ثمن الجنة

ثمن الجنة
ثمن الجنة

ثمن الجنة

هل الدين أفيون

عن عائشة زوج النَّبيِّ أنَّها كانت تقول: “سَدِّدُوا وقارِبُوا، وأَبْشِرُوا، فإنَّه لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أحَداً عَمَلُهُ”، قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: “ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ منه برَحْمَةٍ، واعْلَمُوا أنَّ أحَبَّ العَمَلِ إلى اللهِ أدْوَمُهُ وإنْ قَلَّ”. [صحيح مسلم] 

هذا الحديث أصلٌ عظيمٌ, وقاعدةٌ جليلة؛ فعمل الإنسان مهما بلغ، ومهما كان في الحسن والإتقان, لا يؤهِّله بمجرَّده لدخول الجنة، ولا يُنجيه من النار، وإنَّما ذلك كلُّه يحصل بمغفرة الله ورحمته.

لكنَّ ربَّنا سبحانه قال  :﴿ادْخُلُوْا الْجَنَّةَ لَاْ خَوْفٌ عَلَيْكُم وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُوْنَ﴾ [الأعراف49].

﴿وَنُوْدُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجنَّةُ أُوْرِثْتُمُوْهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف43]، وَقَالَ جلَّ جلاله: ﴿كُلُوْا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الخَالِيَةِ﴾ [الحاقَّة 24] ، وَقَالَ : ﴿أَمَّا الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلَاً بِمَا كَانُوا يَعْملُونَ﴾ [السَّجْدَة19]، وَقَالَ : ﴿وَحُوْرٌ عِيْنْ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُوْنِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ﴾ [الْوَاقِعَة23].

فكيف نجمع بين الحديث الذي ينفي دخول الجنَّة بالعمل، وبين الآيات التي تعتبر دخول الجنة بالعمل؟

الجواب :

 لَا مناقضة بَين مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن وَمَا جَاءَت بِهِ السُّنَّة؛ إِذْ الْمُثبَت فِي الْقُرْآن، لَيْسَ هُوَ الْمَنْفِيّ فِي السُّنَّة، والتناقض إِنَّمَا يكون إِذا كَانَ الْمُثبت هُوَ الْمَنْفِيّ. فالمنفيُّ في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَداً عَمَلُهُ الجَنَّةَ) باء العوض، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنَّة. كما زعمت المعتزلة أنَّ العامل مستحقٌّ دخول الجنَّة على ربِّه بعمله! بل ذلك برحمة الله تعالى وفضله، والباء التي في قوله تعالى: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وغيرها، باء السبب، أي بسبب عملكم، والله تعالى هو خالق الأسباب والمسبّبات، فرجع الكلُّ إلى محض فضل الله ورحمته.

 

فبرحمة الله وعفوه سبحانه وتعالى، يحصل  قبول العمل، ودخول الجنَّة والنجاة من النار، فهو الذي تفضَّل بالقوَّة على العمل، ويسَّر العمل وأعان عليه، فكلُّ خيرٍ منه سبحانه وتعالى. ثمَّ تفضَّل بإدخال العبد الجنَّة، وإنجائه من النار بأسباب أعماله الصالحة. فالمعوَّل على عفوه تعالى ورحمته، لا على عمل العبد، فعمل العبد لو شاء الله جلَّ وعلا لما كان، ولما وُفِّق إليه، فهو الذي وفَّقه له وهداه إليه، فله الشكر، وله الحمد جلَّ وعلا، ودخولهم الجنَّة برحمته وفضله ومغفرته، لا بمجرَّد أعمالهم، بل أعمالهم أسباب، والذي يسَّرها وأوجب دخول الجنَّة ومنّ بذلك هو الله وحده سبحانه وتعالى.

فقد بيَّن الله تعالى في نصُوص القرآن  :

 أَن الْعَمَل سَبَبٌ للثَّواب والرَّحمة والفضل الإلهيّ، فالْبَاء للسبب ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ﴾، أو ﴿بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَة﴾، أو ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُوْنَ﴾. وهذا كلُّه كَمَا فِي مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَنْزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ [الْأَعْرَاف57]،  وَقَوله: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الْبَقَرَة164]، وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يبين بِهِ الْأَسْبَاب، وَلَا ريب أَنَّ الْعَمَل الصَّالح سَبَبٌ لدُخُول الْجنَّة، وَالله قدَّر لعَبْدِهِ الْمُؤمن وجوب الْجنَّة، بِمَا يسَّره لَهُ من الْعَمَل الصَّالح، كَمَا قدَّر دُخُول النَّار لمن يدخلُهَا بِعَمَلِهِ السَّيِّء

وَإِذا عرف أَنَّ الْبَاء هُنَا للسَّبب؛ فمعلومٌ أَن السَّبَب لَا يسْتَقلُّ بالحكم؛ فمجرَّد نزُول الْمَطَر لَيْسَ مُوجباً للنَّبات، بل لَا بُدَّ من أَن يخلق الله أموراً أُخْرَى، بأن يدْفَع عَنهُ الْآفَات، ويربِّيه بِالتُّرَابِ وَالشَّمْس وَالرِّيح، وَيدْفَع عَنهُ مَا يُفْسِدهُ

أمَّا قَوْله صلَّى الله عَلَيْهِ وَسلَّم: (لن يدْخل أحدٌ مِنْكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ، قَالُوا: وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله؟ قَالَ: وَلَا أَنا؛ إِلَّا أَن يتغمَّدني الله برحمةٍ مِنْهُ وَفضل)، إِنَّهُ ذكره فِي سِيَاق أمره لَهُم بالاقتصاد، قَالَ: (سدِّدوا وقاربوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ أحداً مِنْكُم لن يدْخل الْجنَّة بِعَمَلِهِ)؛ يعني لا تُبالغوا في الأمر، وتزيَّدوا فيه ظنَّاً منكم أنَّ هذه المبالغة وهذه الزيادة هي وحدها بمجرَّدها التي تُحصِّلون بها الجنَّة والسعادة يوم القيامة.

فنفى بِهَذَا الحَدِيث مَا قد تتوهَّمه النُّفُوس من أَنَّ الْجَزَاء من الله عزَّ وجلَّ ليس على سَبِيل الْمُعَاوضَة والمقابلة، كالمعاوضات الَّتِي تكون بَين النَّاس فِي الدُّنْيَا،  كالْأَجِير يعْمل لمن اسْتَأْجرهُ؛ فيعطيه أجره بِقدر عمله على طَرِيق الْمُعَاوضَة: “إِن زَاد، زاد أُجرتَه، وَإِن نقص، نقصت أجرتَه، وَله عَلَيْهِ أُجْرَة يَسْتَحِقُّهَا، كَمَا يسْتَحقُّ البَائِع الثّمن؛ فنفى صلَّى الله عَلَيْهِ وَسلَّم أَن يكون جَزَاء الله وثوابه على سَبِيل الْمُعَاوضَة والمقابلة والمعادلة”. [انتهى من “جامع الرسائل” (1/145) وما بعدها] .

 فلَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ يَنَالُ الْإِنْسَانُ السَّعَادَةَ في الآخرة؛ بَلْ هِو سَبَبٌ؛ فقَوله تعالى: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)؛ هَذِهِ بَاءُ السَّبَبِ، أَيْ: بِسَبَبِ أَعْمَالِكُمْ .وَاَلَّذِي نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “بَاءُ الْمُقَابَلَةِ”؛ كَمَا يُقَالُ: اشْتَرَيْت هَذَا بِهَذَا؛ فَبِعَفْوِهِ يَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَبِرَحْمَتِهِ يَأْتِي بِالْخَيْرَاتِ وَبِفَضْلِهِ يُضَاعِفُ الْبَرَكَاتِ.” انتهى. [من “مجموع الفتاوى” (8/70) وينظر جواب السؤال رقم (115075)]

ثانيا: إذا فهم هذا الأصل، وتقرَّر عند العبد أنَّ شيئاً من عمله لا يبلِّغه الجنَّة على وجه الاستحقاق منه على ربِّه، والمطالبة به؛ فلا حرج عندئذٍ في إطلاق شيءٍ من العبارات التي تذكر أنَّ العمل: “عربون الجنة”، أو “ثمن الجنَّة”، ونحو ذلك، على وجه التجوُّز والتوسع في التعبير، على ما جرى به لسان العرب في مثل ذلك، بل تكاثرت نظائره في نصوص القرآن، وعبارات السلف  .

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [التوبة111] .

قال ابن كثير رحمه الله : “يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ عَاوَضَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، إِذْ بَذَلُوهَا فِي سَبِيلِهِ: بِالْجَنَّةِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَإِنَّهُ قَبِلَ الْعِوَضَ عَمَّا يَمْلِكُهُ بِمَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُطِيعِينَ لَهُ” .

فالله سبحانه اشترى أنْفُساً هو خلقها، وأموالاً هو مالكها، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ: “بَايَعَهُمْ، فَأَغْلَى ثَمَنَهُمْ”. يعني: هل تعدل السلعة المباعة ما أعده الله تعالى مقابلَها من ثمنٍ عظيم؟ أو ليس ذلك منَّةٌ من الله وفضلٌ كبير؟ إنَّ الحياة والمال الذي نتعامل به هالكٌ يوماً ما لا محالة، أوَليس المشتري ربٌّ  كريمٌ هو الذي وهب الحياة والمال ثمَّ أراد أن يشتريهما؟

حقَّاً لقد ربح البيع، ولقد أدرك فضلَه المؤمنون السابقون الأوَّلون، فعضُّوا على هذه الصفقة بالنواجذ، وقالوا: لا نقيل ولا نستقيل، فسمع الله مقالتهم، وعلم صدق نيَّاتهم، وقد بايعهم فأغلى ثمنهم.[“ابن كثير” (4/218)]

وفي سنن الترمذي من حديث أبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الجَنَّةُ.) [الترمذي]

وفي مسند الإمام أحمد، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ لِفُلَانٍ نَخْلَةً، وَأَنَا أُقِيمُ حَائِطِي بِهَا، فَمُرْهُ أَنْ يُعْطِيَنِي حَتَّى أُقِيمَ حَائِطِي بِهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَعْطِهَا إِيَّاهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ” فَأَبَى، فَأَتَاهُ أَبُو الدَّحْدَاحِ فَقَالَ: بِعْنِي نَخْلَتَكَ بِحَائِطِي. فَفَعَلَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُ النَّخْلَةَ بِحَائِطِي. قَالَ: ” فَاجْعَلْهَا لَصاحب الأرض، ففعل، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” كَمْ مِنْ عَذْقٍ رَدَاحٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ” قَالَهَا مِرَارًا. قَالَ: فَأَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ اخْرُجِي مِنَ الْحَائِطِ، فَإِنِّي قَدْ بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَتْ: رَبِحَ الْبَيْعُ. أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا”.

يعني أنَّ سلعة الله غاليةٌ في مقابل هذا الثمن الفاني الذي يقدِّمه الإنسان، ولهذا الاستعمال نظائر كثيرةٌ على ألسنة العلماء :

قال الحسن البصري رحمه الله: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثَمَنُ الْجَنَّةِ) [رواه ابن أبي شيبة].

كلُّ هذا يعني أنَّ هذا الثمن الذي دفعه الإنسان المؤمن هو السبب الذي أوصله إلى رحمة الله وفضله ومغفرته

فيدخل الجنَّة به.

والحاصل :

أنَّه لا حرج في استعمال مثل هذه الأساليب، مع الاحتراز من الاعتقاد بأنَّ عملاً معيَّناً: هو ثمن الجنة

إذاً فدخول الجنة بفضل الله قولاً واحداً، لكنَّ فضل الله عزَّ وجلَّ لا يناله إلَّا من دفع الثمن، ألَّا وهو العمل.

فإذا دفعت الثمن، وظننت أنَّ هذا الثمن هو كلُّ شيءٍ، فعندئذٍ لن تصل إلى الجنة، ولن تبلغ الجنة إلَّا إذا تيقَّنت أنَّها بفضل الله. ولذلك كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، حاسماً حينما سأله الصحابة، (فقالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا.

فأنت حينما تعِد ابنك بهديةٍ إذا نجح، فهل بعد نجاحه ستأتي الهدية وحدها، أم أنَّك ستضطر لدفع القيمة المساوية لشرائها، فهذه الهدية لها ثمن، ولكن سبب إهداء هذه الهدية للابن هو النجاح فصار العمل سبباً وليس العمل سبباً  كافياً لدخول الجنَّة، فالإنسان إذا عمل عملاً صالحاً واستقام على أمره، وظنَّ أنَّه استحقَّ الجنَّة استحقاقاً قطعياً، وأنَّه أخذها بجهده، وعرق جبينه، ومجاهدته لنفسه وهواه، فهذا خطأٌ كبير، وإذا ظنَّ أنَّ الجنَّة ليست بالعمل لكنَّها بالأمل أيضاً وقع في خطأ كبيرٍ.

فبعض الناس فهم فهماً مغلوطاً فلم يعمل واتَّكل على الأمل، وأخطر شيءٌ في حياة الإنسان أن يتَّكل على الأمل ويترك العمل، وبعضهم فهم أنَّ الجنَّة بالعمل فقط، فيكون بذلك استغنى عن الله عزَّ وجلَّ وعن رحمته وفضله؟

وفضل الله على عباده أوسع من أعمالهم، والله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء ﴿لَايُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ فالله عزَّ وجلَّ هو الخالق، وله أن يتصرَّف في ملكه كما يريد، وكيفما يشاء.

فقد رأى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم رجلاً يصلِّي طوال النهار، فقال عليه الصلاة والسلام: من ينفق عليك؟ قال: أخي، قال: “أخوك أعبَدُ منك”، النَّبيُّ الكريم يقول: (والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خيرٌ لي من اعتكاف شهرٍ في مسجدي هذا). فنحن ندخل الجنَّة برحمة الله، وليس مقابل العمل لأنَّ العمل لا يساوي نعمةً واحدةً من نعم الله، وإذا كنتم عاجزين عن إحصائها فأنتم عن شكرها أعجز.

ويروى أنَّ رجلاً كان يعيش في جزيرةٍ، فأنبت الله له شجرة رمَّانٍ، وأجرى له عيناً من الماء…

فكان يأكل الرمَّان، ويشرب من الماء، وعاش ستمئة عامٍ متفرِّغاً للعبادة، فلمَّا جاء موعد أجله قبضته الملائكة وهو ساجدٌ، فقال الله عزَّ وجلَّ: أدخلوا عبدي الجنَّة برحمتي، قال: أي ربِّ بل بعملي، فقال الله عزَّ وجلَّ، إنَّه لا يُظلم اليوم عندي أحد، ضعوا نعمة البصر في الميزان، وضعوا أمامها عبادة ستمئة عام، فرجحت نعمة البصر على عبادة ستمئة عام. فقال: خذوه إلى النار، فقال أي ربِّ برحمتك، أي ربِّ برحمتك. [رواه الحاكم].

الإِرهابيونَ هُم أَعداءُ الإسلام

الإرهابيون هم أعداء الإسلام
الإرهابيون هم أعداء الإسلام

قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللهَ لَاْ يُحِبُّ المُعْتَدين [البقرة:190]

     مُنْذُ أَيَّامٍ استوقفتني امرأةٌ مثقَّفةٌ, وقد علمت أنِّي من خطباء المساجد, فقالت لي بتحمُّس: يا شيخ, كفى حديثاً عن غزوات النَّبيِّ ﷺ, وحدِّثوا الناسَ في مواضيع أخرى، فابتسمتُ وأجبتُها وأنا أعلم ما تقصده: نحن نحدِّث الناس بما يحتاجونه, وبما فيهِ خيرهم في الدُّنيا والآخرة.

وبعد أيَّامٍ من هذا الموقف, شاهدتُ في وسائل التواصل مذيعةً تتحدَّث في إحدى المحطَّات التلفزيونية وهي تجلس إلى جانب عالمٍ أزهريٍّ تحدِّثه بفظاظةٍ وغلاظةٍ وشدَّةٍ وانفعالٍ, تقول له: لقد كان محمَّدٌ إرهابياً على مستوىً عالٍ، فقد قاتل قومهُ وقتلهم أبشع قِتلة. وأخذت تكيل الاتِّهامات إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بعداوةٍ ظاهرةٍ, وكلماتٍ بشعةٍ, لا تمتُّ إلى الحقيقة بشيءٍ، وكانت دهشتي من العالِم الضيف أنَّ إجابته لم تكن في المستوى المطلوب.
أقول: ينبغي لكلِّ مسلمٍ وفي كلِّ زمانٍ ومكانٍ ألّا يغيب عن ذهنه أنَّ العداوة للإسلام قد ظهرت منذ اللحظة الأولى لبعثة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم, وخصوصاً من قبل المتكبِّرين المتجبِّرين من العرب المشركين, وأكثرهم عداوةً اليهودُ الذين يمثِّلهم الصهاينة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ, فلا يغفلون لحظةً عن الكيد للإسلام والمسلمين والطَّعن في القرآن الكريم والنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
نسمعُ في كلِّ يومٍ أسلوباً جديداً لهذه العداوة, وبما أنَّنا اليوم نسمعُ ونشاهدُ الحديث المتكرِّر عن الإرهاب والإرهابيين, فإنَّ أعداء الإسلام في كلِّ مكانٍ يصفونه ونبيَّهُ المصطفى صلى الله عليه وسلم والمسلمين بصفة الإرهاب.
وليعلم كلُّ واحدٍ منّا أنَّ هؤلاء المدَّعين هم أصل الإرهاب وأهله وسبب انتشاره, وعلى رأسهم أولٰئك الصهاينة, ومن كان منهم أو معهم أو مؤيداً لهم.
فمن الذي أباد سكّان أمريكا الأصليين, واستولى على بلادهم؟
ومن قتل الآلاف من الفيتناميين في مجازر يندى لها الجبين؟
ومن ألقى القنابل الذرية على هيروشيما وناكازاكي في اليابان فأباد أهلها, وما زالت آثارهما شاهدةً إلى يومنا هذا في الإنسان والنبات والجماد؟
من استعمر البلاد العربيّة والإسلاميّة, وقتل كثيراً من أهلها, واستغلَّ كلَّ خيراتها لصالح بلاده؟
من الذي سهَّل للصَّهاينة احتلال فلسطين وقتل أهلها وتشريدهم، وتعذيبهم وأسر الآلاف منهم؟
من ومن ومن …؟ أليسوا هم الإرهابيين الحقيقيِّين الذين كانوا وما يزالون يتآمرون على الإسلام والمسلمين في شتَّى بقاع العالم, ويمارسون شتّى أساليب الظَّلم والقتل والتَّشريد والتَّهجير والتَّجويع وغير ذلك، ثمَّ تراهم يصفون غيرهم بالإرهاب.
وعودةً إلى تلك المذيعة الحاسدة الحقودة المأجورة لنقول: إنَّ سيِّدنا محمَّداً صلى الله عليه وسلم هو حقيقةً كما قال عن نفسه: ((إنَّما أنا رحمةٌ مُهداة)), وكما قال الله تعالى عنه: ((وَمَا أَرْسَلْنَٰاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[الأنبياء107]
فنبيُّنا المصطفى صلى الله عليه وسلم هو القدوةُ المُثلى للبشر في رحمته وعطفه وحنانه وحبِّه, وسعيه لهدايتهم, وتبليغ رسالة الله إليهم, ولم يفكِّر يوماً بقتل إنسانٍ أو إيذاء أحدٍ, لكنَّه أُجبر على الدفاع عن نفسه أمام شراسة أعدائه وتخطيطهم لإيذائه, وقتل أصحابه وإفناء دعوته.
ولم تكن غزوات النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا دفاعاً عن الإسلام والمسلمين, وسعياً لنشر الحقِّ بين المظلومين.
كانت الغزوة الأولى للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم هي غزوة بدرٍ, ولم يكن قصدُ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه القتال فيها, بل لم يفكروا به أصلاً, ولم يجهزوا له العدّة, وكانوا يريدون أن يستردُّوا أموالهم التي اغتصبتها قريش منهم ظُلماً وعدواناً. تلك الأموال التي جمعها أبو سفيان وهو على الشرك, وتاجر بها إلى الشام, فعادت محمَّلةً بالأرباح الوفيرة, لكنَّ أبا سفيانٍ استطاع أن يسلك طريقاً آخر, وينجو بالأموال. ولمّا علمت قريش بالأمر أصرَّت كِبراً وعلوَّاً وظلماً وإرهاباً على أن مواجهة النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقتاله وقتله, فما كان من النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام إلّا أن يواجهوا العدوان بالدفاع عن أنفسهم.
كذلك كان الأمر في معركة أحد, فقد كانت قريش هي البادئة, وزعمت أنَّها تريد أخذ ثأر بدرٍ, ورغب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يبقى في المدينة, ويصدَّ قريشاً منها, لكنَّ أهل المدينة رغبوا في صدِّ العدوان خارجَ منازلهم, واستجابَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لرأيهم, فخرجَ معهم وقد خرجت قريش بالآلافِ مدججةً بالسلاح, ولمّا خالف الرُّماةُ أمرَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم انهزم المسلمون, وقُتل العشرات منهم وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب ومثَّلوا به, وشُجَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وسال دمه, فمن هو الإرهابيُّ حقَّاً, النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وصحبه, أم قريش وجموعها؟
ويوم غزوة الخندق لمّا علم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بفرح قريش بعد انتصارهم في أحد وتجمّعهم لقتاله مع أصحابه بُغية القضاء على الإسلام والمسلمين, لم يُرِد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مواجهتهم, لا خوفاً منهم لكنَّه ما كان يحبُّ سفك الدماء, فهيَّأَ الله له سلمان الفارسيَّ صلى الله عليه وسلم الذي أشار على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق, وهو أسلوبٌ يُستعمل في بلاد فارس للدِّفاع عن النَّفس, وقام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه مع أصحابه بحفر الخندق ففوجئ به الأحزاب الذين تجمّعوا آلافاً, وغدر يهود المدينة بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وتكالبوا جميعاً على المسلمين.
ثُمَّ هيَّأ اللهُ رجلاً مشركاً وأدخل نور الإسلام إلى قلبه, وهو الصحابيُّ نعيم بن مسعود الذي استخدم للحرب المكيدة, فخدع أعداء الإسلام, ومزَّق شملهم, ثُمَّ أرسل الله صلى الله عليه وسلم الرِّيح التي فرَّقتهم ورجعوا خائبين. فمن الإرهابيُّ إذاً؟ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أم الأحزاب واليهود وحلفاؤهم؟
لقد كانت كل غزوات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على هذه الشاكلة, دفاعٌ عن النَّفس والأهل والمال والوطن, ولم يكن فيها رغبةٌ في قتال الآخرين أو إيذائهم.
ومن تتبَّع فعل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بيهود المدينة وهم: بنو قريظة وبنو قينقاع وبنو النَّضير وبنو المصطلق يجدُ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يريدُ بهم قتلاً ولا إيذاءً ولا تهجيراً, ولكنَّهم كانوا هم الذين تآمروا على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يريدون قتله وقتل من معهُ بشتَّى صور الغدر والخداع للقضاء على الدعوة الإسلامية، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلّا أن ردَّ عليهم ليقضي على الشَّرِّ وأهله ويحمي الخير وأهله.
وبعد, فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يقتل أحداً طيلة حياته وفي كلِّ غزواته إلَّا أبيَّ بن خلف, وكان ذلك في غزوة أُحد لأنَّه كان يصيح بأعلى صوته شاهراً سلاحه ويقول: أين محمَّد؟ لا نجوتُ إن نجى, فتدافع الصحابة للدِّفاع عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال لهم: دعوه, فلمَّا دنا, تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة فطعنهُ بها, فكانت سبب موته.
إنِّ الإسلام الذي انتشر شرقاً وغرباً في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتِّابعين ومَن بعدهم، لم يكن عن طريق القتال وإجبار الناس على الدُّخول فيه, وإنَّما كان عن طريق الدُّعاة وأهل التَّصوُّف الذين نشروا الإسلام بالحبِّ والأخلاق السَّامية والمعاملة الطَّيِّبة والعدالةِ المطلقة.
واعلموا أنَّ الصورة الواضحة المستنيرة البيِّنة في هذا الموضوع نجدُها عندما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على أعدائهِ الذين قاتلوه وناصبوه العداء, وتآمروا عليه خلال سنين طويلةٍ, واستولوا على أمواله وممتلكاته, وممتلكات أصحابه من المهاجرين، قفَالَ لَهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ:
مَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟” قَالُوا: خَيْرًا, أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: “اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ“. [أخرجه البيهقي]

المرأة بين جاهلية الأمس وحداثة اليوم

المرأة بين جاهلية الأمس وحداثة اليوم

جهلوا في الأمس فعاملوها على أنَّها متاعٌ يورَّث، شأنه شأن أي جمادٍ لا روح فيه، وفي عصر الحداثة اليوم صدّروا صوراً حديثةً للجاهليّة فاستخدموها سلعةً، وجعلوها أداةً لتسويق منتجاتهم، وقَصَرُوا رؤيتهم لها على مفاتن شهوانيَّة تحرِّك الغرائز، لتكون وسيلةً لإنفاق سلعهم بمختلف أشكالها وألوانها، في ظلِّ هيمنة الفكر الماديّ.

أهانوها فاختزلوها وجعلوا منها جسداً وشكلاً مجرَّداً من أيِّ مضمونٍ بعد أن قاموا بتعريته من كلِّ سترٍ جميلٍ، أو فكرٍ منيرٍ. فو الله ما لهذا خُلقت، وما لهذا أنشأها الله خلقاً آخر بعد أن استوحش آدم في وحدته في جنان الخلد، إنَّما خُلقت شريكةً للرجل في الحياة، وسكنى يسكن إليها وتسكن إليه، فتستقيم الحياة بالمودَّة والتراحم بينهما:
((وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ)) [الروم-21]

رغم دعوات الحريَّة، ونداءات المساواة، والإعلان الصريح عن الرَّغبة في تحصيل حقوقها المسلوبة والتي أُطلقت مراراً في العالم الغربي، أُهينت المرأة بشتّى الوسائل في عالمٍ لا يعرف إلا مركزيَّة المادة، عالمٌ  انتُهكت فيه كرامتها وإنسانيَّتها علناً بحجَّة أن تساوى في الحرية مع الرجل كذباً وافتراءً، فهي لم تُخلق لتكون مثله أصلاً… وليس الذَّكر كالأنثى.

فهل المساواة بين المرأة والرجل أمرٌ جيد؟

الله الخالق وحده هو الذي أنشأها بتركيبةٍ مختلفةٍ عن الرجل، وهو أعلم بها وبما يصلح شأنها، وقد أرسى الإسلام للتَّعامل معها قواعد عظيمةً فمنحها حقوقها، وأعلى شأنها، وحمى كرامتها. جعلها شريكة الرجل قولاً وفعلاً، وأعزَّها فكانت أحياناً أعلى رتبةً من الرجل، ولا يخفى على أحدٍ شأن الأمِّ ومكانتها فقد وصّى ببرِّها رسولنا صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله: ((أُمُّك ثمَّ أُّمُّك ثمَّ أُمُّك ثمَّ أبوك)) [صحيح مسلم].

ففي ديننا تتزاحم النصوص الشرعية من القرآن الكريم، والسُّنَّة النَّبويَّة تدعو إلى العدل والإحسان إلى المرأة، وتُعلي قدرها، ثمَّ يأتي الإعلام الغربي فلا يألوا جهداً في ترويج الزّيف وتشويه الحقيقة، ويوجّه أصابع الاتهام في كلِّ حينٍ مدعياً أن الإسلام سلب المرأة حقوقها وجعلها في مكانةٍ  أدنى من الرجل، وذلك حين جعل للرجل الوصاية عليها، وكأنَّها لا تفقه شيئاً، أو لا تستطيع إدارة شؤون حياتها.

 ويتَّهم الإسلام بظلم المرأة واضطهادها، سواءً بالطَّلاق أو غيره فهل ظُلمتِ المرأة بالطلاق؟

أو بالميراث! هل ظُلمت في أيٍّ من مناحي الحياة؟

هل أهان الإسلام المرأة وسلبها حقوقها الإنسانية حقَّاً؟!

تثبت الحقائق التاريخية أنَّ المرأةُ تعرّضت للإهانة في زمن الجاهليةِ بكلِّ أنواع الإهانات فلم يُعرف لها حقٌّ أو كرامةٌ، اعتبروها نكرةً بل عاراً على أهلها، وكان الرجل فيهم إذا علم أنَّ زوجته وضعت له أنثى اسودَّ وجهه وراح يفكِّر كيف يتخلَّص من هذا العار.

 هل يدفنه تحت التراب، أم يرميه من شاهقٍ أم يقذفه في البحر. روحٌ بشريَّة ليس لها أيُّ ذنبٍ، إلَّا أنَّ القدر أرادها  أنثى لتكون مكمِّلةً للذكر، ويستنكر القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: ((وَإِذَا الموءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ)) [التكوير-8].

أيُّ منطقٍ أعوج ساد ذلك الزمان فعرَّض المرأة لأنواعٍ شتَّى من الإهانة في نكاح الرهط، أو الاستبضاع، أو السفاح العلني، ظلامٌ قاتمٌ، وسلطةٌ سوداء، خيَّمت على المجتمع الأنثوي في عصر الجاهلية. لكنَّ ذلك لم يقتصر على العرب في شبه الجزيرة العربية بل شاركهم فيه الإغريق واليونان والصينيون القدامى، وغيرهم من الأمم التي لم تعرف لنور الوحي  أثراً عليها.

هكذا كان حال المرأة حتى جاء نور الإسلام إلى شبه الجزيرة العربية فانتشل المرأة من قاع الظلم، ورُفع عنها كلَّ ما يؤذي كرامتها، وأعلى شأنها، وجعل النساءَ شقائقَ الرجالِ، وساوى بينها وبين الرجل في الأحكام، وفي الأخوَّة الإنسانية، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )) [الحجرات-13].

فضلاً عن المساواة بينهما في العمل والجزاء عليه، فكانت مكافئةً للرجل وليست أقلَّ منه شأناً أو كرامةً، قال تعالى:
 ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)) [آل عمران-195]

    المرأة من عبوديَّة الجاهليَّة إلى عرش الكرامة في الإسلام

في زمن عزِّ الإسلام الأوّل ومنعته، وامتداد سلطان دولته من مشرق الأرض إلى مغربها، أميرُ المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه وهو السلطة الأعلى في الدولة يتراجع عن قوله أمام الناس وهو على منبر الخلافة فيقول: (أصابت امرأةٌ وأخطأ عمر) بعد أن صوَّبت له امرأةٌ حكماً شرعيَّاً أبدى فيه رأيه فتعترض تلك المرأة العجوز وتقول: (ليس لك ذلك يا بن الخطاب).

لقد قُلِّدت المرأة في عهد عمر منصباً معتبراً في رقابة السوق، فها هي “الشفاء العدويَّة” تستلم ضبط المشتريات، وتهذِّب سلوك الباعة بوضعها أسس التعامل في البيع والشراء وأخلاقياته، بعد أن نحجت وتميَّزت في التَّعليم.

وها هي الصحابيَّة الجليلة “سُميَّة بنت الخياط” زوجة ياسر بن عامر رضي الله عنهما، تثبِّت المسلمين بثباتها على التوحيد، وبفضلها وبفضل زوجها تتنزَّل على آل ياسر رحماتٌ، ومن سيد الكائنات سيّدنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم بشرى بالجنة …. ((صبراً آل ياسر فإنَّ موعدكم الجنة)).

لقد أعلى القرآن الكريم من شأن المرأة في كثيرٍ من الآيات، وأولت السُّنَّة النبويَّة أمور المرأة عنايةً فائقةً.

  وضرب الله تعالى للمؤمنين المثل ببعض النساء التقيَّات العابدات، وجعلهنَّ قدواتٍ للرِّجال والنساء في الصلاح والتقوى، فقال تعالى: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)) [التحريم11، 12]

أمَّا علماؤنا وأئمَّة الدّين، فكثيرٌ منهم يحدِّثنا في رحلة حياته عن فضل أمِّه أو شيخاته من النساء ودورهنَّ في نشأته كالإمام الشافعي والإمام النووي، فينسب لها كلَّ فضلٍ, ولسانُ حاله يقول: وراء كلِّ عظيمٍ امرأة.

فهل حازت المرأة في الديانات والمجتمعات الأخرى غير المسلمة تلك المكانة العظيمة التي كرَّمها بها الإسلام وأعطاها لها؟!

لقد أكَّد الإسلام مراراً على احترام المرأة في جميع المجالات، وحرَّم كلَّ ما يمتهن كرامتها أو يستغل أنوثتها، فالمجتمع الآمن المستقر هو الذي تُراعى فيه حقوق المرأة فتُحفظ وتؤدَّى على أكمل وجه، وفي ذلك تقرُّبٌ من الله تعالى مع جزيل الأجر والثواب، سعياً لتنمية المجتمع الإسلاميِّ والسّير به نحو الأفضل.

وبعد أن كان وأد البنات عادة العرب في الجاهليّة، جاء الإسلام فحرّم ذلك، وبشَّر الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلَّم من ولدت له أنثى بقوله: ((من كانت له أنثى فلم يئدها، ولم يُهِنها، ولم يُؤْثِرْ ولده عليها -يعني الذّكور- أدخله الله الجنَّة)) [رواه أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده]

فهل للمسلمين من منهجٍ يتَّبعونه في معاملة النساء إلّا ما وجدوه في هدي نبيِّهم صلى الله عليه وسلَّم وسنَّته قولاً وفعلاً، سواءً كانت أمَّاً أو بنتاً أو أختاً أو زوجةً أو غيرهن، فأنصفها ودعا إلى الإحسان إليها عليه الصلاة والسلام  وقال: ((خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي)) [رواه الترمذي وابن ماجه].

ويُرسي نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم قواعد اللين في التعامل مع النساء قائلاً: ((رويدك بالقوارير)) [أخرجه البخاري] ،وهذا ما تعلَّمناه في ديننا.

  واليوم تظهر بعض الإحصاءات الغربيَّة الحديثة مقدار العنف الذي تتعرَّض له النساء بعيداً عن رحمة الإسلام وعدله،

وتخبرنا كارول بوتوين في كتابها: (رجالٌ ليس بوسعهم أن يكونوا مخلصين) أنَّ 70 % من الأمريكيين يخونون أزواجهم، و 79 % من الأمريكيين يضربون زوجاتهم، وحسب تقريرٍ للوكالة الأمريكية للفحص والتحقيق، فإنَّ هنالك زوجةً يضربها زوجها كلَّ ثمانية عشر ثانية في أمريكا). ومن هنا يدخل أعداء الدين لإظهار فهمٍ مغلوطٍ لمراد الله تعالى في قوله:((واضربوهن))[ النساء34]

أكَّد الإسلام في أكثر من موضعٍ أنَّ المرأة والرجل متساويان في الكرامة الإنسانيَّة، وأنَّ للمرأة من الحقوق وعليها من الواجبات ما يلائم فطرتها وتكوينها، وأنَّ الرّجل والمرأة متكاملان في المسؤوليّات المنوطة بكلٍّ منهما في الشريعة الإسلامية، وقد أعلى الإسلام قدر المرأة فكانت آخر وصايا نبيّنا عليه الصلاة والسلام في حجَّة الوداع: ((استوصُوا بالنساء خيراً)) [رواه ابن ماجه].

زياد الوتار

بقلم: أ.محمد زياد الوتار