هل الدين أفيون

مصطفى محمود
غلاف مصطفى محمود

هل الدين أفيون

Loading

هل الدين أفيون

قال لي صاحبي الدكتور وهو يغمز بعينيه :ما رأيك في الذين يقولون أن الدين أفيون وأنه يخدر الفقراء والمظلومين ليناموا على ظلمهم وفقرهم ويحلموا بالجنة والحور العين.
بينما يثبت الأغنياء على غناهم باعتبار أنه حق وأن الله خلق الناس درجات؟
وما رأيك في الذين يقولون أن الدّين لم ينزل من عند الله وإنما طلع من الأرض من الظروف والدواعي الاجتماعية ليكون سلاحاً لطبقة على طبقة؟ وهو يشير بذلك الى الماديين وأفكارهم. قلت:  ليس أبعد من الخطأ القائل بأن الدين أفيون.. فالدين في حقيقته أعباء وتكاليف وتبعات وليس تخففاً وتحللاً وبالتالي ليس مهرباً من المسؤوليات وليس أفيوناً وديننا عمل وليس كسلاً .
 ((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ )) [١٠٥ – التوبة]
ونحن نقول بالتوكل وليس بالتواكل. والتوكل يقتضي عندنا العزم واستفراغ الوسع وبذل غاية الطاقة والحيلة ثم التسليم بعد ذلك لقضاء الله وحكمه.
((فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)) [١٥٩ – آل عمران]
العزم أولاً والنبي يقول لمن يريد أن يترك ناقته سائبة توكلاً على حفظ الله (اعقلها وتوكل…) أي ابذل وسعك أولاً فثبتها في عقالها ثم توكل والدين صحو وانتباه ويقظة ومحاسبة للنفس ومراقبة للضمير في كل فعل وفي كل كلمة وكل خاطر وليس هذا حال آكل الأفيون.
إنما آكل الافيون الحقيقي هو المادي الذي ينكر الذين هرباً من تبعاته ومسؤولياته ويتصور أن لحظته ملكه وانه لا حسيب ولا رقيب ولا بعث بعد الموت فيفعل ما يخطر على باله. وأين هذا الرجل من المتدين المسلم الذي يعتبر نفسه مسؤولاً عن سابع جار.. وإذا جاع فرد في أمته أو ضربت دابة عاتب نفسه بأنه لم يقم بواجب الدين في عنقه وليس صحيحاً أن ديننا خرج من الأرض. من الظروف والدواعي الاجتماعية ليكون سلاحاً لطبقة على طبقة وتثبيتاً لغنى الأغنياء وفقر الفقراء.
والعكس هو الصحيح.. فالإسلام جاء ثورة على الأغنياء والكانزين المال والمستغلين والظالمين. 

فأمر صراحةً بأن لا يكون المال دولة بين الأغنياء يحتكرونه ويتداولونه بينهم وإنَّما يكون حقَّاً للكل: ((وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) [التوبة-34]. والإنفاق يبدأ من زكاةٍ إجباريةٍ 2.5 في المئة ثمَّ يتصاعد اختيارياً إلى كلِّ ما في الجيب؛ وكلِّ ما في اليد فلا تُبقي لنفسك إلَّا خبزك كفافك: ((وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)) [البقرة-219].
والعفو: هو كلُّ ما زاد عن الكفاف والحاجة، وبهذا جمع الإسلام بين التكليف الجبريِّ القانونيّ، والتكليف الاختياري القائم على الضمير، وهذا أكرم للإنسان من نزع أملاكه بالقهر والمصادرة، ووصل بالإنفاق إلى ما فوق التسعين في المئة دون إرهاق.
ولم يأت الإسلام ليثبِّت ظلم الظالمين بل جاء ثورةً صريحةً على كلِّ الظالمين، وجاء سيفاً وحرباً على رقاب الطواغيت والمستبدِّين.
أمَّا التهمة التي يسوقها المادِّيون بأنَّ الدِّين رجعيٌّ وطبَقيٌّ بدليل الآيات :((وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ)) [النحل-71].   ((وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)) [الزخرف-32].

فنحن نردُّ بأنَّ هذه الآيات تنطبق على لندن وباريس وبرلين وموسكو بمثل ما تنطبق على القاهرة ودمشق وجدَّة، وإذا مشينا في شوارع موسكو فسوف نجد من يسير على رجليه، ومن يركب (بسكليت)، ومن يركب عربة موسكو فتش، ومن يركب عربة زيم فاخرة، وماذا يكون هذا إلَّا التفاضل في الرزق بعينه، والدرجات والرتب الاقتصادية. والتفاوت بين الناس حقيقةٌ جوهريةٌ، ولم تستطع الشيوعية أن تُلغي التفاوت، ولم يقُل حتَّى غُلاة المادية والفوضوية بالمساواة، والمساواة غير ممكنة؛ فكيف نساوي بين غير متساويين.
الناس يُولدون من لحظة الميلاد غير متساوين في الذكاء، والقوَّة، والجمال، والمواهب، يولدون على درجاتٍ في كلِّ شيءٍ.
وأقصى ما طمعت فيه المذاهب الاقتصادية هي المساواة في الفُرَص. وليست المساواة بين الناس أن يلقى كلُّ واحدٍ نفس الفرصة في التعليم والعلاج، والحدِّ الأدنى للمعيشة، وهو نفس ما تحضُّ عليه الأديان، أمَّا إلغاء الدرجات، وإلغاء التفاوت فهو الظلم بعينه، والأمر الذي يُنافي الطبيعة، والطبيعة تقوم كلُّها على أساس التفاضل، والتفاوُت، والتنوُّع في ثمار الأرض، وفي البهائم، وفي الناس .

في القطن: نجد طويل التِّيلة، وقصير التِّيلة، وجيزة7، وسكلاريدس، وفولي جود فير.
في البلح: مجد الزغلول، والسماتي، والحياني،
وفي العنب: تجد البناتي، والفيومي، والأزمرلي،
وفي الحيوان والإنسان نجد الرُّتَب والدرجات والتفاوت أكثر.

هذا هو قانون الوجود كلّه التفاضل، وحكمة هذا القانون واضحةٌ؛ فلو كان جميع الناس يولدون لما كان هناك داعٍ لخلقةٍ واحدةٍ وقالبٍ واحدٍ، ونسخةٍ واحدةٍ لميلادهم أصلاً، وكان يكفي أن تأتي نسخةٌ واحدةٌ فتغني عن الكلِّ، وكذلك الحال في كلِّ شيء، ولانتهى الأمر إلى فقر الطبيعة وإفلاسها، وإنَّما غِنى الطبيعة وخصبُها لا يظهر إلَّا بالتنويع في ثمارها وغلَّاتها، والتفاوت في ثمارها،
ومع ذلك فالدِّين لم يسكت على هذا التفاوت بين الأغنياء والفقراء بل أمَر بتصحيح الأوضاع، وجعل للفقير نصيباً في مال الغني، وقال: إنَّ هذا التفاوُت فتنةٌ وامتحان: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)) [الفرقان-20].
سوف نرى ماذا يفعل القوي بقوَّته، هل يُنجد بها الضعفاء؛ أم يضرب ويقتل ويكون جبَّاراً في الأرض، وسوف نرى ماذا يفعل الغنيُّ بغناه؛ هل يطغى ويُسرف؛ أم يعطف ويُحسن؟ وسوف نرى ماذا يفعل الفقير بفقره، هل يحسد ويحقد ويسرق ويختلس… أم يعمل ويكدُّ ويجتهد ليرفع مستوى معيشته بالشرع والعدل؟

وقد أمر الدِّين بالعدل، وبتصحيح الأوضاع، وبالمساواة بين الفرص، وهدَّد بعذاب الآخرة، وقال بأنَّ الآخرة ستكون أيضاً درجات أكثر تفاوُتاً لتصحيح ما لم يجر تصحيحه في الأرض: ((وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)) [الإسراء-21].
وللَّذين يتَّهمون الإسلام بالرجعية السياسية، ونقول أنَّ الإسلام أتى بأكثر الشرائع تقدُّميَّة في نظم الحكم، واحترام الفرد في الإسلام بلغ الذروة، وسبق ميثاق حقوق الإنسان وتفوَّق عليه، فماذا يساوي الفرد الواحد في الإسلام؟ إنَّه يُساوي الإنسانية كلَّها:
((مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)) [المائدة-32].
لا تُغني المنجزات، ولا الإصلاحات المادّية، ولا التعمير، ولا السدود، ولا المصانع إذا قتل الحاكم فرداً واحداً ظُلماً في سبيل هذا الإصلاح، فإنَّه يكون قد قتل الناس جميعاً. ذروةٌ في احترام الفرد لم يصل إليها مذهبٌ سياسيٌّ قديمٌ أو جديد، فالفرد في الإسلام له قيمةٌ مطلقةٌ بينما في كلِّ المذاهب السياسية له قيمةٌ نسبية،

والفرد في الإسلام آمِنٌ في بيته، وفي أسراره، ولا تجسُّس، ولا غيبة، آمِنٌ في ماله ورزقه وملكيَّته وحرِّيَّته، وكلِّ شيء، حتَّى التحية، حتَّى إفساح المجلس، حتَّى الكلمة الطيبة لها مكانٌ في القرآن، وقد نهى القرآن عن التجبُّر والطغيان والانفراد بالحكم.

وقال الله للنَّبيِّ وهو من هو في كماله وصلاحيَّاته: ((وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ)) [ق-45]، ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)) [الغاشية-21]. ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) [الحجرات-10]، ونهى عن عبادة الحاكم، وتأليهِ العظيم: ((وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّه))  [آل عمران-64]، ((وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)) [الإسراء-23].

ونهى عن الغوغائية، وتملُّق الدهماء والسوقة، والجري وراء الأغلبية المضلِّلة، وقال: ((وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)) [يوسف-40]، ((بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)) [العنكبوت-63]، ((ولكنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ)) [غافر-59]، ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)) [الأنعام-116]، ((إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)) [الفرقان-44]. ونهى عن العنصرية والعرقية: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) [الحجرات-13]، ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ))  [الأعراف-189]. وبالمعنى العلمي؛ كان الإسلام تركيباً جدلياً جامعاً بين مادِّية اليهودية وروحانية المسيحية، بين العدل الصارم الجاف الذي يقول: السنُّ بالسنِّ والعين بالعين، وبين المحبَّة والتسامح المتطرِّف الذي يقول: من ضربك على خدِّك الأيمن فأدر له الأيسر .
وجاء القرآن وسطاً بين التوراة التي حُرِّفت حتَّى أصبحت كتاباً مادِّياً ليس فيه حرفٌ واحدٌ عن الآخرة، وبين الإنجيل الذي مال إلى رهبانيةٍ تامَّة، ونادى القرآن بناموس الرحمة الجامع بين العدل والمحبَّة؛ فقال بشرعية الدفاع عن النفس، ولكنَّه فضَّل العفو والصفح والمغفرة: ((وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) [الشورى-43]. وإذا كانت الرأسمالية أطلقت للفرد حرية الكسب إلى درجة استغلال الآخرين، وإذا كانت الشيوعية سحقت هذه الحرية تماماً؛ فإنَّ الإسلام قدَّم الحل الوسط:

((لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ))  [النساء-32]. الفرد حرٌّ في الكسب ولكن ليس له أن يأخذ ثمرة أرباحه كلَّها؛ وإنَّما له فيها نصيب، وللفقير نصيبٌ يؤخذ زكاةً وإنفاقاً 2.5 بالمئة جبراً لا اختياراً، وهذا النصيب ليس تصدُّقاً وتفضُّلاً وإنَّما هو حقُّ الله تعالى في الربح، وبهذه المعادلة الجميلة حفظ الإسلام للفرد حُرِّيته وللفقير حقَّه، ولهذا أصاب القرآن كلَّ الصواب حين خاطب أُمَّة الإسلام قائلاً: ((كَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)) [البقرة-143] .فقد اختار الإسلام الوسط العدل في كلِّ شيء، وهو ليس الوسط الحسابي وإنَّما الوسط الجدليَّ أو التركيب الذي يجمع النقيضين (اليمين واليسار) ويتجاوزهما ويزيد عليهما، ولذلك ليس في الإسلام يمينٌ ويسار وإنَّما فيه: صراط الاعتدال الوسط الذي نسمِّيه الصراط المستقيم، ومن خرج عنه باليمين أو اليسار فقد انحرف، ولم يقيِّدنا القرآن بدستورٍ سياسيٍّ محدَّدٍ أو منهج مفصَّل للحكم لعلم الله بأنَّ الظروف تتغيَّر بما يقتضي الاجتهاد في وضع دساتير متغيِّرة في الأزمنة المتغيِّرة، وحتَّى يكون الباب مفتوحاً أمام المسلمين للأخذ والعطاء من المعارف المتاحة في كلِّ عصرٍ دون انغلاقٍ على دستورٍ بعينه؛ ولهذا اكتفى القرآن بهذه التوصيات السياسيَّة العامَّة السالفة کخصائص للحكم الأمثل؛ ولم يكبِّلنا بنظرية، وهذا سرٌّ من أسرار إعجازه وتفوُّقه؛ وليس فقرٌ ولا نقصٌ فيه، وتلك لمسةٌ أُخرى من تقدُّمية القرآن التي سبقت على التقدُّميات. ونردُّ على القائلين بأنَّ الدِّين جمودٌ وتحجُّرٌ بأن الإسلام لم يكن أبداً دين تجمُّدٍ وتحجُّر وإنَّما كان دائماً وأبداً دين نظرٍ، وفكرٍ، وتطويرٍ، وتغييرٍ بدليل آياته الصريحة: ((قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ)) [العنكبوت-20]، ((فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ)) [الطارق-7]،
((أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)) [الغاشية-9]، أوامر صريحةٌ بالنظر في خلق الإنسان، وفي خلق الحيوان، وفي خلق الجبال، وفي طبقات الأرض، وفي السماء وأفلاكها، وهي نظراتٌ تضمُّ كلَّ ما نعنيه الآن بعلم الجيولوجيا، والفلك، والتشريح، والفسيولوجيا، والبيولوجيا، وعلم الأجنّة، أوامر صريحةٌ بالسير في الأرض، وجمع الشواهد، واستنباط الأحكام والقوانين، ومعرفة كيف بدأ الخلق، وهو ما نعرِّفه الآن بعلوم التطوّر. ولا خوف من الخطأ فالإسلام يكافئ الذي يجتهد ويخطئ بأجر، والذي يجتهد ويصيب بأجرين.

. وليس صحيحاً ما يقال من أنَّنا تخلَّفنا بالدِّين وتقدَّم الغرب بالإلحاد، والحقُّ أنَّنا تخلَّفنا حينما هجرنا أوامر ديننا، وحينما كان المسلمون يأتمرون بهذه الآيات حقَّاً كان هناك تقدُّمٌ، وكانت هناك دولةٌ من المحيط الى الخليج، وعلماء مثل ابن سينا في الطبِّ، وابن رشد في الفلسفة، وابن الهيثم في الرياضيات، وابن النفيس في التشريح، وجابر بن حيَّان في الكيمياء، وكانت الدنيا تأخذ عنَّا علومنا.

وما زالت مجمعات النجوم وأبراجها تحتفظ إلى الآن بأسمائها العربية في المعاجم الأوروبية، ومازالوا يسمُّون جهاز التقطير بالفرنسية imbique  ومنه الفعل من كلمة أمبيق العربية   imbiquer، ولم يتقدَّم الغرب بالإلحاد بل بالعلم، وإنَّما وقع الخلط عمَّا حدث في العصور الوسطى من طُغيان الكنيسة ومحاكم التفتيش وحجرِها على العلم والعلماء، وما حدث من سجن غاليليو، وحرق جيوردانو برونو حينما حكمت الكنيسة وانحرف بها البابوات عن أهدافها النبيلة فكانت عنصر تأخُّرٍ فتصوَّر النُّقَّاد السطحيون أنَّ هذا ينسحب أيضاً على الإسلام وهو خطأ، فالإسلام ليس فيه بابوية ولا كهنوت، والله لم يُقِم بينه وبين المسلمين أوصياء ولا وسطاء، وحينما حكم الإسلام بالفعل كان عنصرَ تقدُّمٍ كما شرحنا وكما يقول التاريخ مكذِّباً هذه المزاعم السطحية.

وآيات القرآن الصريحة تحضُّ على العلم، وتأمر بالعلم، ولا تُقيم بين العلم والدين أيَّ تناقض :((وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً))  [طه-114]، ((هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) [الزمر-9]، ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ)) [آل عمران-18]. جعل الله الملائكة وأولي العلم في الآية مقترنين بشرف اسمه ونسبته، وأوَّل آيةٍ في القرآن وأوَّل كلمةٍ كانت (اقرأ)، والعلماء في القرآن موعودون بأرفع الدرجات: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)) [المجادلة-11].
وتتكرَّر كلمة العلم ومشتقَّاته في القرآن ثمانمئة وخمسين مرَّة، فكيف يتكلَّم بعد هذا متكلِّمٌ عن تناقضٍ بين الدِّين والعلم؛ أو حجْرٍ
من الدِّين على العلم. والنظر في الدِّين وتطوير فهمه مطلوب،

وتاريخ الإسلام كلُّه حركاتٌ وتطوير، والقرآن بريءٌ من تهمة التحجير على الناس، وكلُّ شيءٍ في ديننا يقبل التطوير ما عدا جوهر العقيدة، وصلب الشريعة لأنَّ الله واحدٌ؛ ولن يتطوَّر إلى اثنين أو ثلاثة وهذا أمرٌ مطلق، وكذلك الشرُّ شرٌّ، والخير خيرٌ ولن يُصبح القتل فضيلةً، ولا السرقة حسنة، ولا الكذب حليةً يتحلَّى بها الصالحون . وفيما عدا ذلك فالدِّين مفتوحٌ للفكر والاجتهاد والإضافة والتطوير .وجوهر الإسلام عقلانيٌّ منطقيٌّ يقبل الجدل والحوار ويحضُّ على استخدام العقل والمنطق وفي أكثر من مكانٍ وفي أكثر من صفحةٍ في القرآن تعثر على التساؤل: ((أَفَلَا يَعْقِلُونَ))، ((أَفَلَا يَفْقَهُونَ)).
وأهل الدِّين عندنا هم أولو الألباب: ((إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)) [الأنفال-22]، ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا))  [الحج-46]. فاحترام العقل في لبِّ وصميم الديانة، والإيجابية عصبُها، والثورة روحها.

لم يكن الإسلام أبداً خانعاً ولا سلبياً: ((وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ)) [البقرة-190]، ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ)) [الصف-4]، والجهاد بالنفس والمال والأولاد، والقتال والثبات وعدم النكوص على الأعقاب، ومواجهة اليأس والمصابرة والمرابطة في صلب ديننا .فكيف يمكن لدينٍ بهذه المرونة، والعقلانية، والعلمية، والإيجابية، والثورة أن يُتَّهم بالتحجُّر والجمود إلَّا من صديقٍ عزيزٍ مثل الدكتور القادم من فرنسا لا يعرف من أوَّليات دينه شيئاً، ولم يقرأ في قرآنه حرفاً.

الصوفية والسلفية

مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-
مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-

الصوفية والسلفية

Loading

رحمته في الجهاد

س: هل هناك خلافٌ حقيقيٌّ بين الصوفية والسلفية في نظركم؟
ج: وجود خلافٍ بين الصوفيَّة والسلفية ناشئٌ عن خطأ في فهم السلفيَّة والصوفية، ولو أنصف الفهم في كليهما لما وُجِدَ خلافٌ أبداً. فالصوفية أخذت لوناً من السلوك المنظَّم بطرق، والمرسوم بمشايخ، والمؤكَّد بوراثات، والسلفية أخذت الوقوف عندما كان في عصر النَّبيِّ بدون فارقٍ بين أمرٍ يتغيَّر وأمرٍ لا يتغيَّر. فهل كان يُرضينا أن نفهم علَّةً لتحريم الراديو، أو التلفزيون، أو التليفون؟ وهل يُرضينا أن يرث الطريق إلى الله صبيٌّ لم يبلغ الحلم؟
فالسلفية لو فُهمت على أصلها، والصوفية لو فُهمت على أصلها لما وُجِدَ خلاف، لأنَّ الصوفية بمعناها الحقّ هي: الورع في تطبيق الدين تطبيقاً يشمل حتَّى المندوبات والسُّنَن لتكون مُلزمات، وكلُّ ذلك بعد سلامة ما افترض الله من عباداتٍ، وأدائها على الوجه المطلوب، لا تخرج بشحٍّ ولا تُرَّهات، وبذلك يصدق في المؤمن قوله تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)) [سورة الشمس-الآية 9].

والهوَّة السحيقة التي يُوجدها خصوم الإسلام، وغير الفاهمين أن
يعتبروا الصوفية عِلماً وفلسفة، وهي في الواقع ليست إلَّا مجاهدة النفس
للوصول إلى صفاء الروح، وهذا لا يُنكره سلفيّ.
وما الفلسفة إلَّا الوقوف في الحكم موقفاً ملتزماً، وفى المجتهد فيه موقفاً إن رجح فيه رأيٌ يُجرح رأيٌ آخر. 

الرسالة الخاتمة

مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-
مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-

الرسالة الخاتمة

Loading

الرسالة الخاتمة

سؤال: كانت الرسالة المحمدية خاتمة للرسلات، فلماذا كانت هي الخاتمة؟ وما موضعها بين موجات التقدم الفكري الحديث؟

الجواب: انتهت الرسلات برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان الرسول الخاتم، الذي لا استدراك للسماء بعد ذلك على رسالته أبدا. . ولماذا كان هو الخاتم؟

لأن الرسل السابقين إنما جاءوا على فترة من الحياة في فطرة الكون، وفطرة الحركة في الكون، فطرة تقرب الإنسان من السكون. .
والناس قديماً كانوا يذهبون إلى العين – مثلا – فلا يجدون الماء، فيرفعون أكفهم إلى السماء ضراعة إلى الله أن تمطر السماء، لأنه لا وسائط بين شربهم وبين مطر السماء .
فلما كثرت الوسائط، وأصبحت هناك صهاريج، وأصبحت هناك آلات لرفع الماء في الصهاريج، وأصبحت هناك آلات تضخ الماء في الأنابيب، وأصبحت كل هذه المسائل ؛ وجدت وسائط كثيرة بين النعمة في أصلها الفطري من المطر وبين المنعم عليه في نعمته الحضارية.

فإذا انقطع الماء من الصنبور فإنك لا تفكر في السماء، ولكن تقول:
أطلب وابور المياه أو أقفل الخط الفلاني، أو غير ذلك من المتطلبات، إلى أن يقول أخيراً: إن الآبار التي عليها الآلات لا تخرج ماء، لأنها قد جفت .
حينئذ يلتفت الناس إلى السماء ويسألون الله أن يطمرهم.

إذن فوسائل البشر في الارتقاء قد تعطيهم لونا من الغرور بفكرهم. ولوناً من الغرور باستعلائهم، فيبتعدون عن أصل النعمة السماء، فكلما تقدم الزمن وتقدم العصر، وابتكرت العقول كان من الممكن أن يستعلى الإنسان. بعقله وفكره. ويظن أن له استغناء ..

إذن فلابد أن تكون الرسالة التي جاءت على عهد ارتقاء الحياة رسالة ملفته لفتاً قسرياً إلى الحق تتخطى حواجز الغرور العقلي كله، وتعطى الإنسان عطاء يخرجه من هذه المادية المطغية إلى الأصل الأصيل في واهب الأشياء .

رحمته في الجهاد

فكأن الإسلام الذى يتمثل في القرآن هو المنهج الذي يعطى كل منهج تساؤلات الوجود كلما ارتقى الفكر الإنساني في شيء أعطاه القرآن عطاء يدفع عنه أي ارتياب يؤدى إليه غرور العقل، وصلف الابتكار.

لذلك كان الإسلام في منهج القرآن متمثلا في أمرين :

أولهما : أمر يتمثل في كونية الحياة .
ثانيهما : أمر يتمثل في افعل» و «ولا تفعل».

فالأمر الذى يتمثل في افعل ولا تفعل لم يتغير أبداً، وليس لعقل أن يزيد فيه، وليس لعقل أن يبتكر ويجتهد فيه، لأنه حكم تكليفي، والناس فيه سواء من لدن، إلى أن تقوم الساعة.
فليس من المعقول أن يوجد بعد عصر محمد صلى الله عليه وسلم، افعل كذا بأمر جديد، أو لا تفعل كذا بنهى جديد أي إن كل أمر وكل نهى إنما جاء من لون محمد صلى الله عليه وسلم ، وسيظل كذلك إلى أن تقوم الساعة. أما الذي يمكن أن يتغير فهو عطاء الكونيات في الأرض. العطاء الذي إن تنبهت إليه أخذت نفعا، وإن لم تنتبه له لم يضرك في التكليف شيئاً.

فهب أنك لم تبتكر الكهرباء، وأنك لم تبتكر الطائرة، وأنك لم تبتكر الصاروخ، ما الذي أثر في حركة حياتك بـ «افعل» و «لا تفعل»؟ إن وصلت إليه انتفعت، به وإن لم تصل إليه لم يضرك شيء.
فكل الجديد لا يأتي في التكليف افعل كذا ولا تعل كذا. .
فالذين يحاولون أن يجعلوا لكل عصر افعل ولكل. عصر لا تفعل نقول لهم: أحلتم على الله، لأن افعل من الله لا تتغير، ولا تفعل لا تتغير.
فمن حاول أن يجعل افعل من الله في مقابل لا تفعل من البشر أو لا تفعل من البشر في مقابل افعل من الله، نقول لهم: إنكم أشركتم بالله.. ابحثوا بعقولكم في كونيات الحياة واستنبطوا من الحياة ما شاتم، لكن لا تعلموا بدينكم لتقولوا افعل كذا، ولا تفعل كذا.
فالله لا يتعلم كيف يكلفنا، ولا يستدرك عليه كيف يكلفنا.
فمن لم يطق افعل من الله في نفسه، ومن لم يتحمل لا تفعل من في نفسه فعلية أن يتقى الله ولا يتحمل وزر افعل ولا تفعل في سواه.

لا تنازعوا فتفشلوا

مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-
مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-

لا تنازعوا فتفلشوا

Loading

لا تنازعوا فتفشلوا

س: منذ زمنٍ طويلٍ وأعاصير النزاع تهبُّ على العالم الإسلامي… فلا نجد عصراً إلَّا وهناك مِن أبناء الإسلام من يتقاتل بالسلاح… أو يتراشق بالاتهامات… حتَّى وصل الحال إلى أن استعان بعض أدعياء من حكَّام الدولة الإسلامية على إخوانهم المسلمين بأعداء الإسلام من الملحدين الكافرين، ثمَّ لا نرى من بقية الحكام المسلمين إلَّا برقيات الاستنكار… فما أبعاد هذه المشكلة الخطيرة؟

ج: الذي جعل المسلمين يختلفون هو السلطة الزمنية… كلُّ واحدٍ يريد لنفسه ولأمَّته سلطةً زمنيةً، ومادام كلُّ واحدٍ يريد ذلك فلا خير في الحياة… لا خير في الحياة إن لم تنزع هذه الإرادة… نقول لهم: دعوا السلطة الزمنية، وحكِّموا شيئاً واحداً هو الذي لا يتغيَّر من الأشياء، ألا وهو منهج الله سبحانه وتعالى… وإذا كان بيننا وبين بعضنا خلافاتٌ فيجب أن يوجد بيننا قومٌ بمنأى عن هذه الخلافات ليتدخَّلوا في الأمر.

انظروا إلى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا[الحجرات-9]، الإيمان لا يحرِّم أن تختلف طائفتان من المؤمنين، ولكنَّ واجب الأمة أن يكون فيها من يصلح بين المختلفين… من هم الذين يصلحون؟ وعلى أيِّ أساسٍ يُصلحون؟

الذين يصلحون هم المؤمنون… وعلى أساس منهج الله… لماذا منهج الله؟

رحمته في الجهاد

لأنَّ المصلح قد يتدخَّل بهوىً، فتصبح الأهواء ثلاثة: هوى كلِّ طائفةٍ من الطائفتين، وهوى المصلح، ونحن نريد أن نقلِّل الأهواء، لا أن نزيدها بعداً… بل إنَّ الواجب أن نجعل الأهواء المختلفة هوىً واحداً… أمَّا أن أتدخَّل بهواي فقد زدَّت المعركة بُعداً ثالثاً.

يقول الله تعالى: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَ[النساء-35].

فإذا رأيت واحداً تدخَّل في أمرٍ ولم ينته إلى الصلح، فاعلم أنَّه لم يكن يريد الإصلاح… ولابدَّ أنَّ له هوىً ثالثاً.

وفي صدد الإصلاح يقول الله تعالى: ﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّه[الحجرات-9] برجولة الإيمان قاتلوا التي تبغي… فإن فاءت إلى أمر الله فلا تتركوا الأمر على حاله… بل عاودوا الإصلاح… ﴿فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[الحجرات-9]. عاودوا الإصلاح لإزالة أسباب النزاع.

والذي يحدث في العالم الإسلامي شيءٌ مؤسف… والأشد أسفاً أنَّنا لا نجد من المسلمين طائفةً تمثِّل الصلح… كنَّا نرجو أن توجد فئةٌ لا تنحاز إلى جهة، ولكن تمثِّل الوسط المصلح، لتتلقَّى أمر الحقِّ في أن تصلح ذات البين.

كيف يبني الإسلام الأمَّة المسلمة

مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مربع
مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مستطيل

كيف يبني الإسلام الأمَّة المسلمة؟

Loading

كيف يبني الإسلام الأمَّة المسلمة؟

ألف الناس في عصرنا أن يكون ولاء الإنسان الأوَّل لوطنه وقومه! حسناً: ما الوطن؟ قطعةٌ من الأرض تربطنا بها حقوقٌ وذكريات! لكن من صاحب هذه الأرض ومالكها؟ ﴿قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾؟ [المؤمنون-84]، ومن خلق الأقوام الذين يحيون فوقها وشدَّ أسرهم ودبَّر أمرهم؟ ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ…[يونس-66]، ألَّا تكون العلائق أوثق وأسبق بهذا الإله الخالق المالك؟

إنَّ الإسلام حين يبني الأمَّة يجعل الإيمان العميق هو الدِّعامة الأولى في هذا البناء، ويجعل الولاء لله والعمل له الوظيفة الأولى للإنسان الراشد السوي. إنَّ عواطف من الربَّانية الغامرة هي التي تحرِّك المسلم وتحدِّد له غايته ومنهاجه، وهي عواطف تتنامى كلَّما سمع الأذان للصلوات الخمس، وكلَّما حجزه إيمانه عن رغبةٍ مجنونةٍ أو دفعه إلى عطاءٍ سخيٍّ، أو وقفه ليشدَّ أزر ضعيف، أو أغراه بالصياح في وجه منكر…!

إنَّ الربَّانية التي صنعها الدين أنفس معدناً، وأرجى ثواباً من المواطنة التي صنعها الناس، ومع ذلك فالمسلم أوَّل المدافعين عن الوطن، وأوَّل المحامين عن العشيرة، وأوَّل القائمين بالحقوق المطلوبة من كلِّ إنسانٍ كريم،

لأنَّه يأبى الضيم ويردُّ العدوان.

 وبديهيٌّ أن يكون ذلكم الإيمان هو الروح الساري في كيان الأمَّة كلِّها، والمنتظم للكبار والصغار والأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء… وبعد أن يُرسي الإسلام أسس هذا اليقين يفرض مبدأ الأخوَّة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات-10]. والأخوَّة ليست لفظاً أجوف، إنَّها رحمٌ دينيَّةٌ موصولةٌ تعطي ثماراً أشهى وأزكى مما تعطي الديمقراطية الاشتراكية في الميدانين السياسيّ والاقتصاديّ، إنَّها خلقٌ فرديٌّ ونظامٌ اجتماعيٌّ، وقد اعتمدت الدولة الإسلامية منذ نشأتها الأولى على هذه الأخوة في مواجهة ظروف الحرب والسلام والإقامة والهجرة واقتسام المغارم والمغانم وتحمُّل الأعباء والواجبات…

ومن ينبوع الأخوَّة ينبجس رافدان من روافد العزَّة والاستقرار هما مبدأ التناصر ومبدأ التحاب…

أساس التناصر أنَّ المسلم لا يدع أخاه أبداً يُحرَج أو يذل، ويمضي لشأنه تاركاً إيَّاه يواجه وحده ما يقع له…

كلَّا، يجب أن يلزمه ويثبته ويدفع عنه، يحامي معه أو دونه… والواقع أن أشجِّع الشجعان لا يستغني عن عنصرٍ مادّيٍّ يسعفه في الشدائد. إنَّ المرء قذ يغضب إذا أُهين، وقد يستعدُّ للقتال إذا قطع عليه الطريق! ولكنَّه يغضب ويستعدُّ ويهجم على المعتدي إذا كان معه سلاحه، والمؤمن سلاحٌ لأخيه، وعضدٌ له في الشدائد، والمؤمن بين إخوانه يتحرَّك بقواهم كلِّها، لا بقوَّته وحد، وهذا الشعور الجماعيّ من معالم الجماعة المسلمة…

قال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه…) وفي رواية: (المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يكذبه ولا يظلمه، إنَّ أحدكم مرآة أخيه!! وقال: (من ذبَّ عن عرض أخيه ردَّ الله النار عن وجهه يوم القيامة)، على أنَّ لهذه النصرة الواجبة صوراً مختلفةً تقتضي التبصُّر والروية، فليس الأمر عصبيةً عمياء، كلَّا، المهم إحقاق الحقّ وإبطال الباطل، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً! قيل: أنصره إذا كان مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم فإنَّ ذلك نصره). والاستعمار العالميُّ يجتهد في قتل مبدأ التناصر، وفكِّ تضافر الأمَّة، وقد أعانه على ذلك الاستبداد الداخلي، أو قل: إنَّ الاستعمار سخَّر الحكم الفردي لإشاعة الفتك والسفك ونشر العار والدمار حتَّى كادت بعض الشعوب الإسلامية تفقد ملكة الشجاعة وعاطفة التعاضد والتناصر، فأصبح أحدٌ لا يلوي على أحد!!

 لابدَّ من إحياء مبدأ التناصر بين المسلمين جميعاً…

أمَّا المبدأ الثاني من آثار الأخوَّة الإسلامية فقوامه التحابُّ لوجه الله، وجعل الانتماء إليه عاطفةً شريفةً تعلو كلَّ الصداقة، وترجع كلَّ قرابة، ولذلك جاء في الحديث القدسي:

(يقول الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي؟ اليوم أُظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلَّ إلَّا ظلِّي)

والواقع أنَّ الحبَّ في الله يهوِّن مشاقّ الحياة كما يهوِّن الحذاء مراحل الطريق ومتاعب العمل، وعندما يستوحش المرء من الناس، بل من نفسه، تجيء هذه العاطفة المباركة فتؤنس البعيد، وتمنحه قوَّةً على مواصلة العمل لله والجهاد في سبيله.

وتقديراً لهذه الحقيقة يقول الله سبحانه في الحديث القدسي:

(وجبت محبَّتي للمتحابِّين فيَّ، وللمتجالسين فيَّ وللمتزاورين فيّ، وللمتباذلين فيّ). 

يعني من ينفقون أموالهم بسخاءٍ إجابةً لهذه العاطفة حين تفرض النفقة!

وليس حبُّ المؤمن لإخوانه نافلةً يتطوَّع بها إذا أراد، كلَّا، إنَّها أثر اليقين الناضج.

ولا يسوِّغ أن يكون المؤمن ميَّت الإحساس يتحرك لما يعنيه ويبرد لما يعنى غيره، إنَّ هذا الانحصار الشخصي هدمٌ للجماعة وإضاعةٌ للأمَّة، والمؤمن الحقُّ يحبُّ غيره كما يحبُّ نفسه، في هذا يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنَّة حتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا، ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).

وتحيَّة الإسلام مفتاح التعارف أو نقطة البدء في انخلاع المرء من عزلته واهتمامه بإخوانه، وفرحه بما يفرحهم وحزنه لما يحزنهم!

ومن اللطائف قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (إذا أحبَّ احدكم أخاه فليخبره بأنَّه يحبُّه) وقوله: (إذا آخى الرجل الرجل فليسأله عن اسمه واسم أبيه وممَّن هو؟ فإنَّه أوصل للمودَّة) وفي كلِّ مجتمعٍ بشريٍّ أغنياء وفقراء، حتَّى المجتمع الشيوعيّ فيه من يصبرون كرهاً على طعامٍ واحد، ومن يُطاف عليهم بالصحاف المنوَّعة، إنَّ العلاقة بين هؤلاء وأولئك جديرةٌ بالتأمُّل…

أيكون ذلك التفاوت مبعث حقد؟ عند المؤمنين بالدنيا وحدها لا ريب أنَّه يخلِّف في النفوس آثاراً سيِّئة! أمَّا المشغولون بآخرتهم- إلى جانب دنياهم- فهم لا يأبهون لذلك كثيراً مادام عند كلِّ امرئٍ ما يكفيه ويغنيه، بل لقد وجدنا التنافس اتَّجه إلى ناحيةٍ أخرى، فقد شكا الفقراء إلى رسول أنَّهم متخلِّفون عن الأغنياء في مجال الإحسان! قد تجمعهم الصلاة والصيام، ويتساوون في الأجور، لكنَّ الأغنياء يعتقون ويتصدَّقون ويجاهدون بمالهم يمكنُّهم التفوُّق الاقتصاديّ من أعمالٍ صالحةٍ كثيرةٍ… أرأيتم فيم فكَّر فيه القوم؟ إنَّهم لم يشكوا عيلةً في الدنيا ولا غُبناً نزل بهم، إنَّهم يفكِّرون في الآخرة، وتلك خاصَّةٌ يمتاز بها مجتمعٌ ربَّانيٌّ…

جاء في السنَّة أنَّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم! قال: (وما ذلك؟) قالوا: يصلُّون كما نصلِّي ويصومون كما نصوم ويتصدَّقون ولا نتصدَّق ويُعتقون ولا نُعتق، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم؟ إلَّا من صنع مثل صنيعكم)! قالوا: بلى يا رسول الله! قال: (تسبِّحون، وتكبِّرون، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين مرَّةً دبر كلِّ صلاة)! قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، يعنون أنَّه بقى لهم تفوُّقهم-فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)!

إنَّ همَّة المؤمنين تنشد الرضوان الأعلى ومنازل الآخرة، وهذه الصِّبغة الربَّانية صانت الأمَّة الإسلامية في ميدانين مهمَّين:

الأوَّل: في تلقِّي العلوم الدينية وصيانتها وتعليمها للآخرين ابتغاء وجه الله.

والثاني: في الجهاد المتفاني لردِّ أعداء الإسلام، واستبقاء دولته قائمةً مع إلحاح الغارات الصليبية والوثنية عليها…

إنَّ النجاح في هذين الميدانين استبقى أصول الإسلام ومعالمه وغطَّى عيوباً كثيرةً نشأت عن مفاسد الحكم، وشهوات الحكام.

وأمرٌ آخر يظهر في ثبات البناء الإسلاميّ على تراخي الأزمنة، إنَّ الإسلام عدَّ العمل للحياة عبادة، وعدَّ المال قيام الحياة وسياجها وكان الصحابة يقسمون أيَّامهم، فيجعلون بعضها للبقاء مع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يتعلَّمون ويقتدون، والبعض الآخر للضرب في الأرض يكدحون ويكسبون، فإذا غابوا عهدوا إلى إخوانهم الحاضرين أن يحفظوا لهم ما يجد من وحيٍّ وسنَّة، ليعرفوا بعد عودتهم ما هنالك، ثمَّ يردُّون الصنيع لإخوانهم إذا غابوا…

 ومن ثمَّ لم يقع قط أن كان المسلمون في الشؤون المدنية أخفَّ كفَّةً، أو أسوأ حظَّاً، والدِّين لا يتمُّ تحصينه إلَّا بدنيا قائمة، وسنادٌ مدنيٌّ متين…!!

الدين والعلم

مصطفى محمود
غلاف مصطفى محمود

الدين والعلم

Loading

الدين والعلم

ليس بإنسانٍ من لم يتوقَّف لحظةً في أثناء عمره الطويل ليسأل نفسه… ما الحكاية بالضبط؟ من أنا؟ ومن أكون؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين أذهب؟ وما مصيري؟ وما الحكمة من الألم؟ وما الهدف من الوجود؟ وعلام هذا اللُّهاث المجنون، وآخِرُ السعي موتٌ وترابٌ ولا شيء… إنَّ الحياة دون إيمانٍ ودون يقينٍ بوجود إلهٍ عادل، هي عبثٌ صرفٌ بلا معنى، وبلا سند، وبلا رصيد… وهي عذابٌ بلا حكمةٍ، وألمٌ بلا عوض، ومغامرةٌ بلا عائد، ومشروعٌ بلا ضمان.

والإنسان إذا خلت حياته من الله هو مشروع فاشلٌ نهايته اليأس والانتحار… وإذا كانت الحياة استمرَّت ثلاثة آلاف مليون سنةٍ فلأنَّ الله فيها، ومعها، ومن ورائها، ومن حولها، يهديها ويدعمها ويُساندها وينوِّرها… ووجوده سبحانه وتعالى ضرورةٌ مُطلقةٌ، بدونها لا سبيل إلى فهم أيِّ شيء، ولا سبيل إلى استمرار أيِّ شيء، ليس ضرورةً عقليَّةً أو ضرورةً فلسفيَّةً فقط، بل ضرورةً وجوديَّةً بحتة.

الإنسان وإله الكون قضيَّةٌ واحدةٌ لا يفهم أحدها إلَّا بالآخر، ولا ينفصل طرفٌ منها عن الآخر، فالله يُفارقنا بعلوِّه، ولكنَّه فينا، وأقرب إلينا من حبل الوريد. فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجه الله. وهو معكم أينما كنتم، ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلَّا وهو رابعهم، بل هو الجمال في كلِّ جميل، والقوَّة في كلِّ قوي، والقدرة في كلِّ قادر، وهو سبحانه نور السموات والأرض.

ويؤكِّد لنا الدِّين هذا الشعور دون تفلسفٍ فيعطي المؤمن جرعةً من الراحة والسكينة والطمأنينة تكفيه مدى عمره؛ فلا يعود يسأل أو يتساءل وإنَّما ينطلق يسعى، ويعمل جاهداً في سبيل الخير والبرِّ، غير ناظرٍ إلى مكافأةٍ أو عِوَضٍ لأنَّ الله ذاته هو العِوَض، وليس بعد الله شيء، ثمَّ هو يسعى دون خوفٍ من مرضٍ أو موت، فهو يعلم أنَّه لا موت؛ إنَّما كدحٌ إلى الله، وسيرٌ في المنازل، وصعودٌ في معراجٍ من التحوُّلات لا يعلم كيف تكون، فذلك غيبٌ؛ ولكنَّ إيمانه يُغنيه ويمتدُّ به عبر الغيب، وبطول الشهادة كلِّها.

والعلمانيون الذين يستنكرون علينا المزاوجة بين العلم والدين يأخذون علينا الكلام في الدِّين بلغة العلم…

وهم يعيشون في انشقاقٍ على أنفسهم طول الوقت، فهم يقسمون الحقيقة إلى أجزاء، ويتصوَّرون أنَّ كلَّ جزءٍ له علبةٌ خاصَّة… فهذه علبةٌ للدِّين، وهذه علبةٌ للعلم، وينسون أنَّ تشريح الحقيقة يقتلها، لأنَّها بطبيعتها بسيطةٌ وشاملة… فالدِّين في ذاته علم… هو علمٌ بالله، والعلم بالله لا ينفصل عن العلم بمخلوقاته، فالمعرفة بالصانع لا تنفصل عن المعرفة بصنعته… بل إنَّ كلَّ معرفةٍ منهما تؤيِّد الأخرى وتعضدها، ولا تناقضها ولا تنفيها… فالكون كلُّه بما يتجلَّى فيه من وحدة القوانين، ووحدة الخامة، وانسجام الألوان والأشكال هو خير شاهدٍ على وحدة الصانع… والكون هو مجالٌ لقدرات الله وأفعاله وصفاته… والتاريخ هو المشيئة الإلهية التي تتحقَّق شِفرياً في الحوادث… والتطوُّر التكامليُّ في الكون هو ذلك الكدح إلى الله صُعُداً مرتقىً بعد مرتقى… ونحن نرى الله في كلِّ شيء… وليس ذنبنا أنَّهم لا يرون الله في أيِّ شيء… وأنَّ نظرتهم تقف عند حدود الميكروسكوب، والتليسكوب، وشاشة الرادار… وأنَّهم يقسمون كلَّ شيءٍ إلى ألف جزءٍ وجزء، ثمَّ يتيهون في الأجزاء ولا يرون إلَّا الأجزاء.

والعلم تراثٌ للجميع، ولا يستطيع أحدٌ أن يَدَّعى ملكية العلم لنفسه، ولا يوجد علمٌ روسيٌّ، ولا علمٌ أمريكيٌّ، ولا علمٌّ إنجليزيُّ، وحقائق العلوم ملكيَّةٌ مشتركة، وهي موضوع استبصار العالم والفيلسوف والمفكِّر ورجل الدِّين، دون أن يتَّهم أحدهم بالتبعيَّة لأحد… فالتماس الحقِّ من جميع سبله المتاحة هو أوجب واجبات العقل.

وعيب العلمانيين أنَّهم يختلقون تناقضاً بين العقل والوجدان، ويعيشون في انشقاقٍ دائمٍ في أنفسهم وعلى أنفسهم، وذلك لبُعدهم عن الرؤية الشمولية، ولغرقهم في الجزيئات، ولو أنَّ رؤيتهم ارتفعت عن الجزء، والتحمت بالكلِّ لذابت كلُّ هذه التناقضات، ولرأوا الانسجام الشامل في كلِّ شيءٍ، ولكانوا من الذين فهموا الآية.

﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ﴾. فما كلُّ هذا التلوين والتصنيف في الأشكال في هذا المتحف الكونيّ إلَّا تعبيرٌ عن السعة الإلهيَّة والعلم الإلهيّ الذي أحاط بكلِّ شيءٍ فهُم أَينما تولَّوا فإنَّهم يقرؤون كتاب الله ويستجلون آياته… فليس ثمَّة إلَّا هو… وما من الله بدٌّ. 

يقول الله للعبد الصالح في كتاب المواقف والمخاطبات للنفري: (أنا في عين كلِّ ناظر)، ومعنى ذلك أنَّه في المشهد، وفي الشاهد، وذلك هو الوجود مطلقاً، فسبحان ربِّي الذي وسع كلَّ شيءٍ رحمةً وعلماً.

لو قرأت القرآن فأنت في كلماته… ولو قرأت كتاب الكون فأنت في صنعته… ولو قرأت في العلوم الطبيعية فأنت في قوانينه… ولو قرأت التاريخ فأنت في مشيئته… ولو قرأت في الفنون فأنت في تجلِّيات اسمه (البديع والخالق والمصوّر) ولا مهرب لك منه… أنَّى توجَّهت فأنت في إحاطته… وأجدادنا في صدر الإسلام فهموا الإسلام أحسن منَّا، فكان الواحد منهم أمَّةً ودائرة معارف.

كان ابن سينا عالماً وطبيباً وفيلسوفاً وشاعراً وحجَّةً في الرياضيات، ومثله الرازي، وابن رُشد، وابن الهيثم، وغيرهم… لم يكن الواحد منهم يضع الدِّين في علبةٍ، ويضع العلم في علبةٍ ويقول: لا أُدخل هذا في ذاك، ولا أُدخل ذاك في هذا، وإنَّما كان كلٌّ منهم عقلاً شمولياً ورؤيةً شمولية… وكان كلَّما ازداد شمولاً في النظر ازداد قرباً وفهماً للدِّين والعلم على السواء، حتَّى المفسِّر السَّلَفيّ الذي يحتجُّ به الخصوم؛ لم يكن مُغلقاً على المعلومة الدينية القرآنية بل كان يحاول أن يستخدم العلوم المتاحة في عصره لفهم آيات القرآن الكريم.

حينما فسَّر السلف ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾، بقولهنَّ إنَّها الرِّياح تدفع السحب فتسقطها على الأرض مطراً، فتلقحها وتُخصبها، كانوا يستعينون بالعلوم الطبيعية في زمانهم، ونحن اليوم حينما اتَّسعت معارفنا نقول: هي الرياح تحمل حبوب اللقاح من زهرةٍ إلى زهرة فتلقِّحها، ثمَّ حينما اتَّسعت معارفُنا أكثر نقول: هي الرياح تحمل ذرَّات التراب، وتُلقي بها السحبُ فتعمل كبذور تتجمَّع حولها القطيرات، فهي كأنَّما تلقِّحها، وهكذا كلَّما تقدَّم ركب العلم كشف لنا المزيد من مغاليق هذه الآية الكريمة.

إنَّنا نسير على نفس الدرب خلَفاً عن سَلَف، لم نأت بِدْعاً من الأمر، بل إنَّ السَّلَف كانوا أحياناً يُغالُون في هذا التفسير العلمي فيقعون في الخطأ، فنرى الطبريَّ على ارتفاع قَدَمه في التفسير يفسِّر الآية: ﴿يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ [سورة الروم-19]. بأنَّها الدجاجة تخرج من البيضة والبيضة تخرج من الدجاجة، وأنَّها الجنين يخرج من النطفة المنوية، والنطفة المنوية تعود وتخرج من الرجل البالغ… ونعرف الآن إنَّ المثال العلمي الذي ضربه الطبري مثالٌ خاطئ… فالبيضة والدجاجة هي حيٌّ يخرج من حيّ، وكذلك النطفة هي حيوانٌ منويٍّ حيٌّ يخرج من حيّ… ولكنَّ الطبري كان له عذره فهكذا كانت العلوم المتاحة في زمانه…

ولقد أخطأ أرسطو خطأً أكبر حينما قال بِتَولُّد الديدان من الجبن القديم، وخروج الحياة من تخمُّر المواد الميتة… واليوم يعرف أصغر تلميذ في أي مدرسةٍ ابتدائيةٍ أنَّ دود المشّ يخرج من بيضة ذبابة المشّ، وأنَّ التخمُّر يحدث بسبب ميكروب الخميرة، وليس العكس… هي أخطاءٌ وقع فيها أكابر… ولكنَّهم اجتهدوا فكان لهم أجرٌ حتَّى على أخطائهم.

ولكنَّ الخطأ الذي لا يُغتفر هو أن يتوقَّف الاجتهاد، أن يَجْبُنَ العلماء خوفاً من أن يُقال: إنَّهم أدخلوا البِدَع… وأن يتقاذف الناس الاتِّهام بالتكفير… وأن ينغلق رجل العلم على علبة العلم، وأن ينغلق رجل الدين داخل قوقعة الدين، وأن ينعدم التواصل، وأن ينحلَّ التفكير إلى جُزُرٍ منفصلة غير مترابطة، وأن نفتقد الرؤية الشاملة، وأن يختنق كلُّ واحدٍ في تخصُّصه فذلك آية الانحدار والتخلُّف الحضاريّ.

الإعجاز الغيبي

غلاف الدكتور شوقي أبو خليل

الإعجاز الغيبي

Loading

الإعجاز الغيبي 

من أوائل السور المنزلة في مكَّة المكرَّمة: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ[المسد1-3]  سمع أبو لهبٍ (عبد العزَّى بن عبد المطَّلب) السورة، وعاش بعد سماعه إيَّاها عشر سنوات، ولو قال: لا إله إلا الله محمَّدٌ رسول الله نفاقاً ورياءً بلسانه دون قلبه لشكَّك بالوحي وأبطله، فالوحي لا يخطئ ولو مرَّةً واحدة، إنَّه معصومٌ من الخطأ، وبشكلٍ مُطلق، فلو وقف أبو لهب في الحرم، وقال: يا قريش، مسلمها ووثنيِّها، ويقول محمَّدٌ هذا القرآن الذي يتلوه علينا وحيٌّ من عند ربِّه، وهو يقول أيضاً: من قال لا إله إلا محمَّدٌ رسول الله دخل الجنَّة، اشهدوا عليَّ قولي: لا إله إلا الله محمَّد رسول الله، فأيّ موقفٍ يسجِّله هنا أبو لهب!

لو كان القرآن من عند محمَّد بن عبد الله، لما قال أمراً غيبياً لا يدري ما سيكون شأنه في قادمات الأيام، إنَّه من عند الله قطعاً، وهو علَّام الغيوب، لقد علم أنَّ أبا لهبٍ لن يقول الشهادة ولو رياءً ونفاقاً وكذباً، ولن يُحرج الدعوة ورسول الله أبداً.

منذ الأيام الأولى للإسلام والمسلمين، كانوا متعاطفين مع أهل الكتاب، مثلما كان المشركون متعاطفين مع عبَدَة النار، لذلك فرح المشركون القرشيّون بانتصار الفُرس وهزيمة الروم، وساء ذلك المسلمين، وحينما أَظهر المشركون شماتتهم، نزلت بدايات سورة الروم، لاحظ يا سيد روديغر هذا التكريم لكم، سورة باسم الروم الذين كانوا يمثِّلون أوروبا كلَّها آنذاك، جاء في مطلعها:

﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ[الروم 2-5].

 في هذه الآيات دلالةٌ عظيمةٌ لفتح القلوب، دراسة هذه العقيدة التي واكبت الأحداث، فلا انزواء ولا قوقعة، والتي بشَّرت بنصرٍ قريبٍ للرُّوم في بضع سنين، والبضع من ثلاث إلى تسع، وسيكون النصر ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ[الروم-3].

(أدنى) لغة: أقرب، وأخفض كما في (اللسان)، وتحقّق المعنيان، أقرب إلى الحجاز وأخفض، في أرض فلسطين، أقرب ما يكون لمهد الدعوة الإسلامية (الحجاز)، وأخفض بقعةٍ على سطح الأرض (البحر الميت-394م).

  1. في [آل عمران12]: ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾، وقد غُلبوا.
  2. وفي [الأنفال7]: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾، وعدٌ عجيبٌ بالنصر في بدر الكبرى، والمسلمون قلَّةٌ من حيث العدد، وما خرجوا لقتال، ومع ذلك ذُكر النصر قبل المعركة، وكان كما أَخبر رسول الله، وقد نسب الوعد على الله تعالى.
  3. ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [سورة البقرة 12-13]، ولن تفيد الاستمرارية في المستقبل ﴿وَلَن تَفْعَلُوا﴾، فما فعلوا في الأمس، ولن يفعلوا اليوم وغداً.
  4. وفي سورة [القمر-45]، وهي من السور المكية: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾، على الرغم من الاضطهاد والتعذيب والتهجير في الفترة المكّية، جاءت هذه البشرى، وقد كانت محقَّقةً في بدر الكبرى.
  5. ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر-9]، وهو محفوظٌ من التحريف والزيادة والنقصان…
  6. ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ*وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ[ص87-88]، وسورة (ص) مكّيّة، وما هي إلَّا سنواتٌ حتَّى صار للإسلام نبؤه العظيم في العالم، وهو اليوم شاغل العالم من اليابان حتَّى الولايات المتحدة.
  7. ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ[التوبة-28]، وقد أغناهم.
  8. وأخيراً في [النساء-157] في معرض الحديث عن السيِّد المسيح عليه السلام: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾.
    وفي نهاية الآية ذاتها: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾، والأناجيل القبطية المكتشفة في (نجع حمادي) تذكر بوضوحٍ أنَّ المسيح لم  يصلب، وإنَّما صلب شبيهٌ له، وهذه الأناجيل غيَّرت تاريخ السنوات الأولى للمسيحية، لأنَّ بعضها كإنجيل توماس مثلاً يرجع إلى منتصف القرن الميلادي الأول، أي أنَّه يسبق أوَّل الأناجيل المعروفة بعشر سنواتٍ على الأقل.

    جاء في أحد هذه الأناجيل المكتشفة، وهو إنجيل بطرس كما قدَّمته منظَّمة اليونسكو 1970م، وكما قدَّمته لجنة تكوَّنت في الولايات المتحدة لترجمة النصوص تحت رعاية (جيمس روبنسون) عالم الدراسات اللاهوتية الأمريكي، وتمَّ الانتهاء من الترجمة الإنكليزية 1975م، ثمَّ ترجمت بعد ذلك إلى الفرنسية والألمانية، جاء في أحد هذه الأناجيل حرفياً (وهو إنجيل بطرس):
    (يقول المخلِّص: إنَّ الذي رأيته سعيداً ويضحك هو يسوع الحيّ، لكنَّ من يدخلون المسامير في يديه وقدميه فهو البديل، فقد وضعوا العار على الشبيه، انظر إليه، وانظر لي)، كما جاء في كتابٍ آخر يسمَّى (كتاب: سيت الأكبر):
    ( كان شخصٌ آخر هو الذي شرب المرارة والخلّ، لم أكن أنا، كان آخر، سيمون هو الذي حمل الصليب على كتفه، كان آخر هو الذي وضعوا تاج الشوك على رأسه، وكنت أنا في العلاء أضحك لجهلهم)
    [المجلَّة العدد 713، الجمعة 3 تشرين الأول (أكتوبر) 1993م ، ص 56 وما بعدها].

العدل الإلهيُّ في العقوبة

مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-
مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-

العدل الإلهي في العقوبة

Loading

العدل الإلهي في العقوبة

س: قد يكون جزاء المعصية خلوداً في النار كما جاء في القرآن الكريم، فهل يتناسب عقاب العاصي بالخلود في النار على عمل معصيةٍ من المعاصي ويكون عدلاً؟

ج: بالنسبة لتناسب العقوبة نقول أوَّلاً:

هل أنت مؤمنٌ بالمعاقِب (بكسر القاف)، أم غير مؤمنٍ به؟

هناك أوَّلاً الإيمان بالمعاقِب، والإيمان بعدالته، فإذا كنت مؤمناً به، فلا يصحُّ مطلقاً أن تردَّ الأعمال إلى تشكيكٍ في أصل القضية، لأنَّك تسأل: هل تتناسب العقوبة مع الذنب؟ فهو الذي خلقك وقال: هذه جريمة، وهو الذي قنَّن لها العقوبة، فلا أستطيع أن أقول: هل تتناسب العقوبة أو لا تتناسب.

نعم تتناسب، لأنَّ الإنسان لو نظر نظرةً عامَّةً دون أن يدري أنَّ هناك ديناً، فإنَّه يهتدي بفطرته إلى أنَّ وراء هذا الكون قوَّة، فيكون إنكار هذه القوَّة خيانةً عظمى…

والخيانة العظمى لا نستكثر عليها عقوبة الخيانة العظمى في ذات الإيمان بوجود الحقّ، وفيما عدا ذلك هل هو داخلٌ في نطاق المغفرة أم لا؟ 

الإجابة عن هذا قوله تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ(سورة النساء-48).

فما دام الذنب داخلاً في قمَّة الكفر وهي الخيانة العظمى، فلا يجوز أن يقال: إنَّ العقوبة أكبر من الذنب لأنَّ الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(سورة لقمان-13).

إذا ذهبنا لنقارن بين الجريمة وعقوبتها بعقولنا نقول: هناك فرقٌ بين جريمةٍ في القمَّة، وجريمةٍ في غير القمَّة… فالجريمة التي تكون في ذات الله تعالى سبحانه ليس أكبر منها جريمة، إنَّ الخيانة عقوبتها كبيرة، أمَّا فيما عدا ذلك فالحقُّ يتجلَّى بالمغفرة، حتَّى لا ييأس عباده.

من أعاجيبِ السلوك

مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-
مع رجالات حوار -الشيخ الشعراوي-

من أعاجيبِ السلوك

Loading

من أعاجيبِ السلوك

كثيرٌ من الناس يناقش القرآن والدِّين بشكلٍ عقلانيّ، ويترك الأساسيات ليبحث عن أشياء يستخرج منها إساءةً للدِّين، وهؤلاء يثيرون العجب لأنَّ سلوكهم مع البشر مع الأسف الشديد يختلف عن سلوكهم تجاه الله

فأنا إذا مرضت مثلاً، ذهبت إلى الطبيب ليعالجني وعندما أثق في الطبيب وسمعته وخبرته أسلِّم قيادي إليه فيصف لي الدواء وآخذ نصائحه قضاياً مسلَّمة…

فإذا جاءني صديقٌ يزورني وسألني: ما هذا الذي تتناوله؟ أقول له: إنَّ هذا دواءٌ قد كتبه الطبيب لي. فلا يناقش، ولا يتكلَّم… وإنَّما يسلِّم بالأمر…

فإذا كان هذا يحدث مع الطبيب وهو بشرٌ فماذا يحدث مع الله سبحانه وتعالى؟ إذا كنَّا متأكِّدين من وجوده، فلماذا نريد أن نناقش كلَّ شيء!

ولكنَّ بعض الناس قد يخدعون، وبعض الكلام والمبادئ التي توضع في قالبٍ معسولٍ لقلب حقائق هذا الدِّين قد تصل إلى عقول الناس… وهناك بعض الذين جعلوا هدفهم النيل من هذا الدِّين بالباطل.

إنَّ هؤلاء الناس موجودون، وسيظلُّون موجودين ولذلك فأنَّ هناك حكمةً في وجود الشرِّ بجانب الخير، فالشرُّ هو الذي يغري بالخير، ولذلك نجد أنَّ الوعي الدِّينيّ في بلدٍ ما قد يظلُّ خامداً حتَّى يهاجمه أمثال هؤلاء، فتجد الجميع قد هبَّ للدفاع عن حقائق الدِّين لأنَّ الخير لو ظلَّ راكداً في النفوس بدون ما يهيِّجه فقد يبهت، بدليل أنَّنا مثلاً في بعض الأمراض نعطي المريض جرعةً من ميكروب نفس المرض حتَّى نربِّي عنده المناعة. إعطاء الميكروب شرٌّ، لكنه في نفس الوقت يؤدِّي رسالة الخير في إحداث المناعة عند الإنسان. 

سماحة وحب

مع رجالات خوار -محمد الغزالي- غلاف
مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مستطيل

سماحة وحب

Loading

سماحة وحب

شرائع الله لعباده مبناها الرحمة الشاملة، ولا مكان فيها لإعناتٍ أو إجحاف.

فقد يقسو الأب على أولاده أو يجهل أو يحيف، ويلحقه من طبيعة البشرية ما يشوب تأديبه لهم بالأثرة والغرض. أمَّا ربُّ العالمين فإنَّه يُشرّع لعباده ما يعود عليهم بالخير المحض، وما يكفل مصلحتهم الصرف.

فحنوُّه عليهم مقرونٌ بالغنى المطلق عنهم، وهداياته لهم دائرةٌ كلُّها على ما يصون محياهم ويرفع مستواهم…

إنَّ الإنسان بدأ نفخةً من روح الله، فالحفاظ على هذا النسب الشريف والإبقاء على هذه الصِّلة الرفيعة هما سرُّ القوانين التي تضبط سلوك الإنسان، وتعصمه عن الدنايا، وتُلزمه التقوى، وترشِّحه آخر الأمر لِجنَّةٍ عرضها السموات والأرض!

يريد الله للنَّاس أن يخلفوه في أرضه، وأن يَحيوا فيها علماء راسخين، وأن يجعلوا منها مهاداً حسناً لمعرفته وإنفاذ أمره. وما معرفته وإنفاذ أمره إلَّا منهاج الرشد والنفع لهم، والضمان الأوَّل والأخير لمصالحهم.

ولو تُرك الناس لأهوائهم لتدنَّوا إلى الحضيض، ولعاشوا بعيداً عن شرائع الله في دركٍ تسوده الوحشة والريبة والمظالم والظلمات.

قال ابن القيم: ((إنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، ومصالح كلُّها.

فكلُّ مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة إن دخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله في عباده، ورحمته بين خلقه، وحكمته الدالَّة عليه وعلى صدق رسله أتمَّ دلالةٍ وأصدقها)).

والحقُّ أنَّ فكرة الناس عن شرائع الله تحتاج إلى تصحيحٍ طويل، فجمهورهم وهم يحسبها شواظاً من الغضب، يلسع بصرامته، ويروّع بجهامته، ويحسب أنَّ أصولها وفروعها مبهمة الفهم، تُتلقَّى بالقبول مخافة الكفر إذا اعترضها عقل! وهذا خطأٌ كبير.

فالدِّين نفحةٌ من رحمة الله ينبغي استقبالها بالبشاشة التي تستقبل بها النعم، ودعك من أفكار القاصرين المتزمِّتين الذين يقتربون من حقائق الأديان كما يقترب الذُّباب من الحلوى.

إنَّ الدِّين حقٌّ وجمالٌ، ألا تسمع قوله تعالى: (﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾) [النمل-1]، والهدى لا يكون بباطل، والبشرى لا تكون بقبيح، وقال عزَّ وجلَّ:

(﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾) [النحل-89]، والأديان كلُّها من عند الله على هذه الوتيرة الواضحة المحببة: (﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾) [البقرة-97].

إنَّ ما احتوته الشريعة من رفقٍ ويُسر يجعل حاجة البشر إليها حاجة العليل إلى الدواء، والعاني إلى الرحمة.

إنَّ الله ليشرح أكناف العطف والمواساة والبركة التي حدَّدت طبيعة النبوَّة العامَّة في قوله: (﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾) [الأنبياء-107]، كما يشرح أهداف القرآن الكبرى وسعادة الآخذين بها في قوله تعالى: (﴿وَنُنَزِّلُ مِن القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾) [الإسراء-82].