الاختلاف بين الناس في الأفكار والمعتقدات والتوجُّهات رحمةٌ جعلها ربُّ العالمين بين الناس، وجعل أساس التَّعامل بينهم وفق هذا المفهوم وهذا المنطلق.
ولابدَّ أنَّ الوصول إلى الحقيقة غاية كلِّ عاقلٍ حكيم, وتدعو الحاجة إلى إيصال الحقِّ إلى مبتغيه واضحاً ناصعاً لا نقص ولا إبهام فيه, ولا يكون ذلك إلا بتبادل الأفكار, وطرح وجهات النَّظر, بعد الدِّراسة
وتقريب الأفكار, لنخرج بعد ذلك بمفهومٍ راقٍ مهمٍّ … ألا وهو الحوار.
تنشَأُ الفكرة وينشأ معها الاختلاف بين مؤيِّدٍ ومُعارض, فإنَّ لكلِّ فكرةٍ أبعاداً ومنطلقاتٍ قد لا تتَّضح للجميع بالصورة ذاتها, ويبحث العقل والفكر دائماً عمَّا يُوافِقُهما, ولعلَّ الحوار وتبادل الأفكار هما اللذان يكشفان هذه الأبعاد, ويوضحانها من خلال النَّظر إلى زوايا أُخرى لم تكن واضحةً من قبل…
ومُنطلق الحوار وأساسه هو التَّفاهم والرُّقي والاحترام, إذ الهدف هو التَّوصُّل إلى الحقيقة, وليس النزاع أو زيادة الخلافات, وينشأ أصل الحوار من مفهوم الاختلاف, وهو مختلفٌ كُلِّيًاً عن مفهوم الخلاف…
فالاختلاف: ما اتحدَّ فيه القصد واختُلف في الوصول إليه, أمَّا الخلاف: فهو ما اختُلف فيه القصد مع طريق الوصول إليه, فبالحوار يضع الطرفان نتيجةً واحدةً ومقصدًا أسمى, ثمّ يتساعدان في معرفة الطَّريق الصَّحيح الذي يوصل إلى الحقيقة, وذلك بعرض الأفكار والأدلَّة التي تنير النقاط الغامضة أو بذكر الانتقادات عليها. والمُحاور الجيِّد هو الذي يخرج من حواره بثمرةٍ طيِّبةٍ, ويستصحب حواره بِنيَّةٍ حَسَنةٍ, وهي إيجاد الحقيقة, وطلب الحقّ ولو على لسان الطَّرف الآخر, لأنَّ البحث عن النُّور والحقّ لا يتطلَّب النَّظر إلى مكانة القائل بل إلى مكانة الأفكار وقوَّتها. ويقوم أساس الحوار أيضاً على مجموعةٍ من الأفكار والتَّوجُّهات, والدِّفاع عنها أو نقضها.
وقبل الاتِّفاق على النقاط الأساسيَّة التي سيتناولها الحوار لا بدَّ من تحضير المادَّة العلميَّة, ويستدعي ذلك أن يكون تحضير الطَّرفين شاملاً لجميع المحاور التي يريدان عرضها, مع فهم الأدلَّة وتوظيفها في مكانها المناسب والملائم.
ولا يكون الحوار بنّاءً مالم يُسخَّر له أرقى الألفاظ وأسمى المعاني, ويرافقه حسن البيان, وبلاغة العبارة, مع ضرورة ابتعاده عن التراكيب الصعبة والقبيحة, والألفاظ المؤذية النَّابية. وليس الهدف من الحوار الانتصار للنّفس والرّأي, أو إثبات قوَّة الحُجج بالتَّكبّر, ودحض المحاوَر وإثبات خطئه, بل يسمو الفكر بالتقاء الأطراف على أسسٍ راسخةٍ من الاحترام والودّ.
ولقد كان أحبَّ ما يُحبُّه السلف الصالح في حواراتهم _وهم قدواتنا_ أن يظهر الحقُّ على لسان من يناقشهم, وما ذاك إلا لأنَّهم كانوا يسيرون بمنهجيَّةٍ راقيةٍ, وفهمٍ عميقٍ واعٍ, مع تحضيرٍ جيِّدٍ لمادَّة الحوار ليساعدوا بذلك الطَّرف الآخر في الوصول إلى الحقيقة, فتراهم يعبِّدون الطريق أمامه لكي يفكّر بمنطق كلامهم وحُجَّتهم, وينطق لسانه بالحقيقة التي كان يُعاند ضدَّها, مبتعداً عن الجدال والتَّعصُّب والمِراء.
وهذا ما وصلنا عن رجالات الحوار في تاريخنا, فلقد ورد عن الإمام الشافعي أنَّه قال: (ما ناظرتُ أحداً فأحببتُ أن يُخطِئ, وما كلَّمتُ أحداً قطُّ إلا أحببتُ أن يُوفَّقَ ويُسدَّدَ ويُعانَ, ويكون عليه رعايةٌ من الله وحِفظٌ, وما كلَّمتُ أحداً قطُّ وأنا أُبالِي أن يُبيِّنَ اللهُ الحقَّ على لساني أو على لسانه).
وفي نطاق التخلِّي عن التَّعصُّب والتَّشدُّد لوجهة النظر الشَّخصيَّة هناك نقطةٌ في غاية الأهمّيَّة:
وهي أن يُعلن الطَّرفان الرَّغبة في معرفة الحقيقة, وطريق الهدى أياً كان مَن ينطق بهما, ومعلومٌ أنَّ الهداية أو الحقيقة واحدةٌ, ولها طريقٌ واحدٌ, وعليه فإنَّ التخلِّي عن التَّعصب سيقود بلا شكٍّ إلى الاعتراف بالحقيقة عند ظهورها والتَّسليم بها.
ولا يعني تركُ التَّعصُّب تركَ الدِّفاع عن الفكرة, أو وجهة النَّظر بما يملك من حججٍ وأدلَّةٍ, بل يبقى مُدافعاً ما دامَ يعلم أنَّه على حقٍّ, ولا يُجادل في الباطل عند بيان الحقِّ وظهوره…
وهناك فارقٌ كبيرٌ بين الحوار الرَّاقي والجدال والمِراء, وإنَّ أهمَّ سِمةٍ يُعرف بها الجدال: أنَّه من باب المنازعة والمغالبة, وإشعال الخصومة بالقولِ, مع كثيرٍ من التعنُّت, فيكون بعيداً كلَّ البُعد عن قِيم الحوار وأهدافه.
ويتّصل المِراء بالمعاندة والتكبّر عند ظهور الحقِّ, فيطعن المتماري في الكلام رغم صحّته, ويكون أبعد ما يكون عن الحوار الذي فيه الجمع, والأُلفة والاتفاق, والمساعدة للوصول إلى الحقّ…
ويُعدُّ مجلس الحوار والمناقشة من المجالس التي تسعى في البناء الحقيقيّ للأمَّة, إذ بها يحصل التأصيل للقضايا الواقعية التي تعصف بجيل الشَّباب, فهم على بحثٍ دائمٍ عن الحقيقية الثَّابتة بعيداً عن التَّشتُّت في الآراء, فيأتي مجلس الحوار ليُقدِّمُ لهم الحقيقة المُسلَّم بها بعد مناقشةٍ, وتقريبٍ لوجهات النَّظر بلسان الشَّباب وواقعهم فيعملون بها وهم على اطمئنانٍ بأنَّهم حصلوا على كنزٍ بعد تخليته من الشَّوائب والآراء الخاطئة…
تتميَّزُ فئة الشباب ذكوراً وإناثاً بالاستخدام المنطقيِّ العقليِّ أكثر من التَّسليم للآراء واختلافها, فأكثر الشباب لا يسلِّم بكلَّ ما يسمعه أو يقرؤه دون تفكيرٍ وكثيرِ نظرٍ, وعندما يقدِّم الحوار المعلومات مراعياً الفكر الواقعيَّ فإنّه سيخرج بثمرةٍ طيِّبةٍ تنفعه أكثر من تسليمه لبعض القضايا.
هذا ما يقدِّمه الحوار إلى الشباب ببساطة.
وهذا هو الحوار…