحال عن أيِّ شيءٍ يتعلَّق بالرومانسية سواءً كان رواياتٍ، أو أفلاماً، أو مسلسلات، أو أيَّ شكلٍ من أشكال الإباحية، حتى التخيُّل أوقفيه قبل أن يبدأ. 

هل يمكن لأي إنسان في العالم أن يتخلى عن العقيدة

هل يمكن لأي إنسان في العالم أن يتخلى عن عقيدته

هل يمكن لأي إنسان في العالم أن يتخلى عن عقيدته

إنَّنا حينما ننظر إلى جوهر ما يسمَّى بالعقيدة، أو الفلسفة، أو الرؤية الكونية، نجد أنَّها في حقيقتها ما هي إلَّا خريطةٌ وجوديةٌ للإنسان تبيِّن مكانه في هذا العالم. وهي في أهميَّتها للإنسان كأهمية الخريطة الجغرافية للمسافر حيث تحدِّد موضعه الذى هو فيه، والمكان الذى يصير إليه، حتَّى لا يضلَّ طريقه، أو يُهلك نفسه، ويفقد مبتغاه.

ولقائلٍ أن يقول: وما وجه الشَّبه بين الأمرين، أو بين المثالين: بين المسافر وبين الإنسان!؟

وأقول له: بماذا تُعرِّف المسافر؟ سيُجيبني بأنَّ المسافر هو الشخص الذي لا يستقرُّ في موضعٍ معيَّن، بل يُغيِّر موضعه، ويبدِّل مكانه بشكلٍ مستمرٍ، قاصداً وجهةً معيَّنة لا يتوقَّف قبل بلوغها.

وأقول له كذلك: إنَّ الإنسان بشكل ٍعامٍّ مسافرٌ في هذا الوجود الكلِّي، ومرتحلٌ عن هذا العالم.

وإذا كان المسافر العاديُّ ينتقل من مكانٍ إلى آخر أو من بُقعةٍ جغرافية إلى أخرى.

كذلك كلُّ إنسانٍ يتحقَّق فيه هذا المعنى من الرحلة والانتقال، ولكن بنحوٍ أعظم، وبوجهٍ أتم.

فهو ينتقل من عالمٍ  كلِّي له قوانين معيَّنةٌ  إلى عالمٍ كلِّيٍّ آخر بقوانين مختلفة اختلافاً كلياً عن قوانين العالم الذي يسبقه. وهذا ما نراه واضحاً، ونشاهده عياناً. 

فلو نظرنا إلى ما قبل ولادة أيِّ إنسانٍ في هذا العالم، وما قبل مجيئه إلى هذه الدنيا، نجد أنَّه قبل ولادته لم يكن يحظى بأيِّ نحوٍ من أنحاء الوجود في هذا العالم الدنيوي. ثمَّ بعد ذلك يولد في هذه الدنيا، ويصبح طفلاً وشاباً وكهلاً، “وقد يتعامل مع هذه الدنيا وكأنَّه من أهلها“.

ولا يزال يتغيَّر، ويتغيَّر باستمرار كلَّ آنٍ ولحظة، لا تخلو لحظةٌ من تغيُّرٍ يحدث فيه.

ثمَّ يأتي بعد ذلك موعد خروجه الحتمي من هذا العالم بالموت المحقَّق، فيخرج من هذه الدنيا بشكلٍ كلِّي، وينتقل إلى عالم ما بعد الموت.

والذى يسمى بحسب العقيدة الإسلامية: عالم البرزخ، هو عالمٌ له قوانينه المختلفة بالكلية عن عالم الدنيا.

ثمَّ يبعث فينتقل من عالم البرزخ  إلى عالم الآخرة: ((الجنَّة أو النار))، والذي يختلف تماماً عن العوالم الكلية التي سبقته، وهنا يحقُّ لي أن أتساءل: أليس هذا هو السفر الحقيقي بأتمِّ معانيه؟

وهل هناك معنىً للغربة أو  للسفر أو للرحلة والانتقال إذا لم يتحقَّق هنا هذا المعنى؟

أظنُّ أنَّ الإجابة تكون بلا ريب: نعم، هذا هو السفر الحقيقي، وتلك هي الرحلة، ومادامت هذه هي الإجابة فإنَّ حاجتنا إلى خريطةٍ وجوديةٍ تكون كأعظم ما تكون الحاجة.