الرسول نفسه معجزة

مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-
مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-

الرسول نفسه معجزة

Loading

الرسول نفسه معجزة
يتردد في القرآن كثيراً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو البشير النذير المبلغ عن ربه…وأنه لا يستطيع الزيادة أو النقصان على الوحي… وأنه ليس مسيطراً على الناس …ومن هنا درج السطحيون على إشاعة القول بأنه بشر مثلنا لا يزيد علينا… فهو حامل الرسالة فقط لا يزيد عن رجل البريد إلا أنه أمين …ونحن نرى أن هذا السلوك يشكل معجزة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه …فكيف تقيم الحجة على هذه الدعوى؟ 

ج: هذا صحيح.. فعندما نطق الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن المعجز لأصحاب المواهب البلاغية النادرة.. نقول في هذه الحالة : إن هذا القرآن ليس من عنده.. فليس من المعقول أن يكون عنده عبقرية فذة هكذا، ثم يكتمها إلى سن الأربعين.

ولذلك يعرض الله تعالى للمتشككين فيقول :

﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي

فهكذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه ليس هو قائل هذا القرآن حتى يبدله…ثم تمضي الآية الكريمة فتقول :

﴿قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

فرسول الله يرفض أن ينسب الكمال إلى نفسه، والناس بطبعها تدعي الكمال لنفسها، وتنسب للنفس ما لم تفعله، كل واحد منا يريد أن يثبت أنه عبقري.. وأنه عالم.. وأنه في فنه مسيطر.. وأنه لا يوجد من يفهم مشاكل الدنيا كلها إلا هو.. .

وهو في سبيل ذلك مستعد أن يسرق جهد غيره، وينسبه إلى نفسه .. أي إن الطبيعة البشرية كلها تحاول أن تدعي الكمال ولو كذبا.. ولكن الناس يريدون أن يعطوا الكمال لرسول الله فينسبوا إليه أنه هو الذي قال هذا القرآن …

وبدلا من أن ينساق رسول الله وراء هذا الكمال الذي يحاولون أن يلصقوه به، لا يزيد في رده عليهم على ما أوحى الله إليه به أن يرد فيقول: ﴿قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

.. ثم بعد ذلك يوحي إليه الله بالدليل:﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

أي إني عشت معكم أربعين سنة قبل أن يوحي إلى، ولم أحاول حتى مجرد الدخول في مزايدات البلاغة والخطابة والشعر.. ولم يشتهر عني ذلك.. بل كنت أقول كلاما عاديا…

فإذا كان هذا هو خلقي وطبعي كما تعرفون فيجب أن تعلموا أن الكلام الذي أعجزكم والذي أتلوه عليكم هو وحي من الله، وهو كلامه، فلو كنت أحسن فن الكتابة والخطابة فربما سارركم الشك.. ولكني كنت أقول كلاما عاديا ولا أسابقكم في مضمار الخطابة ومن هنا كان الرسول في ذاته معجزة.. وهذا هو الدليل. 

الفجوةُ بيننا وبينهم

مصطفى محمود
غلاف مصطفى محمود

الفجوةُ بيننا وبينهم

Loading

ولكنَّها لم تنظر إلى وراء، ولم تلتفت إلى التراب تحت قدميها, وإنَّما ظلَّت ناظرةً مبهورةً دائماً إلى الغرب, على حين ظلَّ هو شاخصاً إلى الشرق, إلى مطلع الأنوار

هو… دكتوراه في الكيمياء من جامعة أسيوط… يحمل معه جَلافة الرِّيف وبساطته وطيبته, وهي خرِّيجة آداب قسم سياحة, تحمل معها حقيبة كريستيان ديور, وتنظر دائماً غرباً إلى باريس لتأخذ عاداتها وقيمها وموضاتها… في حين هو ينظر شرقاً إلى مكَّة, معلَّق القلب والفؤاد بالكتب القديمة الصفراء والمدائح النبوية وحلقات الذّكر في سيدي أبو العباس.

وهو في زيارة للسّويد والنّرويج مدعوَّاً في مؤتمر علمي.. وهو يصحب زوجته في شهر عسل…

وهما يهبطان معاً درجات الفندق الفخم في استكهولم… وكلَّما مرَّ بهم نزيلٌ أومأ برأسه في تحية… فتضغط على ذراعه هامسة.

– رُدَّ على التَّحية بإيماءةٍ برأسك أنت الآخر… أترى كم هم مؤدَّبون… تعلَّم… إذا حُيّيتم بتحيةٍ فردُّوا بأحسن منها

أترى النّظافة حولك، كلُّ شيءٍ حولك يلمع… والأرض كأنَّها مرآة… المواعيد بالدَّقيقة والثَّانية… الكلمة واحدةٌ كأنَّها میثاق… لا غشَّ, ولا احتيال, ولا مكر, ولا تعقيد… المرأة هنا حرَّةٌ رشيدةٌ مستقلَّةُ الإرادة، تملك مفتاح عربتها, ومفتاح شقَّتها, وتخوض الحياة بلا خوفٍ, وتختار زوجها في حريَّة… وتعمل في أيِّ مهنةٍ تحبّ… حارسها ضميرها وحده.. يدها مع يد زوجها على دفَّة القيادة… لا رياسة لأحدٍ على الآخر, ولا تحكُّم ولا استبداد… لها نصف ما يملك إذا افترقا… هكذا يضمنون للمرأة مستقبلها هنا, ويؤمِّنونها من غوائل الدَّهر وطغيان الرَّجل… دستور الزَّوجيّة احترامٌ متبادلٌ, ومساواةٌ في الحقوق, وثقةٌ وحريَّةٌ من كلِّ طرفٍ في الآخر, ولا تدخَّل ولا فضول… ولا مساءلة… ولا محاكمة… أين كنت بالأمس؟ ولماذا جئت متأخِّرة؟ تذكرة طائرتها في جيبها, وجواز سفرها في حقيبتها… تُسافر إلى آخر الدنيا وحدها حرَّةً, رشيدةً, مستقلَّة… حارسها ضميرُها وهذا يكفي.

انظر حولك وتعلَّم… هذه هي القيم التي تحتاجها في مصر لنصنع مصر جديدة, وحضارةً جديدةً, ومدنيَّةً جديدة. هذه فرصتك لتغتسل من أتربة الرّيف وتجدِّد شباب عقلك, وتتشرَّب هذه القيم العصريَّة… لا أحب أن أصادر تفكيرك, ولكنّي أطالبك فقط بإعادة النظر, وعدم الرَّفض الفوريّ لأيِّ جديد. لا أحبُّك أن تُشيحَ بيدك وتقول كلمتك التقليديّة: هذه دولة الكفر. فأين ترى الكفر فيها؟ هل النظافة كفر؟ هل الأمانة کفر؟ هل الوفاء بالوعد كفر؟ هل النِّظام كفر؟ هل العلم المتقدِّم كفر؟ هل الصناعة كفر؟

ومرَّت امرأةٌ بيدها كلبٌ, وأومأت برأسها في تحيّة, فرد صاحبنا بإيماءة أخرى من رأسه, فضغطت صاحبتنا على يده في حبٍّ, وقالت وهي تلفت نظره إلى الكلب:

– أترى أصابع الكوافير كيف صفَّفت شعر هذا الكلب, والفيونكة الحمراء الجميلة, هل العطف على الحيوان الضعيف کفر, هل رأيت المستشفى الأنيق أمام الفندق, إنَّه مستشفى للكلاب, ودار حضانة للكلاب, تترك المرأة كلبها في الصباح ثم تعود لتأخذه في المساء.

قال الرَّجل الريفيُّ وهو يهزُّ رأسه غير مصدِّق:

شيءٌ عجيب.

– هل تعلم أنَّ هناك أكثر من عشرين صنفاً من اللحوم المعلَّبة للكلاب, وأنَّ المحلّ يترك لك الحريَّة لتعرضها على كلبك ليجربها ويختار منها ما يحبّ.

قال الرّجل الريفيُّ وهو مازال يهزُّ رأسه:

شيءٌ عجيب, إذا كانوا يصنعون هذا بالكلاب, فماذا يصنعون لبني آدم؟

– سوف ترى يا عزيزي, لا تتعجل.

إذا كان هذا مقام الكلب في الأسرة, فماذا يكون مقام الأسرة في المجتمع؟

– سوف ترى بنفسك الليلة, ألسنا مدعوَّين معاً إلى تلك العائلة السويديّة؟

– نعم, نعم, لقد دعانا الدّكتور كرافت على فنجان شاي لنحدِّثه عن مصر, وعن أخبار مصر, فهو عالمٌ في المصريَّات كما تعرفين.

– بل نريده أن يحدِّثنا هو عن بلاده, وعن المعجزة الأوربية.

– نعم, صدقتِ.

***

وفي المساء كان الدكتور كرافت يمدُّ يده ليصافحهما بحرارةٍ وهو يقول:

– أخيراً جاءت مصر إلينا, أخيراً أصافح أحفاد حتشبسوت وأخناتون يداً بيد.

قال الرَّجل الريفيّ:

– لا أظن فقد اختلطت الأنساب كثيراً في بلادنا يا عزيزي الدكتور بقدر ما تَعاقَب عليها من فرسٍ, ورومٍ, ومقدونيّين, وهكسوس, وعرب, وإنجليز, وفرنسيين, لا أظنُّك اليوم تجد حفيداً واحداً حقيقياً لحتشبسوت أو أختاتون, لن تجد هذا الحفيد إلا في مقابر تل العمارنة في تابوتٍ سُرِقَ كلُّ ما فيه, ولم تبق إلَّا الجثة.

قال الرجل وهو يتنهَّد آسفاً.

– صحيح, هذا مؤسف, لم يبق لنا إلَّا تاريخٌ, ومعابدُ, وبرديَّاتٍ هيروغليفية.

ورشف الدكتور كرافت رشفةً هادئةً من فنجان الشاي.

– لو كنتما هنا أمس الأحد, لسعد أبواي بكما كثيراً, فهما مثلي يحبَّان مصر كثيراً, ويتنسَّمان أخبارها.

قال الرجل الرّيفيّ:

– وأين هما يا ترى؟

– هما عجوزان لطيفان, وهما في هذه السّن التي يصعب فيها التفاهم والتواصل بينهما وبين باقي الأسرة, وحتَّى بينها وبين بعضها, ولهذا انتهى بهما المطاف إلى دارٍ للمُسنّين, لكلٍّ منهما غرفةٌ منفصلةٌ, وكلٌّ منهما يقطع النَّهار في حلِّ الكلمات المتقاطعة, وشُرب النبيذ, والاستماع إلى التّلفزيون ومشاهدته, وهذا شأن الكبار هنا حين يتقدَّم بهم السن.

قال الرَّجل الريفيّ في استغراب:

– والصغار.

– بعد السابعة عشرة يذهب كلُّ واحدٍ وشأنه, لي ثلاثة إخوةٍ, وأختٌ رابعة, تفرَّقوا في القارات الخمسة, وتفرَّقت بهم

المصائر, الأخ الأكبر تزوَّج من امرأة بوذيةٍ في كمبوديا، والأصغر قُطعت ساقه في حادث, وهو يعمل بارمان في كَلكُتا، والأخ الأوسط يشتغل في مصنع سلاحٍ في جنوب أفريقيا, أمَّا الأخت فقد تزوَّجت من فيتنامي ولم تنجب, ثمّ افترقت عن زوجها, وأنجبت ولداً تُكرِّس له الآن كلَّ وقتها, وتعمل مدرِّسة بيانو.

– وزوجها.

– إنَّها لم تتزوَّج بعد الفيتنامي, لقد أنجبت ولداً بعد قصّة حب، وكما تعلم هذه الثورات العاطفية تنتهي إلى لا شيءٍ وتبدأ المشاكل, وهذه مسائل عاديَّةٌ تحدث الآن كثيراً.

ألا تلتقون؟

– عَبْرَ بطاقات الكريسماس, وهدايا عيد الميلاد كلّ عام.

ودخل الكلب, وكانت حول بطنه ضمادة.

واحتضنه الدكتور كرافت في حنانٍ بالغ, وراح يربِّت على رأسه ويقبّله.

– المسكين, عملنا له بالأمس رسم قلبٍ كهربائيّ, وفحصاً بالأشعّة, وبالأمواج فوق الصوتية, واتَّضح أنَّ عنده ورمٌ سرطاني, وقام الجرَّاح منذ أسبوعٍ باستئصال الورم بنجاح, صدّقني لقد حزنت من أجله كثيراً, ولم أذق طعم النوم منذ أيام.

قال الرَّجل الريفيّ وهو يقلِّب كفَّيه في عجب:

– هذا شيءٌ مؤسفٌ فعلاً, هذا قدره.

وراح الدكتور يسأل صاحبنا ماذا يعني بكلمة القدر, وقال إنَّه سمع الشَّرقيين يتحدَّثون كثيراً عن القدر, ويُلاحظ أنَّهم يدسُّون هذه الكلمة في كلِّ شيء, وها أنت تدسُّها حتَّى في شئون الكلاب, صدِّقني أنا لا أفهم.

وأخذ الرَّجل الرِّيفيّ يتكلّم بإسهابٍ عن الإيمان بالله وبالقدر, وأنَّ الله بيده ناصية كلِّ الخلق, وما من دابَّةٍ إلَّا هو آخذ بناصيتها, سواء كانت بهيمةً أو كلبا أو حشرة, وأنَّه ما من ورقة تسقط إلّا يعلمها, وما من رطبٍ ولا يابسٍ إلَّا عنده في کتاب.

وقال الدكتور شاخت في براءةٍ «شديدة»:

– ولكن أين هو؟

– من؟

الله الذي تقول.

فسكت الرَّجل الرّيفيّ, وانعقد لسانه دهشةً من السؤال الفجائي، ثمَّ عاد يقول ببطء:

الله لا يقال عنه: متى ولا أين, لأنَّه هو الذي خلق متى وأين, هو الذي خلق الزَّمان والمكان, ولا يخضع لها كما تخضع. هو فوق الأين.

فبدا على الدُّكتور شاخت أنَّه لا يفهم، ولكنَّه قال في احترامٍ شديد:

– ألا يمكن أن نتكلَّم كلاماً أكثر وضوحاً وواقعيّة, ألا يمكن أن تقول لي عن الله شيئاً ملموساً, صدّقني أنّي في دهشة من إيمانكم العميق أيُّها المصريّون, إيمانٌ بطول سبعة آلاف سنة, إنَّه شيءٌ عجيبٌ يُدهشني, منذ سبعة آلاف سنةٍ وأنتم تبنون للموت ولا تعيشون للحياة، ولكن لما بعد الحياة, وكأنَّما، أنتم متأكدون تماماً من كلِّ شيءٍ, ألا يُدهشك هذا؟ من أين لكم بهذا اليقين, بأنَّ بعد الموت شيئاً لكم, أتمنَّى أن أرى الله كما ترونه»

فقال الرّجل الرّيفيّ ببساطة:

إنّي لا أرى غيره, أراه في تفتُّح الزَّهرة, وابتسامة الوليد, وأراه في الصواعق, وأرى مشيئته في حركة التَّاريخ، وأرى يده في قبضة الجاذبية التي تضمُّ شمل الكون وتمسك بالمجرَّات وتحمل السَّموات بلا عمد, وأراه أقرب إليَّ من نفسي بل أقرب إليَّ من نُطقي، وأراه في العماء خلف كلِّ شيءٍ, في غيب الغيب, لا يُوصف ولا يُحدّ, سبحانه ليس كمثله شيء.

وحاول أن يبحث عن كلمات تقول أكثر, وتُفصح أكثر, وتُجسّد أكثر, كلماتٍ يعبر بها الفجوة الهائلة بينه وبين محدِّثه ولكن لم يجد.

كانت الفجوة كبيرةً, فجوةً بين حضارتين.

حضارة لا تؤمن إلَّا بما ترى وتلمس وتحسّ وتسمع.

حضارة مادّيّة تبدأ من المادَّة, وتنتهي إلى المادّة, وتُشيد من المادّة معجزاتٍ, وخوارق, واختراعاتٍ, وسفن فضائية, وقنابل, وتصنع بها الدَّمار والعمار.

وحضارة أخرى توَّاقةٍ حالمة, منقطعة إلى الغيب تتصنَّت بالقلب والرّوح على مالا يُرى وما لا يُسمع, وتعبر المادة أبداً ودائماً إلى ما وراءها.

وسكت الرَّجل الرّيفيّ ولم يجد كلاماً يقوله ليعبُر به الفجوة, وأخذ يُعيد ما قال, وكأنَّما يخاطب نفسه.

– إنِّي لا أرى غيره, لا أرى إلَّا الله, سبحانه لا سواه.

قال الدكتور كرافت:

– إنّي لا أملك إلَّا أن أحترمك, ولكنِّي لا أفهمك.

وفي ذلك المساء كان الرَّجل الرِّيفيُّ يحدِّث زوجته, وهو يخبط كفَّاً بكفّ:

– أرأيتِ, إنَّه لا توجد أسرة, لقد انفرط كلُّ شيء, البنت تحمل سِفاحاً، والإخوة تفرَّقوا في أركان الأرض ليواجه كلٌّ منهم مصيره بلا عونٍ وبلا سند، والأب والأم منبوذان يعيشان وحيدين في دارٍ للمسنِّين, ولم يبق إلَّا الكلب, أقاموه صنماً بديلاً يبذلون له الودّ والحبّ والحنان والعبادة التي خلت منها الحياة, ويحاولون أن يخلقوا بالمعنى والحكمة التي سلبوها كلّ شيء, إنَّ كلَّ ما تشاهدينه في الفندق من تحيَّاتٍ ومُجاملاتٍ وآدابٍ, مائدة, وسلوك مهذّب, ولياقة, كلُّها تعبيراتٌ فارغة لا تدلُّ على شيءٍ ولا تحتوي على مضمون, إنَّها مجرَّد حياةٍ تلهث وراء مُتَعٍ لحظيَّة, ثمّ موتٌ, ثمَّ ترابٌ, ثمَّ عدمٌ, ثمَّ معنى ولا حكمة, وإنَّما عبث, ولم يعجب زوجتَه الكلام وأعطته ظهرها, وقالت كالعادة:

– لا تتعجَّل في الحكم, ولا تستخرج حكماً عامَّاً من لقاءٍ عابر, انظر حولك, إنَّك في عالمٍ كعرائس الخيال, أبَّهةٌ ونظافةٌ, وأناقةٌ, وجمالٌ, وعلمٌ, وصناعة.

قال بهدوء وقد أعطاها ظهره هو الآخر:

– كلُّ هذا يمكن أن ينهدم في لحظة, حينها تنهدم القيم التي تمسك به.

كلُّ هذا يُصبح مثل النَّقش على الماء:

قالت في مرارة.

– وهل عندنا في مصر قِيَم, هل عندنا أخلاق؟

– صحيح لقد أصابت عدوى الانحلال الكثيرين في بلادنا, وصحيحٌ عندنا فساد, ولكن مازال عندنا أولو بقيةٍ من أهل الخير, يعرفون الله, ويأمرون بالمعروف, وينهون عن المنكر, ويقومون الليل, ويسبِّحون النَّهار, وهؤلاء هم عُمُدُ الأرض, وأركان الدنيا, يحفظ الله الدنيا من أجلهم, وبدونهم لا يعود لها بقاء.

قالت وهي مازالت تنظر غرباً, وقد أعطته ظهرها.

– بل أركان الدُّنيا هنا, ولكنَّك ترفض أن تراها, وأعمدة الحياة حولك ولكنَّك تُنكرها, وناطحات السَّحاب تنطح السَّماء, وتصنع الأقدار للألوف, والعقول الإلكترونيّة تدبّر المصائر للملايين، وما نسميه انحلال الأسرة هو روح الحرية, والمغامرة, ولكنَّك لا تريد أن ترى, ولا تريد أن تُغيّر من نفسك شيئاً.

قال وهو مازال يعطيها ظهره وينظر شرقاً.

– نسيتِ أنَّ صانع كلِّ هذا العمار, ترك نفسه خراباً, وأنَّه يوشك أن ينتحر ويقتل نفسه بما صنع, وأنَّ عُمُدَ الدنيا في نظرك وأركان الأرض يوشكون أن ينقضُّوا على بعضهم البعض بالأسلحة الذّرّية والقنابل النووية, وأنَّهم لوَّثوا مِن حولِهم الفضاء والماء والهواء, كما لوَّثوا عقولهم بالخمور والمخدّرات، ولوَّثوا أرواحهم بالكفر والجحود, وأنَّ ما ترينه برَّاقاً حولك هو الغرور ومتاع الغرور, وخيال اللحظة, ونشوة اللمحة البارقة, واقرئي التاريخ, وانظري خلفك, بل تحت قدميك, بل في التراب تحتك, حيث اندثرت أممٌ وامبراطوريات, وحيث انتهى عماليق طاولوا الشَّمس وخرقوا السماء.

ولكنَّها لم تنظر إلى وراء، ولم تلتفت إلى التراب تحت قدميها, وإنَّما ظلَّت ناظرةً مبهورةً دائماً إلى الغرب, على حين ظلَّ هو شاخصاً إلى الشرق, إلى مطلع الأنوار, وقد أعطى كلٌّ منهم ظهره للآخر, وبينهما خيطٌ رفيعٌ, رفيعُ, هو عقد زواج يوشك أن ينقطع.

***

القرآنُ وقوامة الرَّجل على المرأة

مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مربع-

القرآنُ وقوامة الرَّجل على المرأة

Loading

أرأيت إلى زوجين يرقدان مطمئنَّين في جوف الليل، في الدَّار التي تكنّهما، وعلى حين غرّة استيقظا على صوت أيدٍ تعبث باب الدَّار, من الذي يهبُّ في هذه الحالة؟ هل في الدنيا كلِّها من لا يعرف الجواب؟ إنَّه الرَّجل

يقول قائلهم:

ها هي ذي المرأة في ظلِّ الحضارة الحديثة تُناكب الرَّجل, وتُنافسه في كلِّ المزايا, في العلم، والوظائف, والتّجارة وشؤون الاقتصاد, والسّياسة برُتَبِها المختلفة, ولا نزال نقرأ في القرآن {الرِّجَالُ قَوَّامُوْن َعَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 4/ 34] أليس هذا دليلاً على أنَّ ما في القرآن من شرائع وتعليمات إنَّما هو لعصورٍ خلت، إلَّا لهذا العصر المتطوِّر الذي نحن فيه؟

وأقول: هما كلمتان ينبغي أن نتبيَّنهما ونعلم الفرق بينهما، وألَّا تلتبس الواحدة منهما في أفهامنا بالأخرى، ونحن نزعم أنَّنا نتمتَّع بالعروبة وفهمها وسلامة النُّطق بها, هما: القوامة، والولاية.

من الملاحظ أنَّ القرآن أثبت قوامة الرَّجل على المرأة، فقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُوْنَ َعَلَى النِّسَاءِ} ونفى ولاية الرَّجل عليها، بل أثبت لكلٍّ منهما حقَّ الولاية على الآخر، فقال: {وَالْمُؤْمِنُوْنَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التوبة: ۹/ ۷۱]
وهي ما يسمَّى في مصطلح الشَّريعة الإسلاميّة بالولاية المتبادلة, ولا أعلم أنَّ لها ما يُرادفها أو يُقاربها في القوانين الوضعيّة.

فما الفرق بين الكلمتين؟

الولاية على الشَّيء أو الشَّخص في المصطلح الشَّرعيّ، أثرٌ من آثار نقص الأهليَّة في الشَّخص الذي تسري الولاية عليه، فلا يتأتَّى له ممارسة حقوقه أو بعض منها إلا بإذن الولي بل ربَّما بممارسته هو لها, ومن المعلوم أنّ الشريعة الإسلامية ساوت بين الرَّجل والمرأة في حقِّ الأهليَّة عندما يكون كلٌّ منهما يتمتَّع بكامل الرُّشد, ومن ثمَّ فليس لأحدهما ولايةٌ على الآخر. ولكنَّ الشريعة الإسلامية ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، فأثبتت بنصٍّ صريحٍ من القرآن الولاية المتبادلة بينهما، بأن لا يستقل الواحد منهما في ممارسة حقوقه عن الآخر، في ميزان اللياقة الأخلاقيّة.

 وذلك بأن يرجع الرَّجل «الزوج» في ممارسته لحقوقه إلى المرأة «الزوجة» يستشيرها ويستطلع رأيها ويستهدي برشدها، وبأن ترجع المرأة «الزوجة» إلى الرَّجل زوجها» في ممارستها لحقوقها المالية وغيرها، تستشيره وتستطلع رأيه وتستهدي برشده في الأمر, فعن هذا النوع من الولاية السارية بينهما يقول الله تعالى:

{والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضهم أولياءُ بعض}

أمَّا القوامة فهي من قام بالأمر أي قام بشأنه، وهو مصطلحٌ شرعيٌّ يعني نظر الزّوج بشؤون زوجته من حيث الرّعاية والحماية لها, ودرء الأخطار عنها, وتقديم العون الماديّ والمعنويّ اللازمَين لها.

إنَّ الفرق بين القوامة والولاية واضحٌ وجليٌّ, فالقوامة لا تعني التَّدخُّل في حقوق الآخر بأيِّ انتقاصٍ لها, ولا بأيِّ شركة فيها, ولا باستئثار حق التصرف بها, في حين أنَّ الولاية تعني نوعاً من النيابة الجبريَّة في التصرّف بحقوق المَولي، نظراً لنقص أهليته.

والذي يحصل في الغالب لدى الذين يستشكلون حقَّ القوامة للزَّوج في الأسرة، أنَّهم لا يفرِّقون بينها وبين الولاية، فيحسبون أنَّ قوامة الرَّجل في المنزل تعني أنَّه صاحب حقٍّ في أن ينتقص من حقوقها ما يشاء، وأنَّها لا تملك أن تتصرَّف بشيءٍ منها إلَّا بموافقته, وربَّما عن طريقه, ومن ثمَّ فإنَّهم يرون في قوامة الرَّجل معنىً من معاني التَّسلُّط على حقوقها والانتقاص من كرامتها وحريَّتها.

وأحسب أنَّك قد عرفت الآن الفارق الكبير بين مُصطلحي الولاية والقوامة في كتاب الله عزَّ وجلَّ، وأنَّ قوامة الرَّجل لا تعني شيئاً من هذا الذي يتوهَّمه النَّاقدون.

***

فإذا ظهر لك الفرق جليّاً بين الولاية والقوامة، فتعال نتجاهل هذا الذي قرَّره بيان الله في قرآنه المبين، ولنتساءل: أيّهما أولى بتحمّل مسؤولية القوامة في بيت الزّوجية (وقد عرفت معناها الآن) الرّجل أو المرأة؟

 أيّهما الأقدر على النهوض بشؤون الأسرة, والسَّهر على رعايتها وحمايتها من الآفات والأخطار؟.. لقد أجابت الطبيعة البشرية المبثوثة في العالم كلِّه عن هذا السؤال، قبل أن تجيب النظم المتَّبعة والقوانين الوضعيَّة فقالت: إنَّه الرَّجل, وهذا ما أيَّدته في كلِّ عصرٍ أنوثة المرأة، ورجولة الرَّجل.

أرأيت إلى زوجين يرقدان آمنين مطمئنَّين في جوف الليل، في الدَّار التي تكنّهما، وعلى حين غرّة استيقظا على صوت أيدٍ تعبث برتاج باب الدَّار, إنَّهم لصوص يقصدون إلى اقتحام الدَّار, من الذي يهبُّ في هذه الحالة ليحمي الأسرة ويردَّ اللصوص على أعقابهم؟ هل في الدنيا كلِّها من لا يعرف الجواب؟ إنَّه الرَّجل الذي أقامته الفطرة الربَّانية على وظيفة حماية الأسرة ودرء الأخطار عنها، أمَّا المرأة فتحتمي بقوَّة زوجها وتتضاءل في ظلّه… تلك هي القوامة في معناها الفطريّ، الذي يقرّ به العالم كلُّه، وليس قرار القرآن القائل: {الرِّجَالُ قَوَّامُوْنَ َعَلَى النِّسَاءِ} إلَّا تُرجماناً لهذه الفطرة.

ولقد بيَّنت تتمَّة الآية حيثيَّة هذا القرار الفطريّ في واقعه، الشّرعيّ في حكمه، وهي قوله تعالى: {بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوْا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.

الحيثيَّة الأولى: بما فضَّل الله بعضهم على بعض, وليس معنى الأفضليَّة هنا أفضليَّة القرب من الله أو أفضليَّة المكانة في المجتمع, فربَّ امرأةٍ تكون أقرب إلى الله من زوجها ومن كثيرٍ من الرِّجال… وربَّ امرأةٍ تتبوَّأ مكانةً في مجتمعها لا يتبوَّأ مثلَها ولا أقلَّ منها زوجُها, ولا كثيرٌ من الرِّجال… وإنَّما المراد بالأفضليَّة هنا: الخصائص الجسميَّة والنَّفسيَّة التي وزَّعها الفاطر الحكيم بين الرَّجل والمرأة، وهي معروفةٌ ومدروسة.

والحيثيَّة الثَّانية قوله: وبما أنفقوا من أموالهم, إنَّه تذكيرٌ بما قضى الله به من جعل الإنفاق على الأسرة مسؤولية الزَّوج دون الزوجة, والقانون الدوليُّ يقول: من يُنفق يشرف، والعالم كلُّه يخضع لهذا القانون, ويعترف بهذه العلاقة اللزوميَّة بين مسؤوليتي الإنفاق والإشراف.

أمَّا لماذا كان واجب الإنفاق منوطاً بالزّوج دون الزّوجة، فله جوابٌ طويلٌ يُدركه كلُّ من كان مُقِرَّاً بقدسيَّة الأسرة حريصاً على حمايتها من سائر الآفات, ولولا أنَّ الحديث في ذلك يُقصينا كثيراً عمَّا نحن في صدده لفصَّلْنا القول فيه بما يزيدنا إقراراً بل إعجاباً بحكمة المشرِّع جلَّ جلاله.

***

لك أن تقول: ربَّ امرأةٍ تتمتَّع بما لا يتمتَّع به الرَّجل من الشجاعة, والإقدام, وقوَّة الشَّخصية, واقتحام الأخطار في سبيل الذَّود عن الأسرة وحماية أفرادها، في حين ترى الرَّجل خائر النَّفس جباناً عاجزاً عن مواجهة الأخطار تتملَّكه المخاوف والأوهام، وقد يكون إلى جانب ذلك كلِّه فقيراً لا يتأتَّى منه النُّهوض بأدنى درجات الإنفاق.

وأقول لك في الجواب: كلَّما رأيت في الكون سنَّةً ماضية ينبعث منها نظامٌ مطّرد، فاعلم أنَّ بوسعك أن تعثر داخل تيَّار هذه السُّنَّة الماضية على شذوذاتٍ شاردةٍ عنها, بل خارجةٍ عليها… ترى ذلك بين قوانين الطَّبيعة وعالم الحيوانات والبحار، وترصد مثل ذلك في قوانين المجتمعات وفيما ينبغي أن تكون عليه طبائع الرِّجال والنِّساء بل أجسامهم وأجسامهن أيضاً, ولله عزَّ وجلَّ في ذلك حكمةٌ أفَضْتُ في الحديث عنها في مناسباتها ولدى معالجة الموضوعات المتعلِّقة بها.

فاعلم أنَّه كلَّما وقع شذوذٌ داخل نظامٍ ماضٍ مطَّرِد، فإنَّ ذلك الشذوذ يعطى الحكم المناسب له، دون عدوانٍ على الحكم العام المناسب للنِّظام الموجود المطّرد.

فإذا وجد داخل الأسرة رجلٌ شاذٌّ عن أمثاله من الرِّجال في کینونته الشَّخصيّة والنَّفسيّة، وصادف أن كانت الزّوجة في تلك الأسرة شاذّة هي الأخرى عن مثيلاتها من النّساء، وكانت تتمتّع بالصّفات التي ذكرت، فلا ريب أنّ القوامة الشرعيّة تكون لها، ولا شكّ أنَّ ذلك يكون من حسن حظِّ الرَّجل الذي أعوزته کینونته الشَّاذَّة إلى امرأةٍ شاذَّةٍ بين أترابها من النِّساء، وإنَّها لفرصةٌ نادرةٌ، حصول هذا التلاقي تحت سقف بيتٍ واحد.

ولكن هل من المنطق أن يُنسخ القانون المناسب للنّظام العام الموجود والمطّرد بسلطانٍ من الحكم الجزئيِّ الشَّاذّ استجابةً لحالةٍ شاذَّةٍ واقعة!..

إذا كان القانون المطّرد العامُّ لا يتأتى منه تجاهل الأخذ بحكمٍ مُخالفٍ له رعايةٌ لحالةٍ شاذَّةٍ واقعة، فكيف يتأتَّى لهذا الحكم الجزئيّ الخاصّ بتلك الحالة أن يُتجاهلَ سلطان القانون العامّ المطّرد المنسجم مع النظام الكونيّ المطّرد!

كلٌّ من القانونين: المطَّرد والشَّاذّ يبقى، ما دام كلٌّ من الحالتين: المطَّردة العامّة, والشَّاذَّة النادرة باقيَتَين مع تقلُّبات الدَّهر… هكذا تقول العدالة… وهكذا يقضي شرع الله وحكمه.

مُجتَمعُ الجسدِ الواحد

مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-
مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-

مُجتَمعُ الجسدِ الواحد

Loading

مادام الجزء في الكلّ فالأجزاء يحتاج بعضها إلى بعض، ليكون ذلك الكلّ

س: يقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَثَلُ المؤمنينَ في توادّهم وتراحُمهم كمثل الجسد الواحدِ, إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى لهُ سائرُ الجسدِ بالسَّهر والحمَّى)) [صحيح مسلم].

نريد تعميقاً لمعنى هذا الحديث، حتّى يمكن وضعه في إطار حقيقةٍ علميَّةٍ لها دليلُها، بدلاً من تشكيل الأساليب الخطابيَّة التي تخاطب العقل ولا تُشبعه؟

ج: هذه قضيةٌ تربويَّةٌ إيمانيَّةٌ… والقضايا التربوية تأتي بواسطة العلم. أي نسبةٌ واقعةٌ مجزومٌ بها، وعليها دليل… ذلك هو العلم الذي يجب أن يكون محوراً تدور حوله التَّربية.

ويكون هذا إمَّا علماً يبحث في الانسان ككلٍّ أي ذو أجزاء، أو علماً يبحث في الإنسان كجزئيّ يعيش في كلّ… فإذا أنت قوَّمت الفرد على أنَّه كلٌّ ذو أجزاء، وأشبعت ملكاته كان جزءاً، ولكنه لا يعيش وحده… وإنَّما يعيش في مجتمع.

والقيم الإسلامية هنا تتدخَّل. فبعد أن تدخَّلت فيه ككلٍّ له أجزاء تدخَّلت فيه كجزءٍ من كليّ… فأنت في المجتمع… وحاجتك إلى أفراد المجتمع كحاجة أفراد المجتمع إليك… فإذا كنت تريد أن يؤدِّي المجتمع حاجتك فأدِّ أنت أيضاً حاجة المجتمع منك. فلا تطلب حقَّاً من المجتمع إلا بجوابٍ تؤدِّيه إلى المجتمع.

لذلك فإيَّاك أن تعتبر نفسك كليَّاً منفصلاً عن المجتمع… فالإسلام يطلب منك أن تعتبر نفسك جزءاً في كلّ.

ومادام الجزء في الكلّ فالأجزاء يحتاج بعضها إلى بعض، ليكون ذلك الكلّ… فأراد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن ينقل القضية الإفرادية في المجتمع ليجعلها قضية كلّ… وأفراد المجتمع بالنسبة للمجتمع أجزاء.

لماذا؟

حتى لا يظنَّ ظانٌّ انعزاليَّة الفرد عن المجتمع. ولذلك يقول الرَّسول عليه السلام: ((كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى)).

وأنت إذا نظرت إلى المجتمع, وجدت المجتمع يتطلَّب حركةً في الحياة… والحركة في الحياة ليست واحدةً، فالحياة تريد حركاتٍ متنوِّعةً تغطِّي جميع جوانبها… فالمجتمع لا يريد أن يكون الكلُّ أطبّاء، أو قضاة، أو علماء، أو غير ذلك، ولكنَّه يريد كلَّ الجهات.

فالحقُّ سبحانه وتعالى يريد أن يجعل المجتمع جسماً واحداً، كلُّ عضوٍ منه يؤدِّي مهمَّةً، وبتكامل هذه الأجهزة. يكون التقويم الكامل للمجتمع.

ما موقف الإسلام من العنصرية السائدة في بعض الحضارات؟

مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مربع
مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مستطيل

انتشار الإسلام

Loading

إذا كان هدف الفتوحات الإسلامية إكراه الناس على دخول الإسلام بحد السيف، فقد فشل فشلاً ذريعاً، أما إذا كان الهدف فسح المجال لرؤية حقائق الإسلام فقد نجح الإسلام بذلك نجاحاً بيِّناً

ظهر خلال هذا القرن الزعيم الألماني ((هتلر)) يزعم أن الدم الآريّ أرقى من غيره، وهذا الكلام خرافيٌ لا وزن له.

إنَّ بني آدم من ناحية الخلقة يستوون في أنّهم نفخةٌ من روح الله الأعلى حلّت في إهابٍ من تراب هذه الأرض، فالبشر كلُّهم ينمّيهم أصلٌ واحدٌ، ويجمعهم نسبٌ مشتركٌ، لا فروق بين أبيض أو أسود.

البعض يتشبَّث بهذه الأوهام لأنّها رجَّحت كفَّته دون جهد، ومنحته شرفاً جعله –دون حركة– يسبق النَّاشطين، إنَّه لشيءٌ ظريف أن يُحسب المرء سيِّداً لأنَّه تكوَّن في بطنٍ معيّن، ونشأ النَّاس من ماءٍ مهين، أما هو فمن ماءٍ شريف.

إنَّه-مع احترامنا لقوانين الوراثة- نقرِّر أنَّ الوراثة لا تُنشئ عظمةً ولا تُكسب نجاحاَ، فهناك أنبياء من أصلابٍ كافرةٍ، وهناك فجَّارٌّ من أصلاب أنبياء، وقد كان أبو الطَّيب شاعراً مُفلِّقاً من أبٍ لا يعرف شعراً و لا نثراً، وكان أبو العلاء فيلسوفاً متشائماً من أبٍ لا يدري شيئاً عن  الفلسفة.

ثمَّ إنَّ روافد الوراثة غامضةُ المنبع والكُنه في أبناء الجيل الواحد، فكيف إذا تكاثرت الأجيال؟

إنَّ القول بأنَّ جنساً ما ذكيٌّ بأصل الخلقة، وجنساً آخر غبيٌّ بأصل الخلقة قولٌ فيه ادعاءٌ ظاهرٌ، إنَّ ظروف البيئة هي التي تصنع الأعاجيب، وهي التي تنمِّي المواهب أو تقتلها، بل هي التي تُحيي الفطرة أو تميتها.

والجنس الأبيض الذي يعمر غرب أوربا وشمالها، والذي يرفض وصايته على العالم كله، كان أياماً طوالاً يشتهر بالغباوة والانحطاط، وقد نقلنا في كتابنا ((مع الله)) كلام المستشرق “فيليب حتي” عن تأخر الأوربيين الحضاري وتفوُّق عرب الأندلس عليهم، ويدلُّنا على موقف العرب حيال برابرة الشمال وهكذا كان آباؤنا يسمُّون سكان أوربا.

والعالم اليوم ينظر إلى هزائم العرب أمام اليهود، ويبتسم ساخراً، وقد كان آباء أولئك المهزومين يحتقرون الجبن اليهودي ويبرؤون منه، ويقولون لنبيِّهم في أول قتالٍ له مع الوثنية: لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون.

بل اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون، إن خُضتَ بنا هذا البحر لخضناه معك، ما يتخلَّف منَّا أحدٌ.

إنَّ الإسلام بين أفراد وأجناس يصنعون يومهم وغدهم بأنفسهم، وهم في سباقٍ مفتوحٍ يتقدَّم فيه من شاء ويتأخَّر فيه من شاء لا دخل للون أو عرق، فقد يسبق الأسود في الدنيا والآخرة، أو يقع العكس.

وجاء في السُّنَّة أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم نبَّه قومه: ((لا يأتيني النَّاس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم))، وقال: ((من أبطأ به عملُه لم يُسرع به نسبه)).

ومع كثرة ما نبَّه الإسلام إلى مبدأ: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))[الحجرات13]، لوحظ أنَّ العرب يُغالون مغالاةً مُنكرةً بالأنساب، ويجعلونها محور تقدير جائرٍ وعصبيَّاتٍ عمياء. فقد فرضت تقاليد البدو نفسَها على المجتمع العربي، بل على جانبٍ من الفقه الإسلامي، فإذا عددٌ كبيرٌ من رجال الفقه يرون أنَّ الهاشميَّة لا يكافئها عربيٌّ عاديٌّ، وأنَّ العربية لا يكافئُها أعجميٌّ، وحَكَمَ القضاء الشرعي بتطليق فتاةٍ من أسرةٍ شريفةٍ تزوَّجت بالشيخ علي يوسف محرِّر صحيفة ((المؤيد)) المشهورة.

أمَّا حديث الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إذا أتاكم من ترضون دينه و مروءته فزوِّجوه، إلَّا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير)) فقد وضع على الرَّف. وكما تسلَّلت هذه التقاليد إلى ميدان الفقه تسلَّلت إلى ميدان الحكم والسياسة.

وعندما يُبحث سبب فساد المجتمع الإسلامي وانهيار الحضارة الإسلامية عموماً، فستكون هذه الجاهليَّات من أبرز العلل.

وإلى يوم الناس هذا لا تزال الكفاءة الشَّخصيَّة تؤخَّر أمام مكانة العائلة وقيمة النَّسب.

ذلك في وقت يشيع في أرجاء العالم تنافسٌ لا حدود له في البحث العلمي والإنتاج الغزير، وتجويد السلع، وكشف المجهول، ومراقبة الخصوم، وكشف الأصدقاء، إنَّه تنافسٌ ترتبط به مصائر أممٍ ومستقبل رسالات، ترى ما موقفنا؟

جاء في السُّنَّة عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ألا إنِّي جعلت نسباً وجعلتم نسبأ، جعلت أكرمكم عند الله أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان خيرٌ من فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، أين المتقون)).

والحمد لله رب العالمين

نبي مُرعِب

مع رجالات خوار -محمد الغزالي- غلاف
مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مستطيل

نبي مُرعب

Loading

﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾. [آل عمران:151]. نبي مرعب

قال لي طالبٌ جامعيٌّ بالإسكندرية: لقد أروني كتاب البخاري، وقرؤوا لي منه حديث: «نُصِرْتُ بِالرُّعْب» وتضاحكوا وهم يقولون: «نَبيٌّ مُرعبٌ» ينشر دينه بالإرهاب، والاعتراف سيِّد الأدلَّة!

وقلت للطَّالب: إنَّ البخاريَّ وغيره رووا هذا الحديث، وأريد أن أشرح لك المعنى الوحيد له, مُستعرضاً مواضع هذه الكلمة لا في السُّنَّة الشريفة بل في القرآن الكريم، لتعلمَ أنَّها أتت في سياق حربٍ ((دفاعيَّةٍ)) عن الحقِّ، ((هجوميَّةٍ)) على الباطل، لا عدوان فيها ولا إرهاب…

بعد هزيمة المسلمين في أُحد نزلت هذه الآية:

﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾. [آل عمران:151].

وهزيمة أُحد كانت في أعقاب خروج المشركين من مكَّة، وشنّهم الهجوم على الإسلام وأُمَّته في المدينة.

وقد استطاع المشركون إيقاع خسائر جسيمة بالمدافعين عن الدِّين وموطنه الجديد مما ترك آثاراً سيئة في النُفوس…

فأراد الله أن يواسي جراحهم، وأن يُشعرهم أنَّ القتال القادم سيكون لمصلحتهم، وأنَّه سيقذف الرُّعب في قلوب المعتدين عندما يكرِّرون هجومهم. فماذا في ذلك من عيب؟

وجاءت هذه الكلمة عندما خان يهود بني النضير عهدهم، وحاولوا قتل النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فجرَّد عليهم حملةً ليؤدِّبهم، ولكنَّ القوم حلَّ بهم الفزع دون قتالٍ, وقرَّروا الجلاء عن المدينة: ﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ[الحشر2]

وأخيراً: ذُكرت هذه الكلمة عندما انضمَّ يهود بني قريظة إلى الأحزاب التي أحاطت بالمدينة تبغي دكَّها على من فيها، وأعلنت حصاراً رهيباً عليها.

وكان بنو قريظة قد أعطوا العهد من قبل على أن يعيشوا مع المسلمين في سلامٍ شريف، واعترف رئيسهم بأنَّه لم يجد من النَّبيِّ إلَّا خيراً، ومع ذلك فقد انتهز الفرصة التي سنحت، وأعلن الحرب الغادرة, وظنَّ أنَّه سيقاسم المشركين الغنائم بعد الإجهاز على محمَّدٍ وصحابته. ولكنَّ قدر الله كان أغلب، لقد فضَّل الله جميع المحاصرين:

﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا[الأحزاب 26]

 أَإذا وقعت حربٌ الآن بيننا وبين إسرائيل، حربٌ جادَّة يستعلن فيها الإسلام, وتتَّحد الكلمة, ويتقدَّم ليوث محمَّد يطلبون إحدى الحُسنيين: إمَّا النَّصر وإمَّا الشّهادة ، وفزع اليهود لهذا الزَّحف الجديد، الواثق العنيد، فإذا حدث ذلك وسرى الرُّعب في قلوب أعدائنا قيل عنَّا أنَّنا إرهابيون؟

سِرُّ تحريمِ الانتحارِ

سِرُّ تحريمِ الانتحارِ

Loading

يجب أن ندع سلب الحياة إلى من وهبها، ولذلك فإنَّ ذنب قتل الغير يتساوى مع ذنب قتل النَّفس

س: لِمَ حرَّم الإسلام الانتحار, بينما المنتحر لم يؤذ غيره حين انتحر، وإنَّما آذى نفسه، وتخلَّص من حياته هو، ولم يعتدِ على حياة غيره؟
ج: إنَّ الله تعالى هو الذي وهب الحياة، فيجب أن ندع سلب الحياة إلى من وهبها، ولذلك فإنَّ ذنب قتل الغير يتساوى مع ذنب قتل النَّفس، لأنَّه تَعَدٍّ على حقٍّ ليس لك، فإن فعلت أنت ذلك حتى ولو بنفسك تكون قد أخذت حقَّاً ليس لك… ولذلك قال الله تعالی: ((بادرني عبدي بنفسه، فتحرم عليه جنَّتي)).
لأنَّ هذا الإنسان أخذ الحياة التي وهبها له، ثم سلب هو هذه الحياة بنفسه، وهذا ليس من حقِّه.
وسببٌ أخر… وهو أنَّ الذي ينتحر لا يفعل ذلك لوجود أسبابٍ ضاق عن احتمالها، وفي هذا نقصٌ في الإيمان.
فمن فوائد الإيمان تحمُّل الشَّدائد ثقةً بالله عزَّ وجلَّ، فيُصبح الانتحار قُنوطاً من قدر الله، ويأساً من رحمة الله.
ويجب أن نعلم أنَّ الإنسان متعرِّضٌ في هذا الكون الكبير للمُتغيِّرات، والكون كلُّه مُتغیِّر، فلا بدَّ أن يرتبط الإنسان المؤمن بربِّه… فإنَّ تعرَّض لأحداثٍ مکدِّرةٍ، أو ظروفٍ قاسية، فإنَّه يرجع إلى ربِّه، فيكون له أنساً وقوَّةً وملاذاً، فيقوى على مجابهة الأحداث والظُّروف التي مرَّ بها… وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿أَلَاْ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوْبُ [الرعد28].
لأنَّنا نجد القلوب مضطربةً قلقةً بغير ذكر الله، ولكن عندما يذكر الإنسان أنَّ له ربَّاً فإنَّ قلبه يطمئنُّ إلى أنَّه لا يواجه الأحداث وحده، ولا يوجِّهها بقوَّته، ولكنَّه يواجه الحياة وأحداثها بقوَّة ربِّه ومدده، فيطمئنُّ قلبه, ولذلك قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:
((عجباً لأمر المؤمن، إنَّ أمره كلَّه له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلّا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شکر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له)). [رواه مسلم].

خلق الله الكون في ستة أيام

مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مربع-
مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مستطيل-

خلق الله الكون في ستة أيام

Loading

أوهام الباحثين في هذا المضمار لها ساحتها الواسعة، يعودون منها كلَّ يومٍ بجديدٍ مُختلفٍ… أمَّا کلام الله فيسمو في أحكامه وأخباره فوق ذلك كلِّه

يقول قائلهم:

القرآن يقرِّر أنَّ الله خلق السَّماوات والأرض وما بينهما في ستَّة أيَّام، فيقول مثلاً: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [سورة ق ۳۸ ] وهذا القرار مکرَّرٌ في القرآن. ولكنَّه يقرِّر من خلال كلام أكثر تفصيلاً في سورة “فصِّلت” أنَّ السماوات والأرض إنَّما خُلِقت في ثمانية أيَّام. وهذا تناقضٌ بيِّن لا يحتمل تأويلاً، فكيف يكون القرآن كلام الله وفيه مثل هذا التَّناقض؟

وأقول: حديث هؤلاء النَّاس عن التناقض في إخبار القرآن عن أيَّام خلق السماوات والأرض ليس كالتَّناقض الذي نسبوه إلى القرآن عند حديثه عن خلق الله الإنسانَ من تُرابٍ, من طينٍ, من صلصالٍ… وليس كالتَّناقض الذي فهموه من حديث القرآن عن المشرق والمغرب، والمشرقين والمغربين، والمشارق والمغارب.

وقد مرَّ بيان تهافُت هؤلاء النَّاس في الفهم جهلاً منهم إن حسَّنَّا الظَّنَّ، وتجاهلاً إن جنحنا إلى سوء الظَّنّ.

إليك الآيات التي هي أكثر تفصيلاً في بيان الزَّمن الذي استغرقه خلق السَّماوات والأرض وما بينهما، أي خلق سائر المكونات. يقول الله تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) [فصِّلت9-12].

إنَّ الشُّبهة التي سرت إلى أذهان بعض النَّاس ممَّن لم يتمتَّعوا بالملكة العربيَّة ووجوه التعبير فيها إنَّما سرت إليهم من قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ

وذلك بعد أن قال: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ فالمجموع إذن ستَّة أيَّام، فإذا أضيف إليها اليومان اللذان استغرقهما خلق السَّموات، فيما ذكره البيان الإلهيُّ بعد ذلك، فهي إذن ثمانية أيَّام كاملاتٍ.

أين يكمن الوهم؟… إنَّه يكمن في سوء فهم الآية الثَّانية التي تتحدَّث عن خلق ما فوق الأرض من رواسٍ وما في داخلها من أقوات… إنَّ الأيَّام الأربعة التي خُتمت بها هذه الآية هي الزَّمن الذي استغرقه خلق الأرض بكلِّ ما عليها من جبالٍ, وما فيها من أقوات.

وهذا كما لو قلت –ولله المثل الأعلى- لقد استغرق الهيكل العظمي لهذا البناء ستَّة أشهر، ولقد تكامل بعد ذلك كسوةً ومكمّلاتٍ في عامٍ كاملٍ… من الواضح لكلِّ بصيرٍ باللغة العربيَّة أنَّ العام الكامل هو مدَّة إنشاء البناء من التأسيس إلى الكمال النهائيّ. وليس في أصحاب السّليقة العربيّة من يفهم من هذا الكلام بهذه الصّياغة أنَّ الذي استغرق من الزَّمن عاماً كاملاً إنَّما هو مرحلة الإكساء وحدها أي فيكون المجموع عاماً ونصف عام. لا يعلق هذا الفهم السَّقيم إلَّا بذي ذوقٍ أعجميٍّ ولسانٍ يُعاني من ركاكة النّطق.

عُدْ بعد هذا التَّقريب الذي لا يحتاج إليه -كما قلنا- إلَّا من يعاني ذهنه من فهاهة العُجمة، إلى بيان الله تعالى لتتبيَّن التَّعبير المشرق الدَّالَّ على المعنى المقصود المتَّفِق مع بيان الله عن میقات خلق المكوِّنات في الأماكن الأخرى من القرآن.

إنَّه يقول: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ إذن فالهيكل الأوليُّ للأرض خلق في يومين, ثمَّ أضاف فقال: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ إذن فتكامل خلق الأرض تأسيساً لهيكلها, وإتماماً لمتطلَّباتها, وما يحتاج الإنسان إليه منها، في أربعة أيَّام, ويُضاف إليها اليومان اللَّذان استغرقهما خلق السَّموات، كما ذكرته الآية الأخيرة.

 فيكون المجموع ستَّة أيّام, وهو ما يقرِّره بیان الله في الآيات والسُّوَر الأُخرى.

وأقول هنا بالمناسبة: إنَّ في النَّاس من يدخل وهمُّه في تفسير الأيَّام السِّتَّة التي ذكرها الله تعالى ميقاتاً استغرقه خلق المكوّنات، فيؤوِّلها بالدَّورات الفلكيّة، أي يجعل من كلِّ يومٍ دورةً فلكيَّةً برأسها ليقرِّب بذلك كلام الله تعالى إلى ما يقوله أصحاب الافتراضات والنظريَّات العلميَّة اليوم عن المدَّة التي استغرقها خلق السَّماوات والأرض وما بينهما.

إنَّ هذا التأويل لكلمة «الأيَّام» في كتاب الله تعالى افتراضٌ باطلٌ لا دليل عليه ولا موجب له, والاحتجاج بالحاجة إلى تقریب معنى «الأيَّام» إلى الدَّورات الفلكيَّة أوغلُ في الفساد والبطلان, فمتى ثبت علميَّاً الزَّمن الذي استغرقه إيجاد الله لهذه المكوّنات حتى نجعل منه إماماً لكلام الله وحجَّةً لتأويله؟

عجیبٌ شأن من ينظر إلى التّخيُّلات العلميَّة هذه النَّظرة المقدَّسة، وسرعان ما يُحيل الخيالَ والوهمَ إلى قانونٍ علميٍّ ثابتٍ، ثمَّ يمضي ويدير کلام ربِّ العالمين بالتَّطواف على تلك الأخيلة، بل يزيد على ذلك فيُسابق المتخيِّلين والمتوهِّمين، زاعماً أنَّ القرآن سبقهم إلى ما يقولون فأثبت لنفسه بذلك الإعجاز العلميّ الذي أغلق على الباحثين طرق السَّبق عليه إلى أنباء الكون وقوانينه… ولعلَّه لا يعلم أنَّه بهذا السِّباق اللاهث الذي يسوق في مضماره کلام الله تعالى ليقطع الطريق على الباحثين في أسبقيَّة بحوثهم، يزيدهم كراهية وسوء ظنٍّ بكتاب الله عزَّ وجلَّ.

أوهام الباحثين في هذا المضمار لها ساحتها الواسعة، يعودون منها كلَّ يومٍ بجديدٍ مُختلفٍ عمَّا توهَّموه في أمسهم الدَّابر… أمَّا کلام الله فيسمو في أحكامه وأخباره فوق ذلك كلِّه… ويصكُّ أسماء التَّائهين في افتراضاتهم وقراراتهم الوهميَّة بكلامه الرَّبَّانيِّ القائل: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف51]  إذن الأيَّام في إخبار الله تعالى عن خلقه للسَّماوات والأرض هي الأيَّام… لا نتزيَّد في كلامه، ولا نُحمِّله أثقالاً من التَّأويلات والأوهام إرضاءً لأصحاب النَّظريَّات العلميَّة المتناسخة.

هل مناسك الحج عبادة وثنية؟

مصطفى محمود
غلاف مصطفى محمود

هل مناسك الحج وثنية؟!

Loading

هي كلُّها معانٍ جميلةٌ لمن يُفكِّر ويتأمَّل… وهي أبعد ما تكون عن الوثنيّة

قال صاحبي وهو يفرك يديه ارتياحاً, ويبتسم ابتسامةً خبيثةً تُبدي نواجذه, وقد لمعت عيناه بذلك البريق الذي يبدو في وجه الملاكم حين يتأهَّب لتوجيه ضربةٍ قاضية.

 ألا تُلاحظ معي أنَّ مناسك الحج عندكم هي وثنيةٌ صريحة؟

 ذلك البناء الحجريُّ الذي تسمُّونه الكعبة, وتتمسَّحون به, وتطوفون حوله، ورجم الشيطان… والهرولة بين الصفا والمروة، وتقبيل الحجر الأسود… وحكاية السَّبع طوفاتٍ, والسَّبع رجماتٍ, والسَّبع هرولاتٍ, وهي بقايا من خرافة الأرقام الطَّلسميَّة, في الشَّعوذات القديمة، وثوب الإحرام الذي تلبسونه على اللحم… لا تؤاخذني إذا كنت أجرحك بهذه الصراحة ولكن لا حياء في العلم.

وراح ينفث دخان سيجارته ببطءٍ ويُراقبني من وراء نظَّارته.

 قلت في هدوء:

 ألا تلاحظ معي أنت أيضاً أنَّ في قوانين المادة التي درستها أنَّ الأصغر يطوف حول الأكبر، الإلكترون في الذرة يدور حول النَّواة، والقمر حول الأرض، والأرض حول الشَّمس، والشَّمس حول المجرَّة، والمجرَّة حول مجرَّةٍ أكبر، إلى أن نصل إلى (الأكبر مطلقاً)  وهو الله

ألا نقول: الله أكبر… أي أكبر من كلِّ شيء.. وبالتالي وحسب قانونك العلميّ يجب أن يطوف حولَّه كلُّ شيءٍ… وأنت الآن تطوف حوله ضمن مجموعتك الشمسية رغم أنفك، ولا تملك إلَّا أن تطوف فلا شيء ثابت في الكون إلا الله, هو الصَّمد الصَّامد السَّاكن والكلُّ في حركةٍ حوله… وهذا هو قانون الأصغر والأكبر الذي تعلَّمته في الفيزياء… أما نحن فنطوف باختيارنا حول بيت الله… وهو أوَّل بيتٍ اتَّخذه الإنسان لعبادة الله… فأصبح من ذلك التّاريخ السّحيق رمزاً وبيتاً لله… ألا تطوفون أنتم حول رجلٍ محنَّطٍ في الكرملين تعظِّمونه وتقولون أنَّه أفاد البشريّة، ولو عرفتم لشكسبير قبراً لتسابقتم إلى زيارته بأكثر ممَّا نتسابق إلى زيارة قبر محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسلام… ألا تضعون باقة وردٍ على نُصبٍ حجريٍّ وتقولون أنَّه يرمز للجنديِّ المجهول, فلماذا تلوموننا لأنَّنا نُلقي حجراً على نُصب رمزيٍّ نقول أنَّه يرمز إلى الشَّيطان… ألا تعيش في هرولة من ميلادك إلى موتك, ثمَّ بعد موتك يبدأ ابنك الهرولة من جديدٍ وهي نفس الرِّحلة الرَّمزية من الصَّفا (والصَّفاء أو الخواء أو الفراغ رمز للعدم) إلى المروة وهو النَّبع الذي يرمز إلى الحياة والوجود… من العدم إلى الوجود ثمَّ من الوجود إلى العدم… أليست هذه هي الحركة البندوليَّة لكلِّ المخلوقات… ألا تری في مناسك الحج تلخیصاً رمزيَّاً عميقاً لكلِّ هذه الأسرار.

ورقم 7 الذي تسخر منه… دعني أسألك ما السِّرُّ في أنَّ درجات السُّلَّم الموسيقيّ 7: صول, لا, سي, دو, ري, مي, فا, ثمَّ بعد المقام السابع يأتي جواب الصول من جديد… فلا نجد 8, وإنَّما نعود إلى سبع درجاتٍ أُخرى, وهلمَّ جرَّاً، وكذلك درجات الطَّيف الضوئيّ 7, وتدور الإلكترونات حول نواة الذرة في نطاقات 7, والجنين لا يكتمل إلَّا في الشهر 7, وإذا ولد قبل ذلك يموت, وأيَّام الأسبوع عندنا وعند جميع أفراد الجنس البشري 7, وضعوها كذلك دون أن يجلسوا ويتَّفقوا… ألَّا يدلُّ ذلك على شيءٍ… أم أنَّ كلَّ هذه العلوم هي الأخرى شعوذاتٌ طلسميَّة.

ألا تُقَبِّل خطاباً من حبيبتك… هل أنت وثنيّ؟ فلماذا تلومنا إذا قبَّلنا ذلك الحجر الأسود الذي حمله نبيُّنا محمَّدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام في ثوبه وقبله… لا وثنية في ذلك بالمرَّة… لأنَّنا لا نتَّجه بمناسك العبادة نحو الحجارة ذاتها.. وإنَّما نحو المعاني العميقة والرُّموز والذِّكريات.

إنَّ مناسك الحجِّ في عدَّة مُناسباتٍ لتحريك الفكر, وبعث المشاعر, وإثارة التَّقوى في القلب.

 أمَّا ثوب الإحرام الذي نلبسه على اللحم, ونشترط ألَّا يكون مخيطاً فهو رمز للخروج من زينة الدُّنيا وللتَّجرُّد التامّ أمام حضرة الخالق… تماماً کما نأتي إلى الدُّنيا في اللفة, ونخرج من الدُّنيا في لفَّةٍ, وندخل القبر في لفَّة… ألا تشترطون أنتم لبس البدل الرَّسميَّة لمقابلة الملك, ونحن نقول: إنَّه لا شيء يليق بجلالة الله إلّا التَّجرُّد, وخلع جميع الزّينة لأنَّه أعظم من جميع الملوك, ولأنَّه لا يصلح في الوقفة أمامه إلَّا التواضع التامُّ والتَّجرُّد، ولأنَّ هذا الثوب البسيط الذي يلبسه الغنيُّ, والفقير, والمهراجا, والمليونير, أمام الله فيه معنىً آخر للأخوَّة رغم تفاوت المراتب والثروات.

والحجُّ عندنا اجتماعٌ عظيمٌ ومؤتمرٌ سنويٌّ… ومثله صلاة الجمعة, وهي المؤتمر الصغير الذي نلتقي فيه كلَّ أسبوع.

هي كلُّها معانٍ جميلةٌ لمن يُفكِّر ويتأمَّل… وهي أبعد ما تكون عن الوثنيّة، ولو وقفت معي في عرفة بين عدّة ملايين يقولون: الله أكبر, ويتلون القرآن بأكثر من عشرين لغةً, ويهتفون: لبَّيك اللهمَّ لبيك, ويبكون, ويذوبون شوقاً وحبَّاً, لبكيت أنت أيضا دون أن تدري, وذُبت في الجمع الغفير من الخلق… وأحسست بذلك الفناء والخشوع أمام الإله العظيم مالك الملك الذي بيده مقاليد كلِّ شيء…
(د. مصطفى محمود / من كتاب: حوار مع صديقي الملحد).

لا سُنَّة من غير فِقْهٍ

مع رجالات خوار -محمد الغزالي- غلاف
مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مستطيل

فإنَّ السُّنَّة تجيء بعد القرآن، وحُسن فقهها يجيء من حُسن الفقه في الكتاب نفسه.

الإتّزان العقليُّ نصابٌ لابدَّ من توفُّره في أيِّ جوٍّ دينيٍّ، ويعدُّ أساس التَّحدُّث إلى النَّاس باسم الإسلام، وسعة العلم ضرورةً لفهم وجهات نظر المجتهدين وترجيح مذهبٍ فقهيٍّ على آخر، أمَّا مرتبة الاجتهاد المطلق فإنَّها درجةٌ أسنى، تقوم على الفضل الإلهيِّ، كما جاء في الحديث: ((إلَّا فهماً يؤتاه رجلٌ في كتاب الله)) وكما جاء في الآيات ﴿فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ  وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً[الأنبياء: 79]

عمل الفقهاء أكمل جهد المحدِّثين

إنَّ جوَّ الفقه، والفتوى، وتربية الأمة، وتبصير أولي الأمر شأوٌ يُستبعد منه قصار الباع والهمَّة والفكر، ويستحيل أن يحيا فيه المتطاولون، الذين يحسنون الهدم ولا يطيقون البناء، نقول كلَّ ذلك لنلفت الأنظار إلى خاصَّةٍ بارزةٍ في ثقافتنا القديمة، هي أنَّ عمل الفقهاء أكمل جُهد المحدِّثين، وضبطَه، وأحسن تنسيقه، ويسَّر الإفادة منه.

والتَّأمُّل في الآثار الواردة يجعل وظيفة الفقهاء لا محيص عنها، ويجعل الاستقاء المباشر من السُّنَّة صعباً على العامَّة، ذلك لأنَّ هناك قضايا وردت فيها آثارٌ مُتقابلةٌ…

روى مالكٌ قال: (بلغني أنَّ عبد الرَّحمن بن عوف تكارى أرضاً (استأجرها) فلم تزل في يديه حتى مات، فقال ابنه: فما كنت أراها إلَّا لنا من طول ما مكثت في يديه، حتى ذكرها لنا عند موته وأمرنا بقضاء شيءٍ كان عليه من كرائها، ذهب أو ورق…) وهذا الحديث يُجيز استئجار الأراضي لزراعتها.

وروى الشَّيخان عن ابن عبَّاس قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أرضٍ وهي تهتزُّ زرعاً فقال: ((لمن هذه؟ قالوا: اكتراها فلانٌ، قال: لو منحها أيَّاه كان خيراً أن يأخذ عليها أجراً معلوماً…))

وفي روايةٍ عن رافع بن خديج: سألني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((كيف تصنعون بمحاقلكم؟ قلت: نؤجّرها على الرّبع وعلى الأوسُق من التَّمر والشَّعير، قال: لا تفعلوا، ازرَعوها -يعني بأنفسكم- أوِ ازرعوها -يعني امنحوها غيركم- أو أمسكوها، قال رافع: قلت: سمعاً وطاعة..))

وللفقهاء كلامٌ في هذه المرويَّات، منهم من رفض الإيجار، ومنهم من رفضه إذا كان هناك غبنٌ أو غررٌ، ومنهم من أبطل المزارعة، ومنهم من أباحها، وكلاهما غلب بعض النُّصوص على بعضٍ آخر لملحظٍ ما.

ولا بدَّ من التَّنبيه إلى أنَّ العقائد والعبادات الرئيسيَّة والسُّنن العلميَّة، جاءت كلُّها عن طريق التواتر القاطع، لا يرتقي إليها لبسٌ أو تفاوتٌ، وإنَّما يحدث الخلاف في أمورٍ ثانويَّةٍ لا يضخِّمها إلا أصحاب الفكر المختلّ.

روى أحدهم حديث: ((ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النَّار)) ثمَّ حكم على الألوف المؤلَّفة من عباد الله أنَّهم من أهل جهنَّم، قلت له: إنَّ إسبال الإزار كُبراً رذيلةٌ، وقد كان في الجاهليَّة الأولى شارة الرِّياسة والملك، أمَّا طول الإزار حتَّى الكعبين أو دونهما قليلاً؛ لستر الجسم أو تجميله دون استكبارٍ فهو لا يُدخل النار، فأبى المتحدِّث أن يستمع إلى شرحي، وعدَّني من علماء السوء.

ورأيت نفراً من هؤلاء يغشون المجامع، مذكِّرين بحديث أنَّ أبا الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم في النَّار؟ وشعرت بالاشمئزاز من استطالتهم وسوء خلقهم، قالوا لي:

كأنَّك تعترض ما نقول؟ قلت ساخراً: وهناك حديثٌ آخر يقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا[الإسراء: 15]

فاختاروا أحد الحديثين…قال أذكاهم بعد هنيهة: هذه آيةٌ لا حديث، قلت: جعلتُها حديثاً لتهتمُّوا بها، فأنتم قلَّما تفقهون الكتاب.

عندما تتعارض المرويَّات في ظاهر الأمر، وهنا يدخل علماء الفقه والأثر للتَّنسيق والتَّرجيح، وقد يصحُّ السَّند ولا يصحُّ المتن، وقد يصحَّان جميعا، ويقع الخلاف في المعنى المراد، وهذا بابٌ واسعٌ جدَّاً، ومنه نشأ ما يسمَّى بمدرسة الأثر ومدرسة الرَّأي، والأوَّلون أقرب إلى الفقه الظاهريّ، وإن خالفوه كثيراً، والآخرون أوسع دائرةً وأبصر بالحكمة والغاية، وكلاهما إلى خيرٍ إن شاء الله.

وعندما يُخالف أثرٌ صحيحٌ ما هو أصحُّ منه يسمَّى شاذَّاً، وعندما يُخالف الضَّعيف الصَّحيح يسمَّى متروكاً أو مُنكراً، وكم من أُناس يبنون كثيراً من المسالك على هذه المتروكات والمناكير باسم السُّنَّة، والسُّنَّة مظلومةٌ مع هؤلاء الجهَّال.

▪ ضرورة العناية بالقرآن الكريم

ولست أقرِّر جديداً في هذا الميدان، والذي أراني مضَّطراً إلى التَّنبيه اليه، هو ضرورة العناية القصوى بالقرآن نفسه، فإنَّ أُناساً أدمنوا النَّظر في كتب الحديث واتَّخذوا القرآن مهجوراً، فنمت أفكارهم معوّجة، وطالت حيث يجب أن تقصر، وقصرت حيث يجب أن تطول، وتحمَّسوا حيث لا مكان للحماس، وبردوا حيث تجب الثَّورة.

ذكر أبو داود حديثاً واهياً جاء فيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:

((لا تركب البحر إلَّا حاجَّاً أو مُعتمراً أو غازياً في سبيل الله تعالى، فإنَّ تحت البحر ناراً وتحت النَّار بحراً)) هذا الحديث ضعيفٌ أو موضوعٌ خدع به الإمام الخطَّابي، وعلَّل النَّهي عن ركوب البحر بأنَّ الآفة تُسرع إلى راكبه، ولا يؤمن هلاكه في غالب الأمر.

والكلام كلُّه باطلٌ فقد قال المحقِّقون لا بأس بالتِّجارة في البحر وما ذكره الله تعالى في القرآن إلَّا بحقّ قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[فاطر: 12]

إنَّ الغفلة عن القرآن الكريم، والقصور في إدراك معانيه عاهةٌ نفسيَّةٌ وعقليَّةٌ لا يداويها إدمان القراءة في كتب السُّنَّة، فإنَّ السُّنَّة تجيء بعد القرآن، وحُسن فقهها يجيء من حُسن الفقه في الكتاب نفسه.

وقد قال الإمام الشَّافعيُّ: كلُّ ما حكم به الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم فهو ممَّا فهمه من القرآن، فكيف يفقه الفرع من جهل الأصل!

إنَّ الوعي بمعاني القرآن وأهدافه يعطي الإطار العام للرِّسالة الإسلاميَّة، ويبيِّن الأهمَّ فالمهمّ من التَّعاليم الواردة، ويُعين على تثبيت السُّنن في مواضعها الصَّحيحة.

والمسلم الذي يحترم دينه وأمَّته لا يرى الصَّواب حكراً عليه فيما يعتنق من وجهات النَّظر، وقد قامت مذاهب كثيرةٌ متحابَّةٌ، حتَّى جاء من يرى في الحديث رأياً خطأً كان أم صواباً، ثمَّ يقول هذا هو الدِّين لا دين غيره.

لقد خامرني الخوف على مستقبل أمَّتنا لَمَّا رأيت مشتغلين بالحديث ينقصهم الفقه، يتحوَّلون إلى أصحاب فقه ثم إلى أصحاب سياسةٍ تبغي تغيير المجتمع والدَّولة على نحو ما رووا ورأوا.

إنَّ الرِّسالة التي استقبلها العالم قديماً استقبال المقرور للدِّفء، واستقبال المعلول للشِّفاء، هانت على الناس فلم يروا ما يستحقُّ التَّناول.

أليس مُضحكاً أن يدخل داعيةٌ في مسجدٍ فينظر إلى المنبر ثمَّ يقول: بدعة! لماذا؟ لأنَّه سبع درجات، ثمَّ يرى المحراب فيقول أيضاً: بدعة، لماذا؟ لأنَّه مجوّفٌ في الجدار!

إنَّ النَّبيَّ العربيَّ محمداً استطاع بسنَّته إحياء أجيالٍ بدَّلت الأرض غير الأرض، وخطَّت إمبراطوريَّاتٍ ذاهبةً في الطُّول والعرض.

إنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنعش بسنَّته اقواماً كانت في غيبوبة، وأطلقها تسعى بعدما أضاءها من الدَّاخل، فعرفت المنهج والغاية، إنَّنا بحاجةٍ إلى شُعاعٍ على مسار الدَّعوة؛ وحقيقة السُّنَّة، فكم ظُلمتِ السُّنَّة ممَّن يتشدَّقون بها.