القراءاتُ العشرُ تؤدّي إلى اختلافِ ألفاظِ القرآنِ ومعانيه

القراءات العشر تؤدي إلى اختلافات ألفاظ ومعاني القرآن الكريم
القراءات العشر تؤدي إلى اختلافات ألفاظ ومعاني القرآن الكريم

القراءاتُ العشرُ تؤدّي إلى اختلافِ ألفاظِ القرآنِ ومعانيه!

Loading

هل الدين أفيون

يطرح بعضهم إشكالاً ويقول: القرآن الكريم كلام الله وهو كتابٌ واحد، وقد تكفّل الله بحفظه من أيِّ تغيير، ولكن في الحقيقة نرى غير هذا، فهناك قراءاتٌ مختلفة، تؤدّي إلى اختلاف ألفاظ القرآن والحركات الإعرابيّة، مما يؤدّي إلى تغيير المعاني لا محالة.

فالجواب: نعم إنّ القرآن الكريم كلام الله، وهكذا أُنزِل، وقد حفظه الله تعالى، وقد وصل إلينا بالسّند المتَّصل عن النّبيّ ، عن جبريل عن ربّ العزّة جلّ وعلا دون تغييرٍ أو تبديل.

وإنّ منشأ الإشكال عند من يظنّ أنّ تعدّد القراءات يدلّ على تغيير وتبديل كلمات القرآن الكريم أنّهم يحسبون أنّ النبيّ قرأ القرآن الكريم على وجهٍ واحدٍ لا غير، ولكنّ الحقيقة أنَّ  القرآن الكريم نزل على سبعة أحرفٍ وليس على حرفٍ واحد، فقد أقرأ النّبيّ أمّته القرآن على أحرفٍ متعدّدة، وإنّ القراءات المختلفة التي نجدها اليوم لم تخرج عمّا أُنزل على النّبيّ من القرآن الكريم.

– الدّليل على أنّ القرآن الكريم أنزل على سبعة أحرف:

ثبت نزول القرآن على سبعة أحرفٍ بالأدلّة المستفيضة، ومما ورد في السُّنّة النبويّة ما جاء عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه  قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام، يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله أَقرَأَنيها، وكدت أن أعجل عليه، ثمّ أمهلته حتّى انصرف، ثم لببتُه بردائه، فجئت به رسولَ الله فقلت: إنِّي سمعت هذا يقرأ على غير ما أقرأتَنيها، فقال لي: «أرسله»، ثمّ قال له: «اقرأ»، فقرأ، قال: «هكذا أُنزِلت»، ثمّ قال لي: «اقرأ»، فقرأت، فقال: «هكذا أُنزِلت؛ إنَّ القرآن أُنزِل على سبعة أحرف، فاقرؤوا منه ما تيسّر» [متفق عليه].

قال الجوينيّ: (كلام الله المنزل قسمان: قسمٌ قال الله لجبريل: قل للنّبيّ الذي أنت مُرسَل إليه: إنَّ الله يقول: افعل كذا وكذا، وأْمُرْ بكذا وكذا، ففهم جبريل ما قاله ربُّه، ثمّ نزل على ذلك النّبيّ ﷺ وقال له ما قاله ربّه…

وقسمٌ آخر قال الله لجبريل: اقرأ على النّبيّ ﷺ هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير، كما يكتب الملك كتاباً ويسلّمه إلى أمين، ويقول اقرأه على فلان، فهو لا يغيّر منه كلمةً ولا حرفاً) [الإتقان في علوم القرآن: (1/ 159)]

وعلّق السيوطي على ذلك فقال: القرآن هو القسم الثاني، والقسم الأول هو السُّنَّة، كما ورد أنَّ جبريل كان ينزل بالسُّنَّة كما ينزل بالقرآن، ومن هنا جاز رواية السُّنَّة بالمعنى؛ لأنَّ جبريل أدّاه بالمعنى، ولم تجُز قراءة القرآن بالمعنى؛ لأنّ جبريل أدّاه باللفظ، ولم يُبح له إيحاءه بالمعنى، والسرّ في ذلك أنّ المقصود من القرآن الكريم التعبد بلفظه والإعجاز به، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه.

وللتَّوسّع في معرفة بيان تشكُّل القراءات انظر بحث: (كيف تكوّنت قراءات القرآن الكريم).

– فإن قيل: إنّ القراءات تؤدّي إلى اختلافٍ في ألفاظ القرآن ومعانيه، وهذا لا يصحّ؛ فكيف يكون للآية

الواحدة في كلّ قراءة معنىً بحيث تتضارب المعاني؟ وإذا اختلفت المعاني فبأيّ قراءة نأخذ؟

الجواب:

إنّ المعاني المختلفة باختلاف قراءات القرآن كلُّها مقصودةٌ ومرادةٌ، وكلّها من عند الله تعالى، وهي تكمّل بعضها وتفسّر بعضها، وليس فيها تضارب البتة، والاختلاف الذي تؤدّي إليه القراءات هو اختلاف تنوّعٍ وليس اختلاف تناقض، وبأيّ قراءةٍ صحيحةٍ أخذ القارئ فقد أصاب؛ لأنّها كلّها كلام الله تعالى.

ولتعدّد القراءات فوائد عديدة، ففيها تكاملٌ في المعنى، وتكاملٌ في الأداء البيانيّ، وتنويعٌ في الأداء الفنيّ الجماليّ، واختلافٌ في إثراء المعاني، وإثبات وجوه من اللغة العربية، وإليك البيان والتفصيل:

أولاً- التكامل في المعنى: حيث تكمِّل كلُّ قراءةٍ معنى قراءةٍ أخرى، فتؤدّي القراءات المختلفة جميع المعاني المقصودة، مثل قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ﴾ و ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ[الفاتحة: (3)] فالمالك قد لا يكون مَلِكاً، والملك قد لا يكون مالكاً، فتأتي قراءة (ملك) لتكمّل معنى (مالك)، ويدلّان بمجموعهما على أنّ الله تعالى هو المالك وهو الملك ويتكامل المعنى.

فمن يقرأ ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ﴾ يعلم من خلال القراءة الثانية أنّ الله ليس مالكاً فحسب، بل ملكاً أيضاً، ومن يقرأ ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ﴾ يعلم أنّ الله ليس ملِكاً فحسب، بل كلّ شيء تحت قبضته وملكه.

– ومثاله أيضاً قوله تعالى:﴿وَانْظُرْ إِلَىْ الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [البقرة: (259)] فقد قرئت (نَنْشُرُها).

أمّا معنى (نُنشِزُها) أي نرفع بعضها إلى بعض حتى تلتئم، وأمّا (نَنْشُرُها) أي: نحييها.

فقراءة (نُنشِزُها) تدلّ على ارتفاع العظام والتئامها، وقد يحصل ذلك دون أن تكون هناك حياة، كمن يصنع تمثالاً على شكل حيوان، فتأتي قراءة (نَنشرُها) لتدلّ على أنّ نشوزَ العظام ورفعَها والتئامَها لم يكن مجرَّد إعادة هيكل الحمار فحسب، بل وقع ذلك مع الحياة الحقيقيّة له، فتكاملت الآيتان من خلال إعطاء كلِّ قراءةٍ معنىً من المعاني. 

ثانياً- التَّكامل في الأداء البيانيّ: كأن يُراعى في النصّ توجيهه مرَّةً بأسلوب الحديث عن الغائب ومرَّةً إلى المخاطب، كقوله تعالى: ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُوْنَ[البقرة: (85)] وفي المخاطب كقراءة: ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُوْنَ﴾ فتكون إحدى القراءات منسجمةً مع السياق، والأخرى فيها التفات، وهو لونٌ من ألوان المحسِّنات البديعية.

ثالثاً- التنويع في الأداء الفنيِّ الجماليّ، مثل جعلِ فعل الشرط بصيغة الماضي تارةً، وفي قراءة أخرى بصيغة المضارع كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرَاً[البقرة: (158)] ﴿فَمَنْ يَطَّوّعْ خَيْرَاً﴾ ففيه تنوّعٌ في الأساليب واتفاقٌ في المعنى.

رابعاً- الاختلاف في إثراء المعاني: قد يختلف المعنى بين القراءتين، لكنَّ الاختلاف يزيد المعنى ثراءً لا تضادّاً، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ[الحديد: (18)] بتشديد الصَّاد (من الصدقة)، ومعناه الذين يؤدّون الصدقاتِ.

وقرئت أيضاً: ﴿إِنَّ الْمُصَدِّقِينَ وَالْمُصَدِّقَاتِ﴾ بالتخفيف (من الصِدق)، ومعناه: إنَّ المؤمنين والمؤمنات ممّنْ صدَّق باللَّه ورسوله فآمن بما أتى به النّبيّ ﷺ.

والفرق في المعنى بين القراءتين:

في القراءة الأولى: الاهتمام بالأمر بالصَّدقة، فوصف (المصّدّقين والمصّدّقات) أي الذين يؤدّون الصدقات الواجبة وهي الزكاة، ﴿وَأَقْرَضُوْا اللهَ قَرْضَاً حَسَنَاً﴾ أي الصّدقات المسنونة، ويلزم من كونهم يؤدّون الزكاة ويُقرضون الله قرضاً حسناً أنّهم مؤمنون بالله ورسوله.

أمّا القراءة الثانية فهي أعمّ، ففيها مدحٌ للذين صدّقوا وأمنوا بالله ورسوله، ويلزم من إيمانهم العمل بأركان هذا الإيمان، فتدخل الزكاة المفروضة ضمناً، إذ إنّهم ينفقون في سبيل الله فمدحهم بقوله: ﴿وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضَاً حَسَنَاً﴾ فإذا كانوا يقدّمون الصدقة المسنونة فإنَّهم يؤدّون الزكاة المفروضة من باب أولى.

خامساً- إثبات عددٍ من وجوه اللهجات العربية المختلفة: وأمثلة ذلك كثيرة، منها: 

قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ[المجادلة: 2] بنصب (أمهاتِهم) وإعمال (ما) عمل ليس، وهي لغة الحجازيين.

وقرئ أيضاً: ﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ برفع (أمهاتُهم) وإهمال عمل (ما) وهي لغة التميميّين.

ومن ذلك: حذف حرف العلّة من الفعل المضارع المرفوع على لغة هذيل، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَاْ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّاْ بِإِذْنِهِ[هود: (105)]، وقوله: ﴿ذَٰلِكَ مَاْ كُنَّا نَبْغِ[الكهف: (64)] ونحوُها من الآيات الكثيرة، وقُرئت بإثبات حرف العلّة على الأصل، ﴿يَوْمَ يَأْتِيْ﴾، ﴿ذَٰلِكَ مَاْ كُنَّاْ نَبْغِيْ﴾، وفي ذلك إثبات وجوه لغات العرب. 

فإن قيل: قد وقع اختلاف تضادٍّ في القراءات، وذلك كقوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[المائدة: 6] فقد قرئت ﴿وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ ففي قراءة النصب تكون (أرجلَكم) معطوفةً على (وجوهَكم) التي حُكمها الغسل، ويكون حُكم الرجلين في الوضوء هو الغسل.

أمّا في قراءة (أرجلِكم) بالجر فهي معطوفةٌ على (برؤوسكم) التي حكمها المسح وليس الغسل، ومن ثمّ وقع التناقض في القراءات، فما هو حكم الرجلين في الوضوء الغسل أم المسح؟

فالجواب:

لا تناقض في القراءتين، بل الحكم العامّ للرِّجلين في الوضوء هو الغسل في كلا القراءتين، أمّا على قراءة النصب التي قرأ بها الجمهور فالمعنى واضحٌ صريح.

وأمّا قراءة الجرّ، وهي قراءة الكِسائي فيفسّرها السياق، فلو كان النَّصُّ مطلقاً ولم تكن هناك غاية، أي لو اكتفى النَّصُّ بقوله (وأرجلكم) دون أن يكون للآية تتمّة لوقع التناقض بين المسح والغسل، ولكن عندما أتمّت الآية المعنى وحدّدت الغاية في قوله: ﴿وأرجلِكم إلى الكعبين﴾ دلّ على أنّ المقصود هو الغسل دون إسراف وليس المسح؛ لأنّ المسح ليس له غاية، ولا يكون المسح إلى الكعبين، فإذا حُدِّدت غاية ووجب استيعاب المسح للرجلين حتى الكعبين أصبح غسلاً وليس مسحاً، قال الزمخشري: (فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجرّ ودخولها في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنَّةً للإسراف المذموم المنهيِّ عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتُمسَح، ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها، وقيل ﴿إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ فجيء بالغاية إماطةً لظنّ ظانّ يحسبها ممسوحة؛ لأنَّ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة) [الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل: (1/ 611)]

وبهذا نجد أنّ قراءة الجرّ تتَّفق مع قراءة النصب مع زيادة معنىً لطيف، وهو غسل الرجلين بما يشبه المسح، وعدم الإسراف في غسلهما.

ويحسن الختام بما ذكره ابن الجزري، فقد قال: (وأمّا فائدة اختلاف القراءات وتنوّعها فإنّ في ذلك فوائد غير ما قدَّمنا من سبب التهوين والتسهيل والتخفيف على الأمَّة.

فمنها: ما في ذلك من نهاية البلاغة وكمال الإعجاز، وغاية الاختصار وجمال الإيجاز، لأنّ كلّ قراءةٍ بمنزلة الآية، إذ كان تنوُّع اللفظ بكلمةٍ يقوم مقام آيات.

ومنها: ما في ذلك من عظيم البرهان وواضح الدّلالة، إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوُّعه لم يتطرّق إليه تضادّ ولا تناقض ولا تخالف، بل كلُّه يصدِّق بعضُه بعضاً، ويبيّن بعضُه بعضا، ويشهد بعضه لبعض على نمطٍ واحد وأسلوبٍ واحد، وما ذلك إلّا آيةٌ بالغةٌ وبرهانٌ قاطعٌ على صدق من جاء به ﷺ .

ومنها: سهولة حفظه، وتيسير نقله على هذه الأمَّة، إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوَجازة؛ فإنَّه من يحفظ كلمةً ذات أوجهٍ أسهل عليه وأقرب إلى فهمه، وأدعى لقبوله من حفظه جملاً من الكلام تؤدّي معاني تلك القراءات المختلفات، لا سيَّما في ما كان خطُّهُ واحداً، فإنَّ ذلك أسهل حفظاً، وأيسر لفظاً) [النشر في القراءات العشر: (1/ 53)].

عذاب في الجنة

غلاف عذاب في الجنة
عذاب في الجنة

عذاب في الجنة

عذاب في الجنة

في إحدى الصفحات الإلحادية، نُشر تساؤلٌ عن أحباب الأنبياء وأقاربهم الذين لم يؤمنوا بهم، وعن موقف الأنبياء منهم يوم القيامة إذا ما رأوهم في النار

يقول الكاتب:
هل سيحترق بالنار كلُّ قريبٍ وحبيبٍ للأنبياء لأَّنهم لم يستجيبوا للدَّعوة؟ هل سيحترق ابن نوحٍ وزوجة لوطٍ، وأبو إبراهيم، وعمُّ النَّبيِّ أبو طالب؟ وهل سيكون الأنبياء سعداء برؤية أحبابهم معذَّبين في النار؟
يتَّضح من صياغة السؤال أنَّ لدى الكاتب تصوُّراتٍ ذهنيةً أسَّس عليها معاني السعادة في الآخرة. وانطلق من هذه التصوُّرات ليبني اعتراضه، فيرى أنَّ هناك تناقضاً عقلياً بين محبَّة الله لأنبيائه وبين تعذيب أقاربهم الذين لم يؤمنوا بهم، ويرى أنَّ تمام سعادة الأنبياء أن يكون أقرباؤهم معهم في الجنَّة.

ما هي التَّصوُّرات التي بنى الكاتب عليها افتراضاته؟ وهل هي تصوُّراتٌ صحيحة؟ 

يبني الكاتب اعتراضه على افتراض أنَّ السعادة الأُخروية مرتبطةٌ بأشخاص، وأنَّ الأنبياء -عليهم السلام- متعلِّقون بما لذواتهم من أقرباء. ووفقاً لهذا التصوُّر فإنَّ الأنبياء لن يكونوا سعداء؛ بل سيحزنون على أحبابهم المعذَّبين في جهنَّم، وهذا يتعارض مع السعادة الأبدية.

البَوْصلة الإلهية:

لا شكَّ أنَّ للأقربين حقوقاً تفرضها درجة القرابة، ويزداد التعلُّق وتزداد المحبَّة كلَّما ازدادت القربى، وإنَّ من تمام محبَّة المؤمن لغير المؤمن أن يدعوه إلى ما فيه نجاته في الدنيا والآخرة. وإنَّ إعراض غير المؤمن حتَّى اللحظة الأخيرة وإصراره على كفره حتَّى موته لا يعني تبديل الأولويات وتخليطها؛ فإنَّ المؤمن الحقَّ يدعو كلَّ الناس ومنهم أحبابه وأقاربه لِعظم أمر الله في قلبه، ولأنَّه لا يرضى أن يفتري أحدٌ من الخلق على الله، حتَّى وإن كان المفتري من أحبابه وأقاربه. فالمؤمن الحقُّ يدعو الناسَ رجاءَ أن يكفُّوا عن ظلم أنفسهم وعن الافتراء على الله قبل موتهم!

لذلك نجد أنَّ بوصلة الأولويَّات تبقى ثابتةً راسخة، لا تغيِّرها فاجعةٌ ولا تبدِّلها مصيبة؛ وهذا هو تمام التوازن في العلاقة مع المخلوقات.

ولهذا فإنَّ الله سبحانه قد أمر المؤمنين بالمحافظة على حقِّ والديهم في الدنيا، مع تحذيره من اتّباعهم -وهم أقرب الناس إليهم- إذا ما أصرُّوا على الكفر وأرادوا لأبنائهم الشرك والهلاك:

﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[سورة لقمان : 15]

ويُلاحَظ أنَّ في قوله تعالى (واتَّبع سبيل من أناب إليّ) معنى لطيفاً، وكأنَّ الله يقول للمستمع إيّاك أن تتَّبع سبيل من لم يُنب إليّ مهما كانت قرابته منك؛ وإن كان والدَك أو ابنَك المقرب. بل اتَّبع سبيل من أناب إليّ؛ فاتِّباع الحقِّ أولى من اتِّباع الباطل.

يَزْعُمُ أنَّهُ مِنّي ولَيسَ مِنّي:

أخبر النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن فتنةٍ تُصيب الناس آخر الزمان، سمّاها فتنة السرّاء. وإنَّ من أمر هذه الفتنة – كما أخبر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم- أنّ دَخَنَها سيخرجُ من تحت قدميّ رجلٍ من أهل بيته.

فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّه قال:

((كُنَّا قُعُوداً عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ فَذَكَرَ الْفِتَنَ فَأَكْثَرَ فِي ذِكْرِهَا حَتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الْأَحْلَاسِ، فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا فِتْنَةُ الْأَحْلَاسِ، قَالَ هِيَ هَرَبٌ وَحَرْبٌ ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ دَخَنُهَا مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّي وَلَيْسَ مِنِّي وَإِنَّمَا أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ…)) الحديث. [رواه أبو داود وأحمد وصحَّحه الحاكم وأقرّه الذهبي]

والقارئ للحديث يُلاحظ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لم ينفِ صلةً جسديَّةً بهذا الرجل، بل إنَّه هو من وصفه أنَّه من أهل بيته إذ قال: (رجلٌ من أهل بيتي)، ومع ذلك فإنَّه قد تبرَّأ -صلَّى الله عليه وسلَّم- من فعله (يزعم أنَّه منِّي وليس منِّي) مبيّناً أنَّ أولياءه الحقيقيين هم المتقون.

ويتبيّن لنا من هذا الحديث معنىً عظيمٌ من معاني الدّين، فإنَّ الحبشيَّ إن كان تقياً هو أولى برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من الهاشمي إن كان فاجراً، وهو ما يسمّى (الولاء في الله). وهذا من تمام إيمان الأنبياء ومحبَّتهم لله جلَّ جلاله؛ إذ إنَّهم يفضِّلونه -سبحانه- على كلِّ ما دونه، لذلك فهم يفضِّلون أولياءه على أعدائه.

فإنَّ الإسلام الذي حضَّ على البِرِّ بالأقرباء -ولا سيما الوالدين- بيّن أنَّ هذا البرَّ لا يقتضي أن يتجاوز الأقرباء حدودَهم البشرية فتطغى محبَّتهم على محبَّة الله سبحانه، أو أن يطغى أمرهم على أمره. فهل قريبك نِدٌّ لله تحبُّه كحبِّ الله؟

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ[سورة البقرة : 165]

أنا أُحبُّ الله وأحبُّ قريبي غير المؤمن في الوقت نفسه:

إنَّ محبَّة غير المؤمنين لا تُناقض محبَّة الله إذا كان من يحبُّهم كارهاً لكُفرهم، مشفقاً على مصيرهم، داعياً إيَّاهم -في كلِّ فرصة- إلى الله سبحانه، ناهياً عن الكفر به والإعراض عنه. وبتلك الحال يكون المؤمن مخلصاً في إيمانه صادقاً في محبَّته لغيره. وهذا هو حال كلِّ داعٍ يقتفي أثر النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

فكم رحِم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أعداءه الذين آذوه، وأشفق عليهم، ورفض أن يدعو عليهم أو يلعنهم. بل إنَّه أمهلهم المرَّة تلو المرَّة حتَّى تتسنَّى لهم فرصة الإيمان بالله سبحانه، وما ذلك إلَّا لعظيم محبَّته إيَّاهم، وشفقته عليهم، وخوفه عليهم من الكفر والطغيان. حاله حال الطبيب المشفق على مريضه وهو يعالجه ويرجو شفاءه مهما عَسُرَ مرضُه وعَضُلَ داؤه.

ومن ذلك موقفه يوم قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه ((فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ دَوْساً عَصَتْ وأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا. فقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ. قالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وأْتِ بهِمْ). [أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما]

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: ((كَأَنِّي أنْظُرُ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنْبِياءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فأدْمَوْهُ، فَهو يَمْسَحُ الدَّمَ عن وجْهِهِ، ويقولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ.)) [أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما]

رحمته في الجهاد

فعلى هذه الحال يجمع المؤمن بين إيمانه بالله وتعظيمه لحقِّه، وبين خوفه على من أعرض وكفر بالله وشفقته عليه. أمَّا إذا كان العبد يُجالس المعرضين عن الله ويتقرَّب منهم ويتودَّد إليهم دون أن ينوي نصيحتهم ودون أن يرى غضاضةً في كفرهم، فإنَّه بذلك يكون ممَّن فضّلَ الخلقَ على الله سبحانه، فالمؤمن الحقُّ يحبُّ اللهَ أكثر من كلِّ شيء.

قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [سورة التوبة : 24]

ومتى ما رضي العبد كُفْرَ غيره وصار لا يراه أمراً عظيماً، صار مخالفاً لأمر الله مستحقَّاً لعذاب الله ووعيده.

وربَّما يتساءل بعض الناس مستغرباً من هذا الحكم مهوِّناً من شأن الكفر بالله ويراه أمراً عادياً لا يستحقُّ أن يسمّى ذنباً، وربَّما يقول القائل: ماذا فعل فلان؟ إنَّه كفر بالله ولكنَّه لم يقتل ولم يسرق، إنَّه لطيفٌ وأخلاقه رفيعة، لماذا تعدّونه أمراً عظيماً؟

ويراجع في هذا الأمر المقال السابق [انظر مقال: “لُطفاء في النار” للمؤلف]

هل يدعو الإسلام إلى بغض غير المؤمنين؟

ربّما يعترض سائلٌ على مفهوم (الولاء في الله) ويقول: إنَّ الإسلام دينٌ لا إنسانيٌّ يدعو إلى بغض الأقرباء، وبُغض الناس كلِّهم لاختلافه معهم في الدين؛ فهل هذا صحيح؟

ذكرنا سابقاً أنَّ المؤمن الحقَّ يكره الكُفْر، ولا يلزم من ذلك كُرْهَ الكافِر، كما أنَّ الطبيب يكره المرض ولا يكره المريض بل يرجو شفاءه وبُرْأَه؛ أمَّا البغض فيكون في حقِّ من عادى الله وصدَّ عن سبيله وحال بين الناس وبين الإيمان.

 ولهذا فإنَّ الإسلام لا ينهى عن البرِّ بالآخرين مهما كانت ديانتهم، خاصَّةً إذا كانوا من الأقرباء فواجبهم أكبر، وحقُّهم أعظم. فالولاء في الله والبراء من أعدائه لا يعني ترك الإحسان مع الناس، بل يعني تحذير المؤمنين من موالاة المعادين لله ولرسوله وللإنسانية جمعاء، الذين يتربَّصون بجميع الناس يريدون صدَّهم عن الإيمان والهداية والصلاح؛ فيجب بُغض هؤلاء المعادين المتربِّصين وهذا هو معنى (البغض في الله).

وقد بيّن الله لنا في (سورة الممتحنة) أصنافاً مختلفةً من غير المسلمين؛ منهم من (عادى الله وصدَّ عن سبيله)، ومنهم من (كفَّ عن المسلمين ولم يتعرَّض لهم بأذى). وقد شذّ أناسٌ من المسلمين بأخذ معنًى ظاهرٍ من الآية الرابعة في هذه السورة تتحدَّث عن (الصنف الأوَّل) وعمّمها على كلِّ من لم يؤمن بالإسلام، متجاهلاً الآيات الأخرى في تتمَّة السورة، ومنفّراً عن دين الله ووحيه وقرآنه. فاستشهدوا بقوله سبحانه:

﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ[سورة الممتحنة : 4]

وقالوا إنَّه ينبغي على المسلم أن يعادي كلَّ من لم يؤمن بالله، سواء من (عادى الله وصدَّ عن سبيله) أو من (كفّ عن المسلمين ولم يتعرَّض لهم بأذى) مع أنَّ تتمَّة السورة نفسها تُبيّن للمؤمن وجوبَ برِّ (الصنف الثاني) من غير المسلمين:

﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة الممتحنة : 8 – 9]

بل إنَّ الله قد بشَّر النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمين من بعده أنَّ هناك من (الصنف الأول) من سيدخل الإسلام ويترك حربه وعداوته ليصير مسلماً مؤمناً بالله ورسوله محبَّاً للمؤمنين بعد أن كان عدواً مقاتلاً:

﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[سورة الممتحنة : 7]

لذلك ينبغي التنبُّه إلى أنَّ (البغض في الله) لا يكون في حقِّ جميع الناس، وإن كان المؤمن يبغض الكُفْرَ على كلِّ حال. أمَّا الكافرُ فقد يكون جاهلاً أو غافلاً عن الإيمان، فلا يُبغضه المسلمُ بل يرجو هدايته وصلاحه، إلَّا إن تبيّن أنَّه عدوٌ لله ولرسوله وللإنسانية جمعاء يسعى في سبيل صدِّ الناس عن رحمة الله وهدايته، ويعمل على إفساد دنياهم وآخرتهم.

 خاتمة:

 عودةً إلى الإجابة على التساؤل المحوريّ في هذا المقال: (هل يُعقل أن يعذِّب الله أحباب الأنبياء وأقاربهم) نقول:

إنَّ بناء السؤال بالأصل كان على أساس افتراض أنَّ الأنبياءَ متعلِّقون بذويهم تعلُّقاً مذموماً، فيحبُّونهم ويوالونهم ويفضِّلونهم على من سواهم من الناس وإن كانوا على الباطل. وقد تبيّن لنا أنَّ أولياء الأنبياء الحقيقيين هم المتَّقون، فالأنبياء يتّبعون الحقَّ ولا يتعصَّبون عصبيّةً جاهلية. وأنَّ محبَّةَ الله عند المؤمن فوق كلِّ محبَّة، وأنَّ المؤمن الحق لا يرضى أن يصرَّ أحدٌ من الناس على الباطل بطغيانه وكفره وتمرُّده على الله سبحانه وإن كان أقرب المقرَّبين إليه. فهو وإن أحبَّه -بدايةً- وذكّره بالله رجاء هدايته إلى الحقّ، إلَّا أنَّ إصرار هذا القريب على الباطل حتَّى آخر لحظةٍ يعني أنَّه مصرٌّ مستكبرٌ، فيخرج من دائرة أولياء الأنبياء وأحبابهم إلى زمرة الجاحدين المعاندين، فيتبرّأ منه النبيُّ حينئذٍ ليلقى مصيره المحتوم الذي اختاره لنفسه.

﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ * وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [سورة التوبة : 114 – 115].

لطفاء في النار

لطفاء في النار

Loading

لطفاء في النار

يتساءل الشباب بكثرة عن حُكم اللطفاء من غير المؤمنين، الذين لم يؤذوا أحداً من الخلق؛ هل يعقل أن يُدخلهم الله النار لمجرَّد أنَّهم كانوا غير مؤمنين؟ أليس في هذا الأمر شدَّةٌ لا تليق برحمة الله؟ كيف يعذِّب الله خلقاً لم يقتلوا ولم يسرقوا، بأنَّهم كانوا كافرين بالله وحسب.

الكفر بالله والكفر بالناس

يتصوَّر من يتحدَّث بهذه الطريقة أنَّ من يكفر بالله دون أن يؤذي أحداً من البشر يكون إنساناً خلوقاً ومهذَّباً، فهو ملتزمٌ بعمله لا يفتعل المشاكل مع الآخرين، يُعامل الجميع باحترام؛ ولكنَّه غير مؤمن.

ونلاحظ في واقع الناس حالاتٍ كثيرةً من هؤلاء خصوصاً في الشعوب المتقدِّمة والأمم المتحضِّرة، حيث يلتزم الإنسان بعمله وقانون بلاده إلَّا أنَّه في غالب الأحوال غير مؤمن.

ونميِّز في هذه الحالة بين من لم تصله الدعوة بشكلٍ جيِّد؛ لأنَّ الإعلام شوَّه نظرته عن الإسلام والمسلمين، وبين من عرض عليه الإيمان وأنكره.

فالصنف الأوَّل هم أهل دعوة ولا يلبث أحدهم أن يقبل الحقّ إذا عرض عليه بشكله الأمثل، لكن من بقي منكراً لحقِّ الله بعد أن يعرض عليه؛ فهو أسوأ الناس أخلاقاً وإن شوهد يعامل الآخرين باحترام. ذلك بأنّ كفر النعمة وجحدها أمرٌ مُشينٌ لا يليق بالإنسان الخلوق.

وقد روي عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قوله: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) [رواه أحمد].

فبذرة الكفر واحدة، ولا يقبل أحدٌ من أهل الفضل والأخلاق هذه الخصلة إن كانت في حقِّ أحدٍ من البشر، فكيف إن كانت في حقِّ الله صاحب النعم كلِّها.

إيذاء الخلق بالبعد عن الإيمان

ربَّما يعترض البعض على مسألة شكر الله والكفر به، ويتمسَّك بمعيار إيذاء الآخرين، مع أنَّه معيارٌ غير مقبول كما سنبين في الفقرة التالية إن شاء الله، لكن سندرس هذه المسألة هنا ونسأل: (هل من يبتعد عن الآخرين لا يؤذيهم)؟ (وهل اتّباع الإنسان لمعيار: “افعل ما تشاء دون أن تؤذي أحداً” يصلح مع البعد عن الشريعة

هناك من يظنُّ أنَّ الإيذاء يحصل بمجرَّد الفعل دون اعتبارٍ للإيذاء المتحصِّل من الانفعال السلبي (أو ترك الفعل)، فيظنُّون أنَّ القيام بفعل القتل –مثلاً– شرٌّ وإيذاءٌ، وتركَه خيرٌ وفضلٌ. وكذلك الأفعال الأخرى من كلامٍ وتواصلٍ وغيرها، فالشرُّ والذمُّ لا يلحق إلَّا الفاعلين أمَّا من يترك الفعل فلا يلحقه أي لوم. 

رحمته في الجهاد

والحقيقة أنَّ قوانين الأرض لا تسلِّم بهذا المعيار، فالفعل يكون خيراً في موضع وتركه خيراً في موضع، وقد يكون ترك الفعل شراً، كمن يترك إسعاف مريض أو إطفاء حريق، أو من يرفض التبليغ عن جريمة. كلُّ هذه الانفعالات السلبية شرٌّ يلام صاحبها عليها، وقد يتَّهم بالتواطئ مع القاتل إذا لم يبلِّغ عن الجريمة مع علمه المسبق بها.

لذلك لا يكفي الإنسان أن يترك الأفعال كي يكون جيداً، بل لا بدَّ له من القيام بالأفعال الخيّرة؛ وإلَّا تسبَّب بإيذاءٍ كبيرٍ للآخرين، فكم تدفع الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله الشرَّ عن الأفراد والمجتمعات:

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوْا شَيْئَاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوْا شَيْئَاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَاْ تَعْلَمُوْنَ[البقرة216]

انظر مقال (رحمته__في_الجهاد) لمزيدٍ من التفصيل في قضية الرحمة الإلهية في تشريع الجهاد

أمَّا من يقول: (افعل ما تشاء دون أن تؤذي أحداً) عليه أن يُدرك أن لا إمكانية لترك إيذاء الآخرين إلَّا بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، فمن يقول من الشباب: (أنا لا أؤذي أحداً، ولا أقتل، ولا أسرق، ولا أغتصب، ولكنّي على علاقةٍ مع فتاة بالتراضي دون أن أؤذيها) يجب أن يعرف أنَّه يُؤذيها لمجرَّد أن يكون على علاقةٍ معها دون زواجٍ مسؤول، لأنَّه لن يلبث أن يتركها أو أن يتسبَّب بحملٍ يتبرَّأ من مسؤوليته أو يلزمها بإجهاض وقتل نفسٍ بريئةٍ وفي ذلك إيذاءٌ كبيرٌ لجسدها ومشاعرها، فكيف يزعم أنَّه لا يؤذيها؟ وكذلك شُرب المسكرات وما يترتَّب عليه من مفاسد على النفس والمجتمع، أو ترك الوالدين عند كبر سنِّهما، أو غير ذلك مما حرَّمه الله في الشريعة. فكيف يستقيم لإنسانٍ أن يفعل ما يشاء دون أن يؤذي أحداً وهو منفلتٌ من رباط الشريعة التي شرعها الله لصلاح النفس والمجتمع؟

معيار إيذاء الآخرين، ثمرة أم غاية؟

مع تسليمنا بأنَّ امتثال أوامر الله يقي الآخرين من الإيذاء بمفهومه الأشمل وبصورته الأكبر كما بيّنا، إلَّا أن هذه النية لا تصلح؛ فمن قدّم وبذل وضحَّى من أجل (غير الله) فقد فسدت نيَّته.

فقد سئل النَّبيُّ عن الرَّجلُ يقاتلُ شجاعةً، ويقاتلُ حَميَّةً، ويقاتلُ رياءً، فأيُّ ذلِك في سبيلِ اللهِ؟ فقال : (مَن قاتلَ لتَكونَ كلمةُ اللهِ هيَ العليا فَهُوَ في سبيلِ الله[رواه البخاري ومسلم].

ذلك بأنَّ أصلَ نيَّة المؤمن التقربُ إلى الله سبحانه وتعالى، فهو الخالق وهو صاحب الأمر. والتسليم لأوامره حقٌّ مطلقٌ بني عليه أصل التكليف؛ فلا يَسأل من أسلم وجهه لله عن ثمرة ما سيفعله إن كان سيرضي ربَّه، على الرغم من أنَّه سينال الهدف الذي يدعو إليه من يريد الخير للبشرية.

فدعوات الخير للآخرين متَّسقةٌ مع الفطرة النقية التي جعلها الله في قلوب الخلق يتراحمون بها فيما بينهم؛ إلَّا أنَّ ذلك الخير لا ينبغي أن يكون أصل النيَّة، فهو ثمرةٌ مُحصَّلةٌ وليس غايةً يُسعى لأجلها. فالغاية الأسمى هي إسلام النفس لله وأوامره، وعلى هذا يحاسب العبد يوم القيامة. 

إله الفجوات المعرفيّة

إله الفجوات المعرفية
إله الفجوات المعرفية

إله الفجوات المعرفية

Loading

إله الفجوات المعرفية

تعرَّضنا في نهاية المقال السابق (هل تنزل الأمطار برحمة الله أم بتكاثف الغيوم؟) إلى مصطلح (إله الفجوات المعرفية) الذي يطلقه الملحدون عادةً لوصف إيمان المؤمنين بالله، حيث يظنُّ الملحدون أنَّ المؤمنين يعتقدون بقوَّةٍ غيبيةٍ خارقةٍ تقف خلف الظواهر الكونية التي لم يتمكَّن الإنسان من الوصول إلى معرفة سببها، وأنَّه لو عرف سببها لما احتاج إلى الإيمان بقوَّةٍ تقف وراءها.

سنخصص هذا المقال لبسط الحديث عن أصل المسألة وكيفية تشكُّلها في عقلية الإنسان الملحد، لكن قبل الخوض في تتمَّة المقال ننوِّه إلى أنَّنا سنضَّطر -آسفين– إلى ذكر بعض المصطلحات أو الاقتباسات التي يتناولها الملحدون عادةً، وذلك في سبيل تقريب فهم الحالة الإلحادية وتشخيصها بشكلٍ سليم.

أصل المشكلة كما يراها الملحدون

يعتقد الملحدون أنَّ الإنسان تطوَّر من كائناتٍ بدائيَّةٍ غير عاقلة، وفي بداية تطوُّره الفكريّ (أو في زمن الطفولة المعرفية كما يسمِّيه بعض الملحدين) بدأ الإنسان يخاف من بعض الظواهر الطبيعية كالكسوف والرعد والصواعق، وبسبب جهله بالأسباب المادِّية المؤدّية إلى حدوث هذه الظواهر؛ افترض الإنسان البدائي مجموعةً من الأسباب الغيبيَّة العظيمة (آلهةً) فجعل إلهاً للبرق، وإلهاً للشمس، وإلهاً للبحر والعواصف وغيره، ثم قدّسها وقدّم لها القرابين حتَّى لا تؤذيه.

ويعتقد الملحدون أنَّه لو عرف الإنسان منذ البداية السبب وراء هذه الأمور لم يكن ليفترض لها سبباً غيبياً، ولما احتاج الأمر إلى تكلُّفٍ وعناءٍ لافتراض وجود قوَّةٍ غيبيَّة. ووفقاً لهذه النظرة فإنَّ “فرضية” الآلهة مرتبطةٌ بشكلٍ أساسيٍّ بالطفولة المعرفيَّة لدى الإنسان، وإنَّ الإنسان “العالِم” اليوم لم يعد بحاجةٍ إلى “فرضية الإله”، وإنَّ (العلم دفن الإله) مع سنوات الجهل المرافقة لطفولة الإنسان المعرفية وعصور الظلام The Dark Ages.

فبسبب التقدُّم الهائل في مضمار العلم التجريبيّ تضاءل حجم جهالة الإنسان بالكثير من الأسباب الكونية التي كانت تشكِّل لغزاً محيِّراً للإنسان على مدى قرونٍ طويلة، وبدأت فجوات الإنسان المعرفية بالانسداد، وسُدَّت معها كلُّ مساحةٍ كان يشغلها الإله سابقاً (وفقاً للنظرة الإلحادية)، ولم يبق للإله سوى بضع فجواتٍ معرفيَّةٍ يسدُّ المؤمن جهله به، ومن هنا ظهر مصطلح: (إله الفجوات المعرفيَّة).

عبّر عن هذه النظرة أحد أهمِّ رموز الملحدين في العالم (ريتشارد دوكنز) من خلال مقولةٍ شهيرةٍ له، إذ يقول:

((لقد طرد (دارون) الإله من البيولوجيا، ولكن الوضع في الفيزياء بقي أقلَّ وضوحاً، ويُسدِّد (هوكينج) الضربة القاضية الآن)).

حيث يشير (دوكنز) في عبارته السابقة إلى جهود العالم الفيزيائيّ الراحل: (ستفين هوكنيج) -الملحد كذلك- في اكتشاف آليات نشوء الكون، فهو يريد أن يقول: إنَّنا كنَّا نؤمن بالله لأنَّنا لم نكن نعرف (كيفية) نشوء الكائنات الحيَّة فشرح لنا (دارون) ذلك، ثمَّ بقينا مُحتارين قليلاً لأنَّنا لا نعرف (كيفية) نشوء الكون، و(هوكينج) يقوم بذلك، فلا حاجة لله بعد الآن.

ووفقاً لهذه النظرة، فإنَّ الإنسان كلَّما اكتشف سبباً علمياً وراء إحدى الظواهر؛ زال الغموض المكتنف بها و”تقهقر الإله” لصالح المكتشفات العلمية الحديثة، لدرجة أنَّ بعضهم يقول: (لقد تقهقر الإله إلى ما وراء الانفجار العظيم)، حيث يظنُّ أنَّ العلم التجريبي قد عرف كلَّ الأسباب المادِّية المحيطة بالكون ولم يبق ثمَّة فجواتٌ معرفيَّةٌ في عقل الإنسان سوى تلك التي تسبق الانفجار العظيم. 

معرفة الكيفية والاستغناء عن الموجِد

لا يجادل اثنان في أنَّ عصرنا الحالي قد امتاز بكثرة الاكتشافات العلمية وتسارعها الحثيث، وليست المشكلة في تلك الاكتشافات؛ لكنَّ المشكلة تكمن في اقترانها مع تصوُّراتٍ خاطئةٍ عن قدرة الله وأفعاله، كالتَّصوُّرات التي بيَّنَّا بطلانها في المقال السابق (راجع مقال: هل تنزل الأمطار برحمة الله أم بتكاثف الغيوم؟)

حيث ذكرنا تحت عنوان: (لماذا وكيف؟) أنَّ التفسير العلميَّ للحوادث ليس إلَّا تفسيراً للكيفية التي تمَّت بها الأشياء كما أراد الله أن يخلقها، فمعرفتي لـ(الكيفية) التي تمَّت بها الأمور الكونية لا يعني أنَّ هذه (الكيفية) هي التي (خلقت) هذه الأمور، كما أنَّ إدارة الحسابات المصرفية لا تعني إيجاد أموالٍ من العدم، وإلَّا لتحوَّلت البرامج المحاسبيَّة والمصرفيَّة إلى آلاتٍ لصناعة النقود.

 

وكذلك فإنَّ فهم الإنسان لكيفية نشوء بعض الظواهر الكونيَّة لا يعني أنَّه هو الذي يملكها أو يتصرَّف بها، فضلاً عن أن يكون هو الذي أوجدها أصلاً! فهناك فرقٌ كبيرٌ بين (مَن الذي أوجد) وبين (كيف أوجد)، كالفرق بين (لماذا) و(كيف) الذي بيّناه في المقال السابق.

 

فإذا ما اعتبرنا أنَّ الاقتباس الذي ذكرناه لـ (دوكنز) معبِّرٌ عن النظرة الإلحاديَّة للوجود والحياة، فإنَّنا يمكننا تفنيد تلك النظرة من خلال تبيين الفرق الكبير بين معرفة (كيفية) نشوء شيءٍ والحاجة (للموجد) الذي أنشأ هذا الشيء من الأساس.

 

لن نقوم بالتأكيد بمناقشة (الكيفيَّات البيولوجية) التي تحدَّث عنها دارون، أو (الكيفيَّات الفيزيائية) التي تحدَّث عنها هوكينج، ومدى صحَّتها من بطلانها؛ فذلك له كتبٌ ومؤلَّفاتٌ لأساتذةٍ جامعيين في كلا المجالين (البيولوجيا والفيزياء) تناقش النظريَّات التي أوردها كلٌّ من (دارون) و(هوكينج).

 

لكنَّ الأهمَّ من ذلك -برأيي- أنَّه ولو سلّمنا جدلاً بصحَّة اكتشافات علماء الأحياء والفيزياء التي أشار إليها (دوكنز)، فما علاقة ذلك بالحاجة إلى الموجد الذي أوجد الكون بالكيفيَّات التي اكتشفها هؤلاء العلماء؟

 

تقهقر الفجوات المعرفية وازدياد عظمة الإله

 

وهكذا نجد أن تقهقر الفجوات المعرفية ليست (تقهقراً للإله) كما يظنُّ الملحدون، بل تقهقرٌ للجهل الإنسانيّ، وازديادٌ لمعرفة الإنسان بالكيفيَّات المختلفة التي أبدعها الخالق سبحانه، فتزداد قلوب المتبصِّرين إعظاماً وإجلالاً له بعد هذه الاكتشافات العلمية.

 

وكلَّما اكتشف الإنسان شيئاً في الكون؛ ازدادت هيبته للذي أوجده، وسجد عقلُه وقلبُه في محراب الخالق، خاشعاً متضرِّعاً بين يديه، مستحضراً معنى (فاطر السماوات والأرض)؛ فيكون من العلماء الذين ذكرهم –سبحانه– في السورة التي سمَّاها (فاطر):

 

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ[سورة فاطر : 27-28].

 

بهذه النظرة الإيمانية، أبدع المسلمون حضارةً ملأت الأرض تقدُّماً وإيماناً، اقترن فيها الإيمان بالعمل، والتقوى بالعلم، فنشروا الإيمان والحضارة معاً لا ينفكُّ أحدهما عن الآخر، وكانت الاكتشافات العلمية التي زادت قلوبهم إيماناً وتقوى، مستذكرين عظمة الخالق شاكرين لما أنعم عليهم من معرفةٍ وعلم. ثمَّ تراجعت حضارتهم لَمَّا تراجع ذلك الإيمان.

 

فإن كان الوعي الحضاريُّ الغربيُّ متأثِّراً بما ورثه من ثقافةٍ باعدت بين العلم والدِّين، وظنَّت أنَّ الإنسان لن يبدع ولن يتقدَّم إلَّا في ظلام الإلحاد؛ فإنَّه ليس على المسلم أن ينهزم أمام تلك الثقافة فضلاً عن أن يعتنقها. بل إنَّ المسلمين -كلَّهم- أمام مسؤوليةٍ تاريخيَّةٍ ليعيدوا إلى الإنسان وعيَه ورشدَه وحضارته بنور العلم والإيمان.

 

سبب نزول الأمطار

غلاف سبب نزول الأمطار
سبب نزول الأمطار

سبب نزول الأمطار
بقلم: م. محمود أبو الهوى

Loading

سبب نزول الأمطار

لقد سهلت منجزات العلوم التجريبية حياة الناس على هذه الأرض، وباتت تلامس واقع كل إنسان منذ ولادته حتى وفاته. ومع ازدياد المكتشفات العلمية يوماً بعد آخر ازداد تعلق قلوب الناس بهذه العلوم وصارت تسأل بشغف عما ستخبئه لنا الأيام من مكتشفات تزيد من رفاهية الإنسان وتحقق له الكثير من الأحلام التي كانت تراوده منذ الصغر.

ومع ارتفاع شأن العلوم التجريبية في عقول الناس وضمائرها يزداد ازدراء العديد من البشر حول العالم لأي حديث عن الله أو الأديان، في مفارقة تضع الإنسان أمام خيارين عليه أن يختار بين أحدهما: إما العلم أو الدين.

وكما يقول موريس بوكاي:

(…. ولكن بدلاً من أن يمتلئ بالتواضع في مواجهة مثل هذه الحقائق، فإن الإنسان ينتفخ غطرسة وغروراً.. إنه يزدري أي فكرة عن الله، كما يفعل باستمرار في مواجهة أي شيء من شأنه أن ينتقص من رغباته وشهواته. هذه هي صورة المجتمع المادي التي تزدهر اليوم في الغرب) من كتاب (الكتاب المقدس والقرآن والعلم)

لذلك نجد أن مفارقة العلم / الدين حاضرة في النقاشات العقدية في مختلف دول العالم، وتصاغ العديد من الأسئلة على الشكل الذي صيغ به عنوان المقال (هل يحصل الأمر الفلاني بقدرة الله أم بالسبب المادي

وما يزيد الأمر، أنك تجد أناساً يقعون في هذا التصنيف دون أن يشعروا بأنفسهم، ولعل كثيراً منهم لم تصل هذه التحيّرات في ذهنه إلى مرحلة تمكنه من صياغة السؤال أعلاه. أو لعل بعضهم وجد أن هناك سؤالاً يحيره دون أن يحسم أمره في أي الفريقين يريد أن يكون، وأجّل الإجابة عنه لحين “يتفرغ” للبحث في الأسئلة الوجودية الكبرى.

أصل المشكلة:

تبدأ هذه المشكلة في المدرسة الابتدائية عندما يتلقى الطفل مادتين مختلفتين، الأولى تسمى “تربية دينية” والثانية تسمى “علم الأحياء والأرض” فيجد أن مدرس كل مادة يجيبه عن السؤال ذاته بإجابة مغايرة للآخر. ونشأ عن هاتين الإجابتين انفصامٌ في شخصية المتعلم دون أن يدرك ذلك. إلى أن تأتي اللحظة التي يتمكن فيها من الوقوف مع نفسه قليلاً بعدما تبدأ مداركه بالاتساع؛ ليقف حائراً أمام هذا الإشكال!

والجدير بالذكر أنه يُمنع على مدرّسي العلوم التجريبية في العديد من الدول حول العالم أن يشيروا إلى أي معنى غيبي أو “ماورائي” أو ذكر “الله” في الفصل أمام الطلاب، فـ “الله” مكانه الكنيسة ودور العبادة، ولا علاقة له بالفصول الدراسية العلميّة، لأنه على المدرس أن يتحدث عن العلم لا عن الدين! ولا يجوز إدخال المفاهيم الغيبية عند الحديث عن العلم، فنحن نجري أبحاثنا بعيداً عن الله ولا علاقة له بها!

وإن كان الواقعُ في عالمنا الإسلامي أقلَّ انفصاماً، فإن جزءاً من هذه الإشكالية يبقى حاضراً، فأي الإجابتين هي الصحيحة؟ هل الإجابة التي يقدمها العلم أم التي يقدمها الدين؟ ولماذا؟

هناك من حاول أن يجمع بين الإجابتين فقال إن لكل شيء في هذا الكون سببين؛ سبب علمي وسبب شرعي. أما السبب العلمي فهو الذي يدرسه العلماء التجريبيون ويحللونه بالمعامل والمختبرات العلميّة، وهو السبب الذي يلقيه مدرس مادة العلوم في حصته. أما السبب الشرعي فهو المستنبط من أدلة الشريعة والنصوص المقدسة، وهو الذي يلقيه مدرس مادة التربية الدينية في حصته.

في الحقيقة إن هذا الجمع قد عزز الشرخ بين الإجابتين وعمق الانفصام في شخصية المتعلم، فهل هناك سببان متغايران يؤديان نتيجة واحدة؟ وهل هناك شرخ بين الله ومخلوقاته؟ أليس الذي نزل الكتاب هو الذي خلق السحاب؟

الغاية والسبب والنتيجة: 

إذا أردنا الإجابة على هذا السؤال علينا أن نسأل أنفسنا في البداية عن المقصود بالسبب، هل المقصود هو الغاية التي يحدث من أجلها أمر ما؟ وبمعنى آخر نستطيع أن نقول هل يبحث السائل عن سؤال “لماذا تنزل المطر”؟ أم إنه يبحث عن شيء آخر؟

إذا كانت الإجابة أنه يبحث عن الغاية، فينبغي أن يتنبه السائل إلى أن سؤال الغاية (لماذا) هو سؤال فلسفي متعالٍ عن الوجود المادي؛ لأنه يبحث في ما وراء الأفعال والمقصد منها.

وهو مختلف تماماً عن الأسئلة المادية التي يكون محل إجابتها ممكناً ضمن إطار العلم التجريبي، كالأسئلة التي تصاغ بكلمات استفهامية مغايرة: مثل (كيف) و (متى) و (أين)، أما سؤال (لماذا) فهو ليس من الأسئلة المادية وهو سؤال اختص به الإنسان وتميّز به عن المخلوقات الأخرى التي يرشدها عقلها البسيط لاستنتاج الكيفيات وتذكر الأوقات والأمكنة، دون الوصول إلى مستوى يؤهلها لطرح سؤال بهذا المعنى الفلسفي المعقد. ولتوضيح الفرق بين الأمرين يمكننا طرح المثال التالي.

القاضي والسجّان:

هب أنه في قاعات إحدى المحاكم يقبع متهم بجريمة ما، وقد أدين هذا المتهم بالأدلة القاطعة، لينطق القاضي بحكمه: “السجن مع الأشغال الشاقة“، ثم يأمر السجان بأخذه إلى الزنزانة.

وبعد أن انتهت المحاكمة سأل طفلٌ صغيرٌ الحاضرين بصوت بريء: “لماذا دخل أبي إلى السجن“؟

ليتفاجأ الجميع بإجابة أحد الحاضرين: “لأن السجان أخذه إلى الزنزانة“!

دقيقة صمت …

ثم ترتفع أصوات الحاضرين بين منكر للإجابة ومستهزئ بها، وبين مبدِ للإعجاب الشديد بحكمة هذا الرجل وإجابته الفريدة، وبين من يثني على الإجابة ويدعمها بتفاصيل ومكتشفات امتلأت بها الأوراق البحثية حول آلية فتح باب الزنزانة وإغلاقها التي يتقنها السجان منذ سنوات طويلة؛ ليقول للطفل الصغير إن العلمَ قد حسم الأمر في سبب دخول أبيك إلى السجن! انظر إلى السجان وما في يده من مفاتيح!

بعد دقائق من الضجيج يعيد القاضي ضبط القاعة ليجيب على سؤال الطفل الصغير بكلمات محكمة وجيزة:

لقد دخل أبوك السجن يا بني لأنني – أنا القاضي – حكمت عليه بالسجن، وما السجّان إلا خادم عندي يسير وفق ما أريد، فأبوك مدان بهذه الجريمة وأنا حكمت عليه وفقاً للقانون، وعليك يا بني أن تفرق بين الحاكم والمنفذ، ولا تستمع لمن يوهمك أن السجان يمكنه فعل شيء بلا أمر منّي“.

نعم. لقد وصل الغرور الإنساني اليوم إلى مرحلة كبيرة جداً، إلى مرحلة جعلته يظن السجانَ قاضياً، والقاضيَ معطلاً أو غائباً أو أسطورة من قصص الأولين. فتضخم إعجاب الإنسان بنفسه حتى ظن الكيفيات المادية التي يدرسها غايةً ومقصداً تجري من أجلها الحوادث، والحقيقة أن هذه الكيفيات ما هي إلا أشكالٌ لتنفيذ أوامر الله تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه، ولولا أن الله سبحانه أذن للبشر أن يصلوا إلى الحضارة التي يعيشونها الآن، لما كان لهم أن يستفيدوا من شيء من هذه الأسباب.

لماذا وكيف:

عودة لحديثنا حول الغاية والسبب، قلنا إنه ينبغي التفريق بين السؤال عن الغاية (لماذا) الذي لا ينتمي لهذا العالم المادي، وبين الأسئلة المادية الأخرى التي تبدأ بـ (كيف) و (متى) و (أين)؛ وعند السؤال عن الغاية فإنه ينبغي معرفة أن الإجابة لن تكون حاضرة ضمن إطار العلوم المادية، ولا بد من علوم أخرى تجيب الإنسان الحائر عن هذه التساؤلات. أما الأسباب التي خلق الله بها الكون وجعلها قائمة في الكون بأمره فلا تعدو كونها (كيفية) مادية لا علاقة لها بالمعنى والغاية. وهنا يمكن تعديل الأسئلة التي تثار دائماً حول “التفاسير العلمية” لتصبح أسئلة حول “الكيفية العلمية”. 

فالتفسير العلمي للحوادث ليس إلا تفسيراً للكيفية التي تمت بها الأشياء كما أراد الله أن يخلقها. لأن دراستنا للحوادث التي تجري أمام أعيننا لا تسمح لنا بمعرفة أكثر من هذا، وليس ثمة آلية مادية تستطيع أن تشرح الغاية والمقصد، ولا يمكن لهذه الكيفيات أن تكون فاعلةً بذاتها بحال من الأحوال.

أما الغاية والمقصد فهي أسئلة “لا مادية” مجاب عنها في الوحي الإلهي حيث يتم نسب جميع الأفعال وأسباب حدوثها إلى الله سبحانه، فهو الوحيد المتصرف في هذ الكون كيف يشاء. وإن سخر لنا بعض مخلوقاته بتعريفنا كيفية عملها فذلك لأنه هو الذي أراد ذلك وإن شاء منعها وقتما أراد.

قال تعالى:((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)) [النور : 43]

وقال سبحانه: ((وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) [الأعراف : 57]

ويدعي بعض الناس أن هذه الأسباب لا علاقة لها بالله ولا يتدخل بها، وهذا ادعاء خطير قد تجده عند بعض المسلمين، وقد اشتهرت به “المعتزلة” في التاريخ الإسلامي، وكذلك بعض المؤمنين من غير المسلمين الذين يعتقدون بأن الله خلق الكون ولا علاقة له بما يجري فيه. [وقد تمت الإشارة إلى هذا الأمر في مقال ” هل يخلق الله الشر؟ الجزء الثاني (دفاع الإرادة الحرة)”]

والحق أن الله قد بين لنا في العديد من المواضع القرآنية أنه هو الفاعل سبحانه، وأن هذه الأسباب ما هي إلا أشكال لتنفيذ أوامره سبحانه.

وإذا أردنا سبر الآيات التي تدلل على هذه النظرة القرآنية لعرضنا آيات كثيرة لا تكاد تحصى، بعضها متعلق بالعلوم التجريبية وبعضها بأحداث تاريخية وبعضها بقضايا اقتصادية مرت بالبشر وتمر بهم، ويبين لنا سبحانه أن ذلك كله يتبع لحكمه وحده.

وقد يستشكل هذا الأمر على بعض الناس، فيسألون إذا كانت هذه الأفعال من الله فلماذا يحاسب الله الخلق على شيء فعله هو سبحانه؟ وهذا سؤال وجيه تنبغي الاستفاضة في الإجابة عليه [انظر تفصيل هذه المسألة في مقال “هل يفعل العباد ما يشاؤون هم أم ما يشاء الله؟” للمؤلف]

أما الآن فسنكتفي بسرد عدة آيات تدلل على أن الله سبحانه هو القيوم على خلقه وأنه الفاعل في هذا العالم، لعلها تعيد تشكيل أسلوب تفكيرنا وتحفز من يقرؤها على تدبر القرآن الكريم ومعانيه:

  1. آيات في تسخير المخلوقات لتيسير أمور الناس:

((هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)) [يونس : 22]

((وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ)) [إبراهيم :32]

  1. آيات في سنة الله في إهلاك الأقوام:

((وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ ۙ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ))[يونس: 13]

  1. آيات في حركة التاريخ وسقوط الدول:

((الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7))) [سورة الروم] 

  1. آيات في حركة الاقتصاد القومي للأمم:

((وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96))) [سورة الأعراف]

  1. آيات في نعم الله على أصحاب النعم:

((وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا)) [الكهف: 32]

  1. آيات في القصص القرآني:

((وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6))) [سورة القصص : 5 – 6]

((وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21))) [يوسف: 21 ]

وقد بين الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام هذه الحقيقة، وكيف أن الله سبحانه هو الفاعل ما يشاء وأنه القيوم على المخلوقات وأنه اللطيف (الذي لا يرى فعله وتدبيره إلا من صفا قلبه):

((إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) [يوسف: 100]

 

إله الفجوات المعرفية:

وقد تشابهت بعض هذه الآيات – التي تنسب الفعل إلى الله – على بعض المتأثرين بالخطاب العلموي [العلموية Scientism هي الترويج للعلم باعتباره الوسيلة الأفضل أو الوحيدة الموضوعية التي يجب على المجتمع من خلالها تحديد القيم المعيارية والمعرفية]، فصار يظن أن القرآن قد نسب أفعالاً يجهل كيفية تحققها إلى الله، وذلك بسبب الفجوة المعرفية التي كانت في زمن نزول القرآن الكريم، ليكتشف العلم التجريبي بعد ذلك تلك الكيفيات والآليات ليتبين – وفقاً لهؤلاء – خطأ القرآن في نسبها إلى الله. [انظر تفصيل هذه المسألة في مقال “ماذا تعرف عن مصطلح إله الفجوات المعرفية؟” للمؤلف]

وأشهر الأمثلة على ذلك آلية الطفو وآلية الطيران، التي نسبها الله عز وجل – كغيرها من أفعال في هذا الكون – لنفسه سبحانه:

((أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)) [سورة الملك: 19]

فقالوا كيف يمكن أن يقول الله أنه هو من يمسك الطير مع أن العلم التجريبي قد اكتشف آلية الطيران منذ أكثر من مائة سنة فهل الله هو من يمسك الطير أم هذه الآليات؟ في عودة إلى الإشكالية التي بدأنا بها هذا المقال!

لذلك نجد أنه لا يمكن أن تستقيم نظرة الإنسان إلى المخلوقات والكون حوله دون الرجوع إلى القرآن الكريم، دليل الصانع الذي أبدع هذه المخلوقات. فيجد فيه الإجابة على تساؤلاته الفكرية والنفسية والفلسفية والمادية وغيرها من تساؤلات تؤرق باله، وبه يستطيع تصحيح أفكاره الشاذة والمنحرفة لتعود إلى الوجهة الصحيحة وفقاً للبوصلة الإلهية.

ولمن لا يزال ينتظر الإجابة على السؤال الذي عُنون به المقال، نترك الإجابة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى، فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث سيدنا زيد بن خالد الجهني أنه قال:

صَلَّى لَنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بالحُدَيْبِيَةِ علَى إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أقْبَلَ علَى النَّاسِ، فَقالَ: هلْ تَدْرُونَ مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: أصْبَحَ مِن عِبَادِي مُؤْمِنٌ بي وكَافِرٌ، فأمَّا مَن قالَ: مُطِرْنَا بفَضْلِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ، فَذلكَ مُؤْمِنٌ بي وكَافِرٌ بالكَوْكَبِ، وأَمَّا مَن قالَ: بنَوْءِ كَذَا وكَذَا، فَذلكَ كَافِرٌ بي ومُؤْمِنٌ بالكَوْكَبِ

التحصين من الشبهات

التحسين الوقائي والعلاجي من الشبهات
التحسين الوقائي والعلاجي من الشبهات

التحصين من الشبهات
أ. أدهم العاسمي

Loading

رحمته في الجهاد

تكلَّمنا سابقاً عن التَّحصين الوقائيِّ والعلاجيِّ من الشُّبُهات، وذكرنا أنَّ الفروق بينهما متعدِّدةٌ أهمُّها فرقان اثنان:

  1. الوقائيّ، يكون قبل وقوع الشُّبهة، أمَّا العلاجيّ فيكون بعدها.
  2. الوقائيّ، يكون علاجاً عامَّاً لكلِّ الشُّبُهات، أمَّا العلاجيُّ فيتعلَّق بشبهةٍ بعينها، والوقاية خيرٌ من العلاج، لذلك فإنَّ نقاطهما أكثر من نقاط العلاج كما سيتبيَّن لنا الآن.

وليُعلم أنَّ عالَمَنا يشهد اليوم تغيُّراتٍ كثيرةً وسريعةً، وهذه التَّغيُّرات تستهدف الشباب في عقولهم وأرواحهم، حيث صاروا يعانون من فراغٍ فكريٍّ وروحيٍّ أفضى بهم ليكونوا ضحيَّة صراعاتٍ وآلامٍ داخليَّةٍ، وصار لزاماً على الشباب الحريص أن يمتلك الدِّراية والمعرفة بكيفيَّة التعامل مع هذه الشبهات، وكيفية التحصين منها.

وقد صحَّ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حديثٌ جامعٌ في طريقة التَّعامل مع الشُّبُهات المالية، وهذا الحديث نفسه يصلح ميزاناً للتَّعامل مع الشُّبُهات الفكرية، وهو: ((الحلالُ بيِّنٌ والحرام بيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من النَّاس، فمن اتَّقى الشُّبُهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشُّبُهات وقع في الحرام…)) فقد بيّن لنا هذا الحديث ماهيَّة الشُّبهة، ومن هو الذي سيقع فيها، وسُبُلَ التَّخلُّص منها، ثمَّ ختمه بالحديث عن منبع حصانة الإنسان من الشُّبُهات ألا وهو القلب.

وبناءً على ما تقدَّم أبدأ الحديث عن الطريق الأول وهو: الطريق الوقائيُّ من خلال نقاطٍ كلِّيَّةٍ خمسة:

1- الاهتمام بالعلم الشرعيّ: فمن المعلوم أنَّ الشُّبُهات الفكريَّة مرتبطةٌ بالدِّين والشَّرع، وعلى قدر الوعي بعلوم الشريعة يكون التَّحصين، فكلَّما ازداد فهم الإنسان لدينه كانت حصانته أقوى، وضاقت عنده منافذ الشُّبُهات. وفي المقابل كلَّما نقص فهمه ووعيه للدِّين كان عرضةً لسهام الشُّبُهات، وعرضةً للغرق في أمواجها التي تستهدف أوَّلاً وبالذات الجاهلَ لا العالم، وكما يقول علماؤنا: (العلم في الرَّدِّ على الشُّبهة لا في اختراعها)، والردُّ والتحصين يحتاج إلى العلم.

2- القراءات المنظَّمة: فالقراءة العشوائية هي الأكثر انتشاراً بين الناس اليوم، خاصَّةً الشَّباب، وفي الأخص في عصرنا هذا عصر الإنترنت والمعلومات والرسائل الكثيفة مجهولة المصدر، وهذه المعلومات الفوضوية تولّد لدى قارئها إشكالاتٍ كثيرةً، لأنَّ منابع الشُّبُهات خارجيةٌ لا داخلية، أي أنَّ الشُّبُهات لا تنبع غالباً من ذات الإنسان بل من المعلومات الخارجية المشوِّشة للفكر، خاصَّةً إذا كان القارئ لا يرتكز على بناءٍ فكريٍّ رصين، وهذا هو الأغلب لدى من تهزُّهم الشُّبُهات، وقد قيل (ليس المهمُّ أن تقرأ بل المهمُّ أن تعرف ماذا تقرأ).

3- وضع الشُّبهة على موائد النقد عند أهل الاختصاص: لفحصها ونقدها حتَّى لا تتراكم ويصعب انتشالها.

فالسابق للعقل يصير ملكةً وقاعدةً للبناء الفكري كما يذكر العلّامة ابن خلدون، بمعنى أنَّ المعلومات الخاطئة تصير هي القاعدة التي ينطلق منها القارئ في تكوين معارفه وعقائده وتوجُّهاته، فإن كانت القاعدة هشَّةً كان البناء الفكريُّ والعقديُّ كذلك.

4- البعد عن مواطن الشُّبُهات: أي عدم التعرُّض لها، فالراعي حولها يوشك أن يقع فيها، فحذارِ من الفضول والتطفُّل على الأشياء الغريبة بهدف التعرُّف عليها دون وجود حصانةٍ فكريَّةٍ وخلفيَّةٍ علميَّة، ولنعلم أنَّ الذين يشيعون الشُّبُهات لا يريدون أجوبتها بل يريدون التشويش علينا، وقد أشار النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى خطر التعرُّض للشُّبُهات من خلال حديثه الذي رواه أبو داوود عن عمران بن حصين، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((من سمع بالدَّجَّال فَلْيَنْأَ عنه)) [سنن أبي داود]، أي: فليبتعد عنه ولا يحسّن الظنَّ بنفسه أنَّه لا يُفتن به، فالدَّجَّال يُثير الشُّبُهات من خلال ما يُعطى من قدرات والتَّعرُّض له خَطِرٌ جدَّاً، وكذلك مُطلق التعرُّض للشُّبُهات.

5- تقوية الصِّلة بالله: فضعف العبادة يؤدِّي إلى ضعف الإيمان، والشهوات باب الشُّبُهات، والمعاصي بريد الكفر، ولذلك بيّن لنا القرآن الكريم أنَّ إنكار البعث يتولَّد تارةً من الشُّبهة، وتارةً من الشَّهوة، حيث قال: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ[القيامة3]، ثمَّ قال بعد ذلك ﴿بّلْ يُرِيْدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ[القيامة5]، أي أنَّ الإنسان الذي يميل طبعه إلى الشهوات واللذات فإنَّ فكرة البعث والحشر تنغِّصها عليه، وبالتالي فالرَّاحة في إنكار هذا البعث، وقد قيل: (القلوب ضعيفةٌ والشُّبهةُ خطّافة).

 أمَّا الحديث عن الطريق الثاني وهو الطريق العلاجيُّ فيكون من خلال نقاطٍ أربع:

1- عدم التسرُّع في اتِّخاذ القرار حين الاقتناع بالشُّبهة: وبناء عليه عدمُ التسرُّع في إذاعة الشُّبهة، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي خاصَّة، فقد يظهر لك الخطأ فيما بعد، وبالتالي: يصعب التراجع عنه.

2- التمسُّك بالأصل: وهو الإيمان، فالعقل لا يترك ما هو عليه عند كل واردٍ يردُّ عليه وإلَّا ظلَّ طوال حياته منتقِّلاً من فكرة إلى أخرى بلا استقرار.

فنتمسَّك (بالأصل) وهو اليقين، ونطلب من العلماء رفع (العارض) وهو الإشكال والشُّبهة، قال تعالى: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوْهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُوْنَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرَاً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِيْنٌ[النور12].

قال أبو حيَّان الأندلسيّ: (فيه تنبيهٌ على أنَّ حَقَّ المؤمن إذا سمع قالةً في أخيه أن يبني الأمر فيه على ظنِّ الخير، وأن يقول بناءً على ظنِّه: هذا إفكٌ مُبين، هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه، كما يقول المستيقن المطَّلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحسن).

وإذا كنَّا نتمسَّك بالأصل وهو تحسين الظنّ بالمؤمن فكيف بالتعامل مع ربِّ العالمين سبحانه.

3- التجرُّد في طلب الحقِّ والتواضع له: فمن أعظم الحُجُب التي تحول بين الإنسان وبين معرفة الحقِّ حجاب الكبر والغرور، وهذا يقودنا إلى عدم الثقة بعقولنا ثقةً مُطلقةً، فالإنسان يُحابي نفسه ويتعاطف معها، وهذا التعاطف من موانع درك الحقيقة، وخوفاً من الكِبر والغرور لا أنصح صاحب شُبهةٍ أن يناقشها على الملأ فإنَّ الرجوع أمامهم إلى الحقِّ ثقيلٌ على النفس، فيعزُّ عليه الخضوع والتراجع عن موقفه المتبنِّي لتلك الشُّبُهات لأنَّه سيظهر بمظهر الضعيف المنهزم المتقهقر أمام الأخرين، وبالتالي يُصرُّ على موقفه، وينتقل الأمر من شُبهةٍ تُناقَش فكرياً إلى موقفٍ شخصيٍّ يمسُّ ذاته وجدانياً ونفسيَّاً.

 4- تعزيز اليقين: فاليقين الذي يجعلك تتمسَّك بعقيدتك على نوعين:

الأوَّل: اليقين الحاصل من الأدلَّة العقليَّة والفلسفيَّة، فوجود الله تعالى مثلاً له أدلَّةٌ متعدِّدة، لكنَّ هذا اليقين فيه عيبٌ وهو: عندما تأتيني شُبهةٌ ما عندي جوابٌ عنها فإنَّ يقيني يهتزُّ لأنَّ الجواب مبنيٌّ على برهان وهو غير موجودٍ عندي.                        

الثاني: اليقين الأقوى وهو الحاصل من العبادة، وأضرب مثالاً على ذلك: شخصٌ كُسرت يده فإنَّه يتألَّم ألماً شديداً، فإذا جبَّرها ورجعت إلى حالتها الطبيعية ثمَّ سألتَه: هل تتذكَّر ألم يدك عندما كسرت؟
يقول: نعم، لكن هناك فرقٌ بين ألم الكسر وألم تَذَكُّر الكسر، فالأوَّل: واقع الألم، والثاني: صورة الألم.

وكذلك ما نحن فيه: فإنَّ يقيني بالبرهان والأدلَّة الفلسفية هو صورة أدلَّةٍ على وجود الخالق، أمَّا يقيني الحاصل من العبادة فهو الدليل الواقعيُّ الحقيقيُّ لا الصوري، وهذا صعب التزلزل، (لذلك كان يقين العارفين أقوى من يقين الفلاسفة).

وختاماً، فهذا جهد المقلّ وقلم المقصّر، والله وليُّ التوفيق. 

العقوبات الشرعية لا تناسب الحضارة المعاصرة

العقوبات الشرعية لا تناسب الحضارة المعاصرة
الحضارة_المعاصرة

العقوبات الشرعية لا تناسب الحضارة المعاصرة

Loading

أنّ من يطعن بالإسلام ويحاول تشويهه هم الذين صنعوا الحروب، واحتلّوا البلاد، واختلقوا حججًا واهية وأكاذيب مفضوحة لتبرير جرائمهم في الاستيلاء على الثروات، وقتلوا الأبرياء

يطرح بعضهم إشكالاً حول كون العقوبات في الإسلام قاسية، فهي تنافي الحرّيّة الشخصيّة، ولا تصلح للطبيعة البشريّة اليوم التي أصبحت أكثر لطفاً ورقّة ونظاماً ودبلوماسيّة.

وقبل البدء بالجواب نقول:

– إذا كان المعترض ينكر على الإسلام تحريم الرذائل، ويرى أنّه يتنافى مع الحرية وانفتاح العصر، فإنّ هذا المقال لا يخصّه؛ لعدم الاتفاق على المسلّمات ونقطة الانطلاق، ومن العبث الحوار في هذه الجزئية وهو ينكر أصل تشريع العقوبات المتعلّقة بالرذائل، ويقتنع بالقوانين التي تقرّ بالتحلل والتحرّر.
إنّما الحوار مع من يقبّح الرذائل، ويستحسن الفضائل؛ لكنّه يرى أنّ العقوبات في الإسلام لا تصلح للطبيعة البشريّة اليوم التي أصبحت أكثر لطفاً ورقّة ونظاماً ودبلوماسيّة.

وإليك الجواب على هذا الإشكال:

أولاً: إذا قارنّا بين المصلحة العامّة للمجتمع ومصلحة المجرمين الخاصّة، فإنّ تقديم المصلحة العامّة أولى، وحفظ الأمن العامّ وصيانة النفس والعرض والمال مقدّم على الفساد وانتشار الجريمة والرذيلة والشفقة على المجرمين.

ولماذا يجعل المعترضون أنفسهم في صفّ المجرمين، وأهل الرذائل، ويطعنون بالدين، أليس الأجدر بهم أن يجعلوا أنفسهم في موقع الأغلبية العظمى من الشعب الذين يرغبون بمجتمع طاهر ينعم بالأمان على الأنفس والأعراض والأموال؟!

وإذا قارنّا بين أثر العقوبات الشرعيّة في الماضي والعقوبات القانونيّة اليوم، نجد أنّ العقوبات الشرعية قد حسمت الفساد، وجعلت المجتمع آمناً مطمئنّاً، وأمّا العقوبات القانونيّة اليوم فقد وقفت مع المجرم فزادت نسبة الجرائم وانتشرت الرذائل، ممّا أخلّ بالأمن العامّ. 

ثانياً: وضع الشرع شروطاً لإقامة الحدّ تكاد تكون مستحيلة، فيغدو هذا الحدّ تخويفاً وزجراً أكثر من كونه عقوبة، ولا تتحقق شروطه إلا إذا تحوّل الأمر من نزوة نفسيّة إلى تحدٍّ للحياء وللآداب العامّة، وأعلن الرذيلة أمام الملأ جهاراً نهاراً، وأراد نشرها في المجتمع العامّ، فحينئذٍ يكون قد حقّق شروط الحدّ بإرادته وإظهاره للفاحشة، لذا لا يقام حدّ الزنا إلّا أن يشهد أربعة رجال عدول صادقين بأنّهم رأوا الذنب بأعينهم صراحة، و حتى لو رأى الشهود رجلاً وامرأة أغلقا على أنفسهما الباب فإن قولهم يردُّ، بل إذا شهد الشهود في هذه الحالة أنَّ الرجل والمرأة قد فعلا الفاحشة فسيحكم بجلدهم حدّ القذف، لأنّهم اتّهموهما دون أن يروا الفعل بأمّ أعينهم، وهل يقوم الزاني بفعلته أمام أربعة رجال؟! 

ثالثاً: العقوبات في الإسلام زواجر وروادع وليست نكاية، والشرع لم يتشوّف إلى العقوبة، وإنّما يقصد درأها عن الجاني بأيّ وسيلة كانت، لذا رغّب النبي صلى الله عليه وسلم المجنيّ عليه بالعفو، وألا يرفع أمره إلى الإمام؛ لأنّه إذا وصل إلى الإمام وجبت إقامة الحد للحقّ العامّ، فقال صلى الله عليه وسلم: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدّ فقد وجب» [أبو داود والنسائي] وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفع الحدّ وعدم إقامته بأيّ شبهة، فقال: «ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا وَجَدْتُمْ لَهُ مَدْفَعًا» [ابن ماجه].

 وروي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وغيرهم من الصحابة «درء الحدود بالشبهات» [السنن الصغير للبيهقي (3/ 302)] فصار درء الحدود بالشبهات أصلاً عامّاً في باب العقوبات.

ولا يُستحبّ في حقّ من يملك البيّنة أو الشهادة أن يرفع هذا الأمر إلى القضاء، ولا أن يقرّ من ارتكب شيئاً من ذلك على نفسه بهذا الفعل، وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم، بل صرّح به النبي فقد أخرج الإمام مالك: أنّ رجلاً من أسلم جاء إلى أبي بكر الصديق، فقال له : إنه زنى، فقال له أبو بكر، هل ذكرت هذا لأحد غيري؟ فقال، لا، فقال له أبو بكر: فتب إلى الله، واستتر بستر الله، فإنّ الله يقبل التوبة عن عباده، فلم تقرّره نفسه، حتى أتى عمر بن الخطاب، فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال له عمر مثل ما قال له أبو بكر، فلم تقرّره نفسه، حتى جاء إلى رسول الله، فقال له : إنّه زنى، فأعرضَ عنه رسول الله ثلاث مرّات، كل ذلك يعرض عنه رسول الله » [الموطأ: (1594)]. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه لكي ينصرف ويتراجع عن اعترافه، لكنّه أصرّ على الاعتراف بذنبه.

وكان إقراره بإشارة من عمّه هزال، حيث قال : «انطلق فأخبِرْ رسول الله فعسى أن ينزل فيك قرآن»، فانطلق، فأخبره، فرُجم، وعندما شعر بالألم أراد أن يهرب، فلحقوه وصرعوه، وعندما ذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، لم يوافقهم على ذلك، وقال لهم (ألا تركتموه)، ثمّ عنّف هزال الذي أمره أن يعترف أمام النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث (فلمّا مسته الحجارة خرج يشتدّ وخرج عبد الله بن أُنَيس من نادي قومه بوظيف حمار فضربه فصرعه، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فحدّثه بأمره فقال: «ألا تركتموه لعله يتوب، فيتوب الله عليه» ثم قال: «يا هزال لو سترته بثوبك كان خيرًا لك» [النسائي الكبرى: (7234)]. (والوظيف هو عظم الساق أو الذراع)

وعلاوة على ذلك: يستحبّ تلقين السارق إذا أقرّ بالسرقة أن يتراجع عن إقراره، والزاني كذلك، كما ورد عن أبي أميّة المخزومي، أن النبي صلى الله عليه وسلم، أُتِي بلصّ قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما إخالك سرقت» [أبو داود: (4380)، النسائي: (4877)] أي: ما أظنّك سرقت، ليتراجع عن إقراره، وكذلك أُتِي عمر بن الخطاب برجل فسأله: (أسرقتَ؟ قل: لا) , فقال: لا , (فتركه ولم يقطعه) [مصنف عبد الرزاق: (18920)]

قال عطاء: كان من مضى يؤتى أحدُهم بالسارق, فيقول: أسرقتَ؟ قل: لا, أسرقتَ؟ قل: لا (علمي أنه سمى أبا بكر, وعمر، وأخبرني أن عليّاً أتي بسارقَين معهما سرقتهما, فخرج فضرب الناس بالدرّة, حتى تفرّقوا عنهما, ولم يدْعُ بهما، ولم يسأل عنهما) [مصنف عبد الرزاق: (18919)] أي تركهما وجعلهما ينصرفان عنه ولم يُقِم الحدّ عليهما.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن حزناً شديداً إذا أقيم الحدّ، ويأمر ذوي الحقوق ألّا يرفعوا إليه الأمر، وأن يصطلحوا فيما بينهم؛ كي يدرأ عن الجاني الحدّ، كما جاء في الحديث: (إنّ أول رجل قُطع في الإسلام – أو من المسلمين – رجل أتي به النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: يا رسول الله، إن هذا سرق، فكأنّما أَسِف وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رمادًا [أي حزن حزناً شديداً]، فقال بعضهم: يا رسول الله، ما لَكَ؟ فقال: «وما يمنعني؟ وأنتم أعوان الشيطان على صاحبكم، والله عز وجل عفوّ يحب العفو، ولا ينبغي لوالي أمر أن يؤتى بحدّ إلا أقامه، ثم قرأ: )وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( [النور: 22]) [مسند أحمد: (4168)].

وممّا تقدّم نجد أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده درؤوا الحدود بأدنى شبهة، بل لقّنوا المعترف أن يتراجع عن اعترافه كي لا تقع عليه العقوبة؛ لأنّ الدين يقصد الستر والإصلاح ولا يقصد العقوبة أبداً، وهذه هي الحقيقة بخلاف ما ينشره أعداء الإسلام من أكاذيب وتشويه للشريعة بأنها جاءت بالقتل وقطع الأيدي وبثّ الرعب بين الناس.

على أنّ من يطعن بالإسلام ويحاول تشويهه هم الذين صنعوا الحروب، واحتلّوا البلاد، واختلقوا حججًا واهية وأكاذيب مفضوحة لتبرير جرائمهم في الاستيلاء على الثروات، وقتلوا الأبرياء، وخلّفوا الدمار والمآسي والمجاعات، وتفنّنوا في صناعة الأسلحة الفتاكة.

 وقد طرح أ. جفري لانغ إشكالية أنّ زماننا ألطف من زمان نزول القرآن، وأنّ العقوبات كانت قاسية ولا تتناسب مع هذا الزمن، فقال: (أنا لست مقتنعاً أنّ زماننا ألطف وأرقّ من الزمان الذي أُنزل فيه القرآن، فالقرن العشرون كان أكثر القرون عنفاً، ربّما يبدو العالم من زاوية ستارة الحرم الجامعي الآمنة والساكنة مكاناً رحيماً، ولكنّه لا يبدو كذلك من زوايا الشوارع الوضيعة في المدن الأمريكيّة الداخلية، أو إذا ما نظرنا إليه من أمكنة أخرى في العالم تواجه عنفاً متطرّفاً، وظلماً فادحاً، بصورة روتينية وكجزء من حياتها اليومية.

صحيح أنّ قليلاً من العقوبات القرآنية لا تنسجم مع المشاعر الغربية الحالية، ولكن ليست المشاعر الغربية الحالية هي المعيار الموضوع الذي تقاس به إنسانية النظام الاجتماعي إجمالاً…فإذا أمكن سنّ قانون مثلاً يلغي الجريمة كلّيّاً، ولا يسبب أيّ متاعب أو معاناة للمواطنين، فسيكون أفضل قانون ممكن، بغضّ النظر عن نظام العقوبة فيه) [ضياع ديني: (ص:79)]

الإسلاموفوبيا

الإسلاموفوبيا
الإسلاموفوبيا

الإسلاموفوبيا

Loading

من السَّذاجة أن يعتقد أيُّ إنسانٍ بحياديَّة أيَّة وسيلةٍ إعلاميَّة أو موضوعيَّتها، وخصوصاً وسائل الإعلام التي توافقه في المواقف والآراء. 

منذ الجدار الأوَّل الذي بناه السُّومريون في مواجهة الرُّعاة العموريين، إلى سور الصّين العظيم، فجدار برلين، وحتَّى جدار الفصل العنصريِّ للكيان الصهيونيّ، كلُّها عناوين للخوف من الآخر، والرَّغبة في التقوقع حول الذَّات رهبةً ممَّا عند هذا الآخر.

تمكَّن الإعلام اليوم من استبدال الجدران الحجريَّة بجدران الأوهام، أوهام الخوف؛ الخوف من الآخر، الخوف من تغيير نمط الحياة، الخوف من تغيير القناعات أو الأشكال أو الأساليب أو حتَّى العقائد.

وخلف هذه الجدران الكبيرة من الأوهام المصطنعة تتمحور حضارة الحداثة حول ذاتها، رافضةً كلَّ شكلٍ قد يؤثّر على صورتها التي بَنَتْهَا لنفسها، رافضةً لكلِّ فكرٍ يُعارض فكرَها، حتى بلغ الجمود في التَّمحوُر حول الذَّات مبلغاً خطيراً يجسِّده انتشار كتابَي: (نهاية التَّاريخ) و(صراع الحضارات).

فكتاب (نهاية التَّاريخ) لفوكوياما يتحدَّث عن أنَّ الدِّيمقراطية الليبرالية بقِيَمها عن الحريَّة، والفرديَّة، والمساواة، والسِّيادة الشَّعبيَّة، ومبادئ الليبرالية الاقتصاديَّة، تشكّل مرحلة نهاية التَّطوُّر الأيديولوجيّ للإنسان، وبالتَّالي فإنَّ المطلب هو عولمة الدِّيمقراطيَّة اللّيبرالية كصيغةٍ نهائيَّةٍ للحكومة البشريَّة بِغَضِّ النَّظر عن كيفيّة تجلِّي هذه المبادئ في المجتمعات المختلفة.

وهذا يعني أنَّ الحضارة الحداثيَّة بشكلها الليبراليّ الحاليّ تقدِّم نفسها للبشريَّة -كما تقدِّم الأديان نفسها- مترافقةً مع الحلِّ الجذريِّ النِّهائيِّ الموعود الذي سيجلب في حال تبنِّيه السَّعادة للبشريَّة، وهذا الأسلوب من التفكير هو بحدِّ ذاته ممَّا تأخذه تلك الحضارة على الأديان، ومن الأمور التي تخشاه فيها.

أمَّا كتاب: (صدام الحضارات وإعادة تشكيل النِّظام العالميّ) لصامويل هنتنجتون، فإنَّه يسوّق لفكرة أنَّ الاختلافات الثقافيَّة هي المحرِّك الرَّئيسيّ للنِّزاعات بين البشر في السِّنين القادمة، فالآخر المختلف ثقافيَّاً وأيديولوجيَّاً -بحسب هنتنجتون- لا بدَّ أن يكون طرفاً مقابلاً للصِّدام، وبهذا يستبعد فكرة التَّوافق الإنسانيِّ بين الحضارات المختلفة، وهذا الأسلوب الفكريّ في الطّرح هو ذاته أسلوب التَّنظيمات المتطرِّفة التي تفترض وجوب الصِّراع الحضاريّ مع الأيديولوجيَّات والثَّقافات الأخرى.

كلُّ هذه الأفكار والطُّروحات، وغيرها الكثير مثلها، ممَّا ترضع لبانه الحضارة الحداثيَّة أدَّى إلى تمحورها حول أوهامٍ مصطنعةٍ من الخوف من الآخر، بالرَّغم من الانفتاح عليه.

وهذه الأوهام المصنوعة في المؤسَّسات الإعلاميَّة الكبيرة أوجدت عدوَّاً، يقتل، ويفجّر، يسيء للمرأة، ويستعبد النَّاس، وينشر الهمجيَّة، ويريد القضاء على الحضارات الإنسانيَّة، اسمه (الإسلام).

إذن فالصُّورة الواهمة المرسومة في الأذهان تساهم بشكلٍ كبيرٍ في الإسلاموفوبيا، ولا يمكن إزالة هذه الأوهام إلا بقوَّة الحقيقة الواضحة المأخوذة من مصادرها النَّقية، والتي لا تمرُّ عبر البرامج التلفزيونية، ولا الأفلام السينمائية ولا المسلسلات، ولا نشرات الأخبار.

يُضاف إليها أنَّ الخوف من الإسلام في كثيرٍ من الأحيان هو خوفٌ من “تغيير النَّمط” لا من حقيقة الإسلام، والخوف من تغيير النَّمط يعني الخوف من سيطرة الإسلام، وفرض نمط حياةٍ يُخالف نمط الحياة الحاليّ.

فلو كان الخوف من الإسلام خوفاً مبنيَّاً على حقائق لكان الخوف من الحكومة الأمريكيَّة أولى لأنَّها تقتل في كلِّ عامٍ أضعاف ما تقتله التَّنظيمات المنسوبة إلى الإسلام، ولكان الخوف من الحكومة الفرنسيَّة أيضاً أولى لأنَّها تقوم بمشاريع تدميريَّة تستنزف فيها دماء النَّاس في إفريقيا وغيرها.

فحساب القتل والاحتلال والتَّدمير يرجح وبقوّةٍ لصالح أمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرها من دول الهيمنة والقتل والحرب، إلّا أنَّنا لا نرى انتشاراً للأمريكافوبيا أو فرنسافوبيا أو بريطانيافوبيا، فعلميَّات القتل والتَّهجير والتَّدمير التي تقوم بها تلك الدُّول لا يقدِّمها الإعلام كما يقدِّم عملية قتلٍ واحدةٍ يقوم بها تنظيمٌ ينسب نفسه للإسلام.

وقبول الحضارة الأمريكيَّة – الأوربيَّة بالرّغم من الكمِّ الكبير من القتل والتَّدمير، والإفساد في الأرض، واستعمال المرأة وتسليعها (جعلها سلعة)، وتدمير الكيان الأسريِّ للإنسان، ثمَّ التَّخويف من الإسلام بناءً على مجموعة أوهامٍ وتشويهاتٍ _إن صحّت_ لا تصل بمجموعها إلى مستوى جرائم (الحضارة) الأمريكية – الأوربية، كلُّ هذا يُعد بحقٍّ من أوضح المغالطات في العصر الحديث.

وهذا مثالٌ على أنّ الْمُتأثّرين بالإسلاموفوبيا يبنون تأثُّرهم على التَّوجيه الإعلاميِّ الذي يرسِّخ الأوهام على حساب الحقائق، ويبتعدون عن البحث أو الخوض في جوهر الإسلام وحقيقته.

انتشار الإسلام

انتشار الاسلام
انتشار الاسلام

انتشار الإسلام

Loading

إذا كان هدف الفتوحات الإسلامية إكراه الناس على دخول الإسلام بحد السيف، فقد فشل فشلاً ذريعاً، أما إذا كان الهدف فسح المجال لرؤية حقائق الإسلام فقد نجح الإسلام بذلك نجاحاً بيِّناً

كثير من غير المسلمين إضافة إلى بعض المسلمين المتأثرين بالفكر الغربي ينظرون إلى أن الإسلام انتشر في العالم بقوة السيف والقهر، وأنّ أكثر الشعوب المسلمة اليوم قد دخلت الإسلام بقوة جيوشه التي توسعت في العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، حاملة رسالة الإسلام بالسيف.
وقد بُنيت هذه النظرة لانتشار الإسلام في سبيل غايتين؛ الأولى: ترسيخ القول بأن الإسلام لا يحمل في ذاته مقومّات الانتشار، وأنّه بحاجة لقوة القهر حتى يستطيع الوصول إلى العقول والقلوب، والثانية: أنّ الإسلام دينٌ عنيف حتى في نشر العقائد والقناعات.
ولا يخفى أن عجز المحاربين للإسلام عن مواجهته بالحجة والمنطق والعقل والدليل والبرهان حملهم على تشويه صورته، وتغيير حقيقته في نظر الناس، حتى يصلوا إلى مرحلة يرون فيها الإسلام همجيةً وقتلاً وجهلاً وتخلفاً، وبالتالي يرفضون الخوض فيه والتفكّر في تعاليمه وصوابية تشريعاته، ومناسبتها لبناء المجتمع الإنساني القويم.
فهل من الحق أن الإسلام انتشر بالسيف؟
للوقوف على حقيقة هذا الادعاء سنعالج عدة نقاط:
أولاً: الإسلام واضحٌ، بتعاليمه وتشريعاته وأفكاره وعقيدته، لا باطنية فيه، والحكمُ عليه سهلٌ، ومن اليسير أن نُظهر فيما إذا كان يحمل في ذاته مقومات القبول والانتشار أم أنه يحتاج للقوة والسيف حتى يصل إلى عقول الناس وقلوبهم.
كل ما في الإسلام واضح، فعقيدته وأركان الإيمان فيه لا تحتاج إلى كثير بحث، وعميقِ تدبر حتى يتمكن الإنسان من إدراكها، فهي عقيدةُ الفطرة، يستطيع البسطاء من الناس فهمَها فهماً تامّاً كما يستطيع ذلك المتعلّمون والمثقفون.
وكل تفصيل من تفاصيل حياة رسول الله التشريعية والخَلقية والخُلقية، القولية والفعلية والتقريرية، قد دوّنته كتب السير والسنّة، ويستطيع من يريد فهمَها الوصولَ إليها بكل سهولة، وبالتالي فهو قادرٌ على أن يحكّم عقله وقلبه فيها.
ثمّ إنّه لا يوجد في الإسلام أسئلةٌ محرّمة، بل يرفض أن يستشكل على الباحث أمرٌ ولا يسأل عنه، فهو يعرف أنّ دواء الشك السؤال، وأنّ البيانَ يطرد وساوس الشيطان، والقرآنُ الكريم قد خلّد تساؤلاتٍ طرحها المشركون ليواجهوا بها الإسلام وناقشها وبيّن جوابها، دون أن يأمرَ بقتال سائليها، وأجاب عن أسئلة الأنبياء والرسل، ومن قبلهم الملائكة، في القضايا الكبرى الوجودية والعقائدية.
لذلك فإنّ هذا الوضوح في الإسلام يجعله يقبل البحث والتمحيص وربما الانتقاد في سبيل وصول الباحث إلى الحق، وما كان كذلك فإنَّ مجرَّد استمراره دليلٌ على قناعة المؤمنين به قناعة عقلية وقلبية كاملة.
إنّ واقع المسلمين السياسيَّ والاقتصاديَّ والعسكريَّ المعاصرَ من الضعف والتخلف يجب أن يكون سبباً في تراجع إقبال الناس إلى الدين إن كانوا قد ورثوه عن آباءئهم مُكرَهين عليه، ولم يؤمنوا به حق الإيمان، أو لأنه لا يحمل في ذاته القدرة على الوصول إلى القلوب والعقول، إلا أنَّ الأمر عكس ذلك تماماً، فالإسلام اليوم -كما كان فيما مضى- يدخل إلى كثير من القلوب والعقول في زماننا، بل إنه اليوم من أكثر القناعات تأثيراً وانتشاراً في العالم رغم حالة الضعف التي يعيشها أهله
ثانياً: إن ادعاء انتشار الإسلام بالسيف، هو ادعاء مرتبط بالتاريخ ولا يمس حقيقة الدين، وهو رغم ذلك غير صحيح تاريخياً، ومرفوضٌ ديانةً.
فلا يقلل من قيمة الفضيلة أن يقوم إنسان ما بنشرها بين الناس بالقوة وحد السيف، فالعَيب في ذلك يقع على من يستخدم السيف لا على الفضيلة ذاتها، فلو قام –مثلاً- قائد عسكري بإجبار الناس على إدخال أبنائهم وبناتهم إلى المدارس، فدخل كثير منهم وتعلموا العلم، ثم جاء إنسان وقال: إن هذا العلم خاطئ، لأنه كان بالإجبار. فهل نقبل كلامه؟ وهل نعتبر أنَّ العيب في العلم أم في طريقة فرضه على الناس؟
هذا إذا سلمنا الأمر للقائلين بوجود إجبار للناس على الدخول في الإسلام عبر التاريخ، فكيف وَ التاريخ يشهد بعكس ذلك تماماً.
إن المعاهدة الشهيرة بين صفرونيوس (بطريرك القدس) والخليفة الثاني للمسلمين، عمر بن الخطاب  تعطينا مثالاً على اتفاق الذمّة الذي حُظِر بموجبه التحول إلى الإسلام بالإكراه صراحةً:
“هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين عمر، أهل القدس من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم ولصلبانهم، ومقيمها، وبريئها، وسائر ملّتها، إنها لا تُسكَن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حدّها، ولا من صلبانهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم
المصدر: هيو كينيدي، الفتوحات العربية الكبرى: كيف غيّر انتشار الإسلام العالم الذي نعيش فيه (فيلادلفيا، بنسلفانيا: دي كابو بريس، 2007)
لا يمكن أن ننكر وجود بعض الأخطاء هنا وهناك بين طيات التاريخ في حمل الناس على اعتناق الإسلام، لكن من الخلل المنطقي أن نحمِّل الإسلام كله أخطاء البعض في الدعوة إليه.
ثالثاً: هل يقبل الله إيمان المُكرَه؟
في بديهيات إيمان المسلمين أنهم لا يقبلون وصول دينهم للناس إكراهاً، فهم يعلمون أن الله ينظر إلى القلوب لا إلى الأشكال، وإن من يدخل الإسلامَ مكرهاً لا يقبل الله ولا المسلمون منه إسلامه، وكلام الله حاسم في هذا المعنى حيث يقول: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 256)
رابعاً: ماذا عن النصوص التي تدل على وجوب حمل السيف على الناس وإدخالهم عنوة في دين الله؟
ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله))
لعل الفهم السطحي الخاطئ، أو العاطفي للنصوص والتشريعات هو من أعمق المشكلات التي نعاني منها اليوم، وبنتيجة الفهم الخاطئ جنح كثير من المسلمين إلى التشدد والتطرف، و غيرهم إلى العنف والإرهاب، و آخرون إلى التفريط.
وإن لاجتزاء النصوص دور كبير في هذا التشوه الفكري، فيحمل الكثيرون الإسلام على جزء من نص، أو على نص واحد من مجموعة نصوص، وللأمر شواهد كثيرة تُناقش في حينها، فالكلام هنا عن النصوص التي فهمها كثيرون –عمداً أو جهلاً- أنها تدعو لحمل السيف على الناس وإكراههم على الدخول في الإسلام.
وفي الرد على هذا الاجتزاء المُخل:
على العقل أن يوسع دائرة النظر لتشمل كل النصوص ذات الصلة، فمن قرأ نصاً وفهم منه أنه للإكراه فلينظر برؤية أكثر شمولية ليرى:
قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 256)
وقوله مخاطباً سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس/ 99) .
وفي بيان المنهج الذي أُمر به سيدنا نوح في دعوة قومه يقول تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) (هود/ 28).
وفي سورة ق: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (ق/ 45) .
وقوله في سورة الأنعام:(وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (الأنعام/ 107) .
وقوله تبارك وتعالى: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية/ 22)
وسيعلم بعد هذا النظر أن الإشكال ليس في النص وإنما في الفهم الخاطئ له.
و إذا لم يزل الالتباس بعد النظر في هذه النصوص الواضحة الجلية، فليوسع العقل نظرته مرة أخرى وليسأل: من يُمثّل الفهم الصحيح للإسلام؟ ومن هو المعبر في سلوكه وأفعاله عن حقيقة الإسلام؟
إنه بلا شك، رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الذي تمتلئ سيرته بالكثير من الدلائل الواضحة على عيشه صلى الله عليه وسلم مع اليهود والنصارى والمشركين في المدينة ومكة وغيرها من المدن دون الأمر بقتلهم أو إكراههم أو نفيهم.
خامساً: حقائق ووقائع تنفي ادعاءات الإكراه
كان التحول إلى الإسلام بالإكراه شبه مستحيل بعد الفتوحات الإسلامية الأولى، فقد كان المسلمون أقلية في المناطق التي غزوها حديثًا -ربما مثلّوا حوالي 10٪ من السكان في مصر و 20٪ في العراق-. “ففي ظل هذه الظروف، كان إكراه غير الراغبين في التحول أمرًا غير وارد”.
هيو كينيدي، “هل انتشر الإسلام بحد السيف؟: “الفتوحات الإسلامية الباكرة”، “مؤتمر يال حول الدين والعنف (جامعة يال، نيو هيفن، كونيتيكت ، 16 فبراير 2008).
في المناطق التي دخلها المسلمون بحلول عام 732م -أي في القرن الأول بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم-لم يصبح الإسلام دين الأغلبية حتى 850-1050م بعد مرور فترة طويلة من الزمن كافية لفهم الإسلام وقبوله بما يحمله في ذاته من مقومات القبول المتوافقة مع مُسلَّمات العقول السليمة، فعلى سبيل المثال، تم دخول المسلمين جميع أنحاء إيران “فارس” تقريباً بحلول عام 705م؛ ومع ذلك، فقد أظهر بحث تجريبي أجراه ريتشارد بوليت أنه في منتصف القرن التاسع فقط بلغ عدد المسلمين في إيران 50٪ من سكانها، واستغرق الأمر حوالي قرن آخر حتى يبلغ 75٪.
ريتشارد دبليو بوليت، “التحول إلى الإسلام وظهور مجتمع مسلم في إيران”، في التحول إلى الإسلام، (المؤلف) نيحميا ليفتزيون (نيويورك): هولمز وماير للنشر، 1979).
وبناء على هذه المعطيات يمكننا القول بأنه إذا كان هدف الفتوحات الإسلامية إكراه الناس على دخول الإسلام بحد السيف، فقد فشل فشلاً ذريعاً، أما إذا كان الهدف فسح المجال لرؤية حقائق الإسلام بوضوح وإمكانية المقارنة الحرة بين تعاليمه وتعاليم الديانات الأخرى ثم ترجيح الأصوب فيها، فقد نجح الإسلام بذلك نجاحاً بيِّناً.
وإن استمرار وجود أتباع الديانات الأخرى في البلاد التي دخلها الإسلام لهو أكبر دليل على عدم إكراه أجدادهم على تغيير دينهم.
وأخيراً . . .
ماذا عن أيديولوجيات وعقائد غير المسلمين، هل يوجد في تاريخهم أو واقعهم إكراهٌ للناس على اعتناق عقائدهم وأفكارهم، كالإلحاد، المسيحية، البوذية، العلمانية، الليبرالية الحديثة، وغيرها، إن إكراه الناس يتم في كثير من الأنظمة الاقتصادية أو السياسية أو الفلسفية أو غيرها. فهل نحاكم كل هؤلاء على حالات الإجبار أم على ما يحملونه من عقائد وأفكار؟.

لماذا تختلفُ أَفهامنا؟

لماذا تختلف أفهامنا
لماذا تختلف أفهامنا

لماذا تختلفُ أَفهامنا؟

Loading

كان النَّاس أمَّةً واحدةً، أي لم توجد الأطماع، ولم يوجد حبُّ الاستئثار بالمنافع مما يجعلهم يختلفون, فأساس الاختلاف هو الطمع في متاع الدنيا، ومن هنا ينشأ الهوى

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّد المرسلين، وآله وصحبه والتابعين بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:

ليست أفهام البشر للأشياء والأمور واحدةٌ، فقد خلق الله تعالى الاختلاف بين البشر فقال جلَّ من قائل: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[البقرة: 213]

(ولقائل أن يقول: فمن أين إذن جاء الخلاف إلى حياة الناس؟ والجواب: كان النَّاس أمَّةً واحدةً، أي لم توجد الأطماع، ولم يوجد حبُّ الاستئثار بالمنافع مما يجعلهم يختلفون, فأساس الاختلاف هو الطمع في متاع الدنيا، ومن هنا ينشأ الهوى.

ومن رحمة الحقِّ سبحانه وتعالى بالخلق, ومن تمام علمه سبحانه بضعف البشر أمام أهوائهم واستئثارهم بالمنافع، أرسل الرُّسل إلى البشر ليبشِّروا ولينذروا.

فكأن الله تعالى لم يشأ أن يترك البشر ليختلفوا، وإنَّما الغفلةُ من الناس هي التي أوجدت هذا الاختلاف.

ومن هذا القول الحكيم نعرف أنَّ الاختلاف لا ينشأ إلا من إرادة البغي، والبغي: هو أن يريد الإنسان أن يأخذ غير حقه)([1]).

ومن هنا نستطيع أن نضع ثلاث نقاطٍ منطقيَّةٍ مهمَّةٍ مع أمثلةٍ عنها تودي بنا إلى الاختلاف في أفهامنا، وهي كالآتي:

أوَّلاً: تفاوُت المدارك والعقول:

فالله تعالى قسَّم بين الخلق أرزاقهم وأخلاقهم وعقولهم.

عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه([2]) قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ([3])؟

قَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ([4])، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ([5])، مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْماً يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ([6]). قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟

قَالَ: الْعَقْلُ([7]) وَفَكَاكُ الْأَسِيرِ([8]) وَأَلَّا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ([9]). [أخرجه الإمام البخاري في صحيح]

وإنما وقع التفاوُت والاختلاف من قبل الفهم، فمن رُزق فهماً وإدراكاً ووُفِّق للتَّأمل في آياته والتدبُّر في معانيه فتح الله سبحانه وتعالى عليه أبواب العلوم.

والمعنى المراد من الحديث المذكور: أي ليس عندنا أهلَ البيت إلَّا ما في المصحف، إلّا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن؛ يعني ما يفهم من فحوى كلامه ويستدرك من باطن معانيه التي هي غير الظاهر من نصِّه والْمُتَلقَّى من لفظه، ويدخل في ذلك جميع وجوه القياس والاستنباط التي يُتوصَّل إليها من طريق الفهم والتَّفهُّم([10]).

ثانياً: فهم الأشياء يختلف من شخصٍ إلى آخر:

فقد أفهمُ مسألةً بطريقةٍ ما، وتفهمها أنت بطريقةٍ أخرى، وأمرٌ طبيعيٌّ أن تختلف الأفهام للشَّيء الواحد.

عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ من الفجر[البقرة: الآية 187]  

عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ([11]) أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلَا يَسْتَبِينُ لِي!

فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: “إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ“. [أخرجه الإمام البخاري في صحيحه بلفظه، والإمام مسلم في صحيحه].

وفرض الصّيام كان في أوَّل الهجرة في السَّنة الثَّانية، وصام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تسعة رمضانات، وعديّ بن حاتم رضي الله تعالى عنه كان متأخر الإسلام، فيحمل قوله: (لما نزلت الآية) يعني: بعدما أسلم وبلغته الآية وعلم الآية، ففهم منها هذا الفهم، وأنَّه لما أسلم وبدأ يصوم، وقرأ الآية فهمها هذا الفهم، وعند ذلك جاء وسأل النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأخبره وقال له ما قال صلوات الله وسلامه عليه([12]).

وقال بعض شُرَّاح الحديث: (لم يكونوا يعدّون الفجر فجركم، إنَّما كانوا يعدّون الفجر الذي يملأ الطرق والبيوت) ([13]).

فالملاحظ الواضح في الحديث أنَّ فهم هذا الصحابي اختلف عن أفهام بقيّة الصّحابة، وكان فهمه لظاهر النّص، فبيَّن له النَّبيُّ الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم الفهم الصحيح.

ثالثاً: اختلافنا في المعرفة والعلوم:

فمن اكتسب معرفةً وعلماً يستطيع فهم كثيرٍ من الأشياء بصورةٍ أوضح ممَّن لم يحصل على هذه المعارف، وهذا ملاحظٌ بالمشاهدة والواقع.

عن المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قال: بَعَثَنِي رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلَى نَجْرَانَ، فقالُوا لِي: أَلَسْتُمْ تَقْرَؤونَ: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرَأَ سَوءٍ وَمَا كَانَت أُمُّكِ بَغِيًّا[مريم:28]  وَقَدْ كَانَ بَيْنَ مُوسَى وعَيسَى مَا كَانَ!

فلَمْ أَدْرِ مَا أُجِيبُهُمْ. فَرَجَعْتُ إِلَى النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فَأَخْبَرْتُهُ، فقال: “أَلا أَخْبَرْتَهُمْ أَنّهُمْ كَانُوا يُسَمَّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصّالِحِينَ قَبْلَهُمْ“. [أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والإمام الترمذي في سننه واللفظ له].

حلَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم الإشكال وسوء الفهم، وبيَّن للمغيرة أنَّ هارون المذكور في الآية ليس هارون أخا موسى؛ بل هارون آخر سمّوه عليه؛ لأنَّهم كانوا يسمّون بأسماء الأنبياء؛ ولذلك يكثر مثلاً في اليهود اسم موسى وهارون.

ولا شكَّ أنَّ المغيرة لو كان يعلم هذا لما سأل النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عنه، لكن وقع الإشكال عنده لمَّا سأله النصارى، فسأل عنه النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فأجابه.

وجاء في كتاب تحفة الأحوذيّ شرح جامع الترمذي، للمباركفوري: (اختلف أهل التَّأويل في السبب الذي قيل لها يا أخت هارون، ومن كان هارون هذا الذي ذكره الله وأخبر أنَّهم نسبوا مريم إلى أنَّها أخته؟

فقال بعضهم: قيل لها: يا أخت هارون نسبةً منهم لها إلى الصلاح، لأنَّ أهل الصلاح فيهم كانوا يسمُّون هارون، وليس بهارون أخي موسى.

وقال بعضهم: عنّي به هارون أخو موسى، ونسبت مريم إلى أنَّها أخته لأنَّها من ولده، يقال للتميميِّ يا أخا تميم، وللمُضري يا أخا مضر.

وقال آخرون: بل كان ذلك رجلاً منهم فاسقاً معلن الفسق فنسبوها إليه.

والصواب من القول في ذلك ما جاء به الخبر عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم -يعني حديث المغيرة بن شعبة هذا- وإنَّها نسبت إلى رجلٍ من قومها)([14]).

والخلاصة من هذه المقالة الآتي:

  • اتِّباع هوى النَّفس والاستئثار والظلم أحد أهمِّ الأسباب في اختلاف الأفهام.
  • نستطيع أن نصل إلى الحقِّ ونبذ الخلاف والاختلاف باتِّباع الرُّسل والأنبياء المبلِّغين عن الله مراده.
  • هنالك أسبابٌ عدّة لاختلاف الأفهام، وفهم هذه الأسباب يوضح لنا أسباب الخلاف.
  • سيبقى الاختلاف في الأفهام ما دامت أسبابه قائمةً بين البشر.

    [1] -تفسير الشعراوي: (ص 217)

    [2] – اسمه وهب بن عبد الله العامري، نزل الكوفة، من صغار الصحابة، مات سنة أربع وسبعين ه. [الإصابة، لابن حجر]

    [3] – إنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الناس كانوا يزعمون أن عند أهل البيت -لا سيما علياً- أشياء من الوحي خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بها لم يطلع غيرهم عليها. [فتح الباري، لابن حجر]

    [4] – أي شقها فأخرج منها النبات والغصن. [النهاية، لابن الأثير].

    [5] – أي خلقها والنسمة النفس وكل دابة فيها روح فهي نسمة. [النهاية، لابن الأثير].

    [6] – المراد بالصحيفة الورقة المكتوبة.

    [7] – أي الدية وأحكامها يعني فيها ذكر ما يجب لدية النفس والأعضاء من الإبل وعددها. [فتح الباري، لابن حجر]

    [8] – أي فيها حكم تخليصه والترغيب فيه، وأنه من أنواع البر الذي ينبغي أن يهتم به. [فتح الباري، لابن حجر]

    [9] – المراد بالكافر المذكور هو الحربي فقط. والله أعلم.

    [10] – انظر مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للقاري: (11/ 20). 

    [11] – العقال ما يربط به الإبلِ من حبال من شعر أوِ غيره. [النهاية، لابن الأثير].

    [12] – انظر شرح مسلم، للنووي (16 / 209)، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري (16/ 328).

    [13] – انظر شرح ابن بطال على صحيح البخاري:  (7 / 42)

    [14] – (16 / 74).