ما هي المساواة

مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مربع-
مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مستطيل-

ما هي المساواة؟

ما هي المساواة

والحديث _كما تعلم_ عن المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات.

فما هي المواساة التي يعنيها وينشدها الناس المعجبون بالغرب من رجالٍ ونساء؟

إن كانت المساواة المنشودة لديهم أن يُصبَّ الرجال والنساء في قوالب اجتماعية واحدة، فيتحرَّك الكلُّ بنسقٍ واحد، ويسكنوا في ميقاتٍ وعلى نظامٍ واحد، وتتكافأ فيهم الجسوم والأحجام، وينطلق الكلُّ إلى واجباتٍ محدَّدةٍ واحدة، ثمَّ يتقلَّب الكلُّ في نعيمٍ مكرَّر لحقوقٍ لا تخضع لأيِّ تنوُّعٍ أو تمايز، بحيث تسقط ممَّا بينهم فوارق القدرات والإمكانات، ويظهر الجميع وكأنَّهم أحجارٌ مرصوفة في حجمٍ واحد، وتربيعات واحدة.

أقول:

إن كانت المساواة المنشودة لديهم هي هذه المساواة الآلية الحرفية، فبوسعهم أن ينشدوها ويبحثوا عنها فيما تنتجه المخارط الآلية فقط. أمَّا في عالم الأناسي، فحتى الرجال فيما بينهم، والنساء فيما بينهن، بل حتى الطبقة الواحدة في مجتمع الرجال، والطبقة الواحدة في مجتمع النساء، إنَّما يتساوون، من حيث إنسانيتهم الواحدة، في مبدأ تحمُّل الواجبات ومبدأ ممارسة الحقوق، ثمَّ إنَّهم يتفاوتون في ذلك كلِّه حسب تفاوتهم في القدرات، والملكات، والاختصاص، والإمكانات. فالتساوي المبدئيُّ ناظرٌ إلى وحدة الإنسانية فيما بينهم جميعاً، والتفاوت الطبقيُّ ناظرٌ إلى الحكمة الربَّانية التي اقتضت بعد ذلك أن يتفاوتوا في القدرات، ويتنوعوا في الخصائص والملكات.

فإذا قلنا:

إنَّ المرأة مؤهلةٌ لممارسة الحقوق السياسية، ثُمَّ صنفنا النساء بين صالحاتٍ لهذه الحقوق وغير صالحات، وقسمنا الحقوق ذاتها إلى ما قد تتمكَّن المرأة من ممارسته وممَّا لا تتمكن، فذلك كما لو قلنا: إنَّ الرجل مؤهَّلٌ لممارسة الحقوق السياسية بأنواعها، ثُمَّ صنَّفنا الرجال بين صالحين لممارسة هذه الحقوق أو بعضها، وغير صالحين لذلك.

وإذا قلنا:

إنَّ المرأة مؤهَّلةٌ لأداء الشهادة، ثمَّ اشترطنا لصحَّتها شروطاً أسقطت صلاحية شهادة المرأة في بعض القضايا أو الخصومات؛ فذلك كما لوقلنا: إنَّ الرجل مؤهَّلٌ لأداء الشهادة، ثمَّ اقتضت تلك الشروط ذاتها إسقاط صلاحية كثيرٍ من الرجال _وربَّما كلِّهم في بعض الأصقاع- للشهادة في بعض القضايا والخصومات، بل في جميعها ربما.

إنَّ الملاحظ أنَّ الذكورة أو الأنوثة، لا مدخل لها بحدِّ ذاتها في هذا التصنيف أو الإسقاط.

وإنَّما العامل الوحيد الذي يلعب الدور في ذلك هو العوارض التي تعرض للمرأة أو تعرض للرجل، فيتسبَّب عن ذلك حجب الصلاحية بعد وجودها. 

أمَّا الأهلية الأساسية، فهي موجودةٌ ولا تتأثَّر بالعوارض فقداً أو وجوداً.

إنَّ الجدل الذي يُثيره من ينعتون أنفسهم اليوم بحماة حقوق المرأة بين يدي تبريرهم لاتِّهام الإسلام بهضم حقوقها، وبترسيخ النظرة الدونية إليها، إنَّما يدور على محور الخلط بين الأهلية الواحدة في كلٍّ من الرجل والمرأة، والعوارض المختلفة والمتفاوتة في كلٍّ منهما. وقد غاب عنهم أنَّ الجدل على هذا الأساس يستدعي منهم القول بأنَّ الإسلام هضم حقوق الرجال أيضاً، ووسَّعَ عوامل النظرة الدونية إليهم.

نقول هذا الكلام بهذه الصيغة الإجمالية تمهيداً بين يدي تفصيل القول في جزئيات المسائل التي هي اليوم مثار الجدل في هذا الموضوع، والتي يجعل منها المفتئتون على الإسلام دلائل ناطقة على أنَّ الشريعة الإسلامية لم تساوِ بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وأنَّها حجبت كثيراً من الحقوق المدنية وغيرها عن المرأة، في حين أنَّها متَّعت بها الرجل، ويسَّرت أمامه السبيل إليه واسعاً غير مقيَّد.

لسوف نوضح فيما يلي بإذن الله، أنَّ المساواة المطلقة التي يهتف بها عشَّاق المدنية الغربية، مستعصيةٌ على التطبيق في المجتمعات الإنسانية كلِّها بين سائر الأفراد وعلى مختلف المستويات. ولو تحقَّقت هذه المساواة الحرفية المطلقة، لتفكَّك المجتمع، ولتناثر أفراده على ساحةٍ واسعةٍ ممتدةٍ من التناكر والتدابر، ولاختفت ممَّا بينهم جسور التواصل والتعاون.

ولكنَّنا سنؤكِّد في الوقت ذاته أنَّ المواساة التي متَّع الله بها الإنسان على أساس الأهليات الإنسانية، وقواسم القابليات، والملكات المشتركة، موجودةٌ ومقررةٌ فيما بين الرجال بعضهم مع بعض، وفيما بين النساء بعضهن مع بعض، وفيما بين الرجال والنساء معاً.

إذن فحديثنا الآن سيتناول جملة المسائل التي يكثر الجدل فيها، والتي يحسب بعض الناس أنَّها تدين الشريعة الإسلامية، وتحمل الدليل على أنَّها فضَّلت الرجال على النساء في كثيرٍ من الحقوق، وعلى أنَّها ميَّزتهم في بعض الواجبات.

ولسوف تزداد يقيناً، إن شاء الله، بأنَّ منشأ ما قد تراه مظهراً لهذا التفاضل، في أيٍّ من جزئيات المسائل التي سنعرض لها، إنَّما هو عوارض وعوامل خارجيةٌ طارئةٌ، وليس جوهر الذُّكورة أو الأنوثة، بأيِّ حال. 

وتكون شهادتها هي الأصل

مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مربع
مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مستطيل

وتكون شهادتها هي الأصل!

وتكون شهادتها هي الأصل!

وفي مجال التوارث جعلت شريعة الإسلام نصيب المرأة نصف نصيب الرجل… قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ…} [النساء:۱۱].

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية رواياتٍ منها ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من مرضٍ نزل بي فوجدني لا أعقل شيئاً، فدعا بماءٍ فتوضَّأ منه ثمَّ رشَّ عليَّ منه فأفقت. فقلت: يا رسول الله، ما تأمرني أن أصنع في مالي؟ فنزلت هذه الآية.

 وأخرج أبو داود والترمذي عن جابر أيضا قال: جاءت امرأة سعدٍ بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً، وإنَ عمَّهما أخذ مالهما فلم يترك لهما شيئاً لأنَّ النساء قبل نزول هذه الآية لم يكن لهنَّ نصيبٌ من الميراث، ولا تنكحان إلَّا ولهما مال. فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يقضي الله في ذلك))، فنزلت هذه الآية.

فبعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى عمِّهما فقال له: أعط ابنَتَي سعد الثلثين، ولأمِّهما الثمن، وما بقي فهو لك.

والمعنى: يعهد الله تعالى إليكم ويأمركم أيُّها المؤمنون أمراً مؤكَّداً في شأن ميراث أولادكم من بعد موتكم، أن يكون نصيب الذكر منهم ضعف نصيب الأنثى.

وقد جعل سبحانه نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى بعد أن كانت لا ترث شيئاً قبل الإسلام، لأنَّ التكليفات المالية على المرأة، تقلُّ كثيراً عن التكليفات المالية على الذكر، إذ الرجل مكلَّفٌ بالنفقة على نفسه، وعلى أولاده، وعلى زوجته، وعلى كلِّ من يعولهم، بينما المرأة كما سبق أن بيَّنا نصيبها من الميراث لها خاصَّة لا يشاركها فيه مشارك، اللهمَّ إلَّا على سبيل التبرُّع والمساعدة

لغيرها. وبهذا يتبيَّن مظهرٌ من مظاهر تكريم الإسلام للمرأة، ورعايته لأمرها.

وفي مجال الشهادة، احترمت شريعة الإسلام شهادة المرأة في الشؤون النسوية الخاصة التي لا يعرفها إلَّا النساء، واعتبرتها هي الأصل في ردِّ الحقوق إلى أهلها… وفيما عدا ذلك من الأمور التي تقبل شهادتها فيها كالأموال، جعلت شهادة المرأتين معادلةً لشهادة رجلٍ واحد، ولا تكون الشهادة كاملة الأركان إلَّا إذا شارك فيها الرجال.  

قال تعالى في أطول آيةٍ في القرآن، وهي الآية التي تسمَّى بآية (الدَّين): {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}… [البقرة: ۲۸۲].

 أي: اطلبوا -أيُّها المسلمون- شاهدين عدلين من الرجال، ليشهدوا على ما يجرى بينكم من معاملات، لأنَّ هذا الإشهاد يعطي الديون توثيقاً وتثبيتاً… فإن لم يتيسر رجلان للشهادة، فليشهد رجلٌ وامرأتان ممَّن تثقون بدينهم وخلقهم.

وقد جعلنا المرأتين بدل رجلٍ واحد في الشهادة خشية أن تنسى إحداهما، فتذكِّر كلُّ واحدةٍ منهما الأخرى، إذ المرأة لقوَّة عاطفتها، وشدَّة انفعالها بالحوادث، قد تتوهَّم شيئاً لم يحدث، فكان من الحكمة أن يكون مع المرأة أخرى في الشهادة، بحيث يتذاكران الحقَّ فيما بينهما، فقوله سبحانه: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا}، أي: تنسى إحداهما ((فتذكِّر إحداهما الأخرى))، بيانٌ للحكمة في أنَّ المرأتين تقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة. 

لم حرَّم الإسلام لحوماً معيَّنة

مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مربع
مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مستطيل

لم حرَّم الإسلام لحوماً معيَّنة

لم حرَّم الإسلام لحوماً معيَّنة

بين العباد وربِّهم عقودٌ تتَّصل بحقوقه جلَّ شأنه، أو تتناول علاقة بعضهم ببعض، وقد تتناول علاقاتهم بالكون المسخِّر لهم، والأحياء التي ذلَّلها لمنافعهم…

 وقد أمر المؤمنين برعاية هذه العقود والإحساس بحرمتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}.

 وما يتلى عليهم أربعة أنواع على الإجمال، وعشرةٌ على التفصيل ذكرت في قوله تعالى:

((حُرِّمت عليكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ والمتردية والنطيحة وما أكلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصْبِ)).

 والتحريم مشروعٌ هنا لمصالح الناس، والحفاظ على صحَّتهم، ولا يقال: إنَّ الناس تأكل الخبائث ولا يصيبها ضررٌ ظاهر، أو أنَّ الجماهير تشرب الخمر والدخان والمخدِّرات ويتأخَّر اعتلالها، أو تكون وعكاتها خفيفة، إنَّ هذا الكلام مردود، إذ إنَّ التحقيق العلميَّ أثبت أخطار هذه السموم، وإذا كان البعض ينجو منها فلأسبابٍ غير مطَّردة… والواجب أن تتنزَّه الجماهير عن أكل هذه المحرَّمات، فراراً من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة…

أوَّل هذه المحرَّمات (الميتة) وهي الحيوانات أو الطيور التي تموت حتف أنفها، ويغلب أن يكون هلاكها لمرضٍ باطنٍ بها، وليست الأسماك التي تموت بعد خروجها من الماء من صنف الميتة، بل هي لحمٌ حلال.

 ثمَّ الدم، أي المسفوح الذي يسيل من عروق الذبيحة، لا يجوز تجميعه وطبخه، ولحم الخنزير لقذارته واحتوائه على جراثيم وديدان خبيثة. ولحم الخنزير محظورٌ في الأديان الأولى كما هو واضحٌ في تعاليم العهد القديم.

وما أهلَّ لغير الله به، وهذا تحريمٌ تعبُّديٌّ محض، والمقصود قطع دابر الوثنية وما يمتُّ إليها بصلة، فما ذبح مقترناً باسم صنم أو بأيِّ اسمٍ آخر غير اسم الله حرم أكله، والأصل في الذبح أن يكون باسم الله الذى سخَّر وأباح، قال تعالى: ((فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ))، ((وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)). 

ويرى فريقٌ من الفقهاء أنَّ ذكر الاسم الكريم مستحبٌّ وليس فرضاً، فذكر الله مستكن في قلب كلِّ مسلم وإن لم يجر على لسانه، وإنَّما يوصف المذبوح بأنَّه فسقٌ إذا ذكر عليه غير اسم الله، وقد اعتمد هؤلاء في فهمهم على سننٍ واردة. 

ومن أنواع الميتة المحرَّمة «المنخنقة»: وهي التي شنقت نفسها أو شنقها غيرها بأن لفَّ حبلها حول عنقها حتَّى طاحت. 

و«الموقوذة»: وهى التي ظلَّت تضرب حتَّى هلكت سواءً كان بِـعصاً أو بما أشبه العصا. 

و«المتردية»: وهى التي هوت من مكانٍ عال، أو داخل حفرة، ففقدت حياتها. 

و«النطيحة»: وهى التي ماتت في صراعٍ مع حيوانٍ آخر ظلَّ ينطحها حتَّى أهلكها. 

«وما أكل السَّبُع»: التي عدا عليها وحشٌ مفترسٌ فأعطبها، فإذا أدرك المرء بهيمةً من هذه الخمسة الأخيرة، ولاتزال بها حياة، فذبحها حتَّى سال منها الدم، جاز أكلها، مادام قد رأى أنَّ ذبحه هو الذى أجهز عليها. 

أمَّا «وما ذُبح على النُّصُب»: فهو من قبيل ما أُهلَّ لغير الله به، والنُّصُب: شاخصٌ يُقيمه الناس لمعنىً يتواضعون عليه، كالنُّصُب التذكاري للشهداء، أو للجندي المجهول مثلاً. 

والذبح عند نُصُبٍ قائمٍ أو ضريحٍ يُزار نوعٌ من الوثنية يأباه الإسلام، وتحرم به الذبيحة.

إنَّ الله الذي خلق كلَّ شيءٍ هو الذي سخَّر لبني آدم بعض مخلوقاته: ((وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)) ((اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)).

وللنباتيين رأيٌ في ترك اللحوم كلِّها لا تُقرُّهم الأديان عليه، ولا أعرف شريعةً سماويةً حظرت ذبح الحيوان. 

ومادام الله هو الذي أحلَّ فينبغي التزام الأسلوب الذي قرَّره في الانتفاع بهذه الذبائح، ورفض ما عداه، والمحرَّمات التي أحصيناها هنا تَكرَّر ذكرها في أربعة مواضع من القرآن الكريم عن طريق القصر والحصر، ممَّا يجعلنا نعـدُّ ما ورد من نهيٍ عن أكل غيرها من قبـيل 

الكراهية، وفى ذلك خلافٌ فقهيٌّ معروف.   

وقد أطال صاحب المنار في التعليق على تحريم كلِّ ذي نابٍ من السباع، وكلِّ ذي مخلبٍ من الطير، واقترب من مذهب مالك رضي الله عنه، ولا نُقحم أنفسنا في هذا الميدان، وإنَّما يلفت النظر إلى أنَّ نبيَّ الإسلام عليه الصلاة والسلام قد بُعث بتحليل الطيِّبات وتحريم الخبائث، ونحن نجزم بأنَّ ما نص الشارع على تحريمه فهو من الخبائث. فما الرأي فيما لم يتناوله الكتاب بنصٍّ؟   

يقول الشيخ محمَّد رشيد رضا: «مالا نصَّ في الكتاب على حلِّه أو حرمته قسمان: طيِّبٌ حلال، وخبيثٌ حرام، وهل العبرة في التمييز بينهما ذوق أصحاب الطبائع السليمة، أو يعمل كلُّ أناسٍ بحسب ذوقهم؟ كلٌّ من الوجهين محتمل. 

والموافق لحكمة التحريم الثاني، وهو أنَّه يحرِّم على كلِّ أحدٍ أن يأكل ما تستخبثه نفسه وتعافه، لأنَّه يضرُّه ولا يصلح لتغذيته. ولذلك قال بعض الحكماء: (ما أكلته، وأنت تشتهيه فقد أكلته، وما أكلته وأنت لا تشتهيه فقد أكلك…). 

ونحن نرى أنَّ الاستعانة بعلم «التغذية» وما وصل إليه الأخصَّائيون في علوم الأحياء مطلوب، ولعلَّ ذلك يميز الخبيث من الطيِّب. على أنَّنا نرفض كلَّ احتيالٍ على إهمال النص، فإنَّ الإسلام حرَّم الخنزير مثلاً لوساخته، وحملِ لحمه لمصادر البلاء. 

فإذا جاء اليوم من يقول: إنَّه ربَّى خنازير معيَّنةً على مراعٍ حسنة، واتَّخذ ضماناتٍ لإنقاء لحمها من مصادر العلل، لم نقبل قوله، ولم نستبح الحرام. إنَّ ذلك يشبه ما تزعمه شركات التبغ من أنَّ الفلتر الذي تضعه في سجائرها يمنع القطران من تلويث الرئة فما أغنانا عن هذا كلِّه، وفى الحلال الكثير الميسور ما يغني عن هذه الحيل.

ولا يجوز تعذيب الحيوان عند ذبحه، وأفضل طرق التذكية ما يخفِّف على الحيوان خروج روحه، وقد رأى فقهاؤنا القدامى أن يكون الذبح بقطع الحلقوم والمري والودجين -عرقان على صفحتي العنق- أو أكثر ذلك، لتتمَّ تنقية البدن من الدَّم الكائن فيه. يقول صاحب المنار: (إنَّ هذا التحكُّم في الطبِّ والشرع بغير بيئته، ولو كان الأمر كذلك لما أحلَّ الصيد الذي يأتي به الجارح ميتاً، ثمَّ يقول: “وإنِّي أعتقد أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لو اطَّلع على طريقةٍ للتذكية أسهل على الحيوان، ولا ضرر فيها كالتذكية بالكهربائية إن صحَّ هذا الوصف لفضَّلها على الذبح، لأنَّ قاعدة شريعته أنَّه لا يحرِّم على الناس إلَّا ما فيه ضررٌ لأنفسهم أو لغيرهم من الأحياء)، ولا أعرف الطريقة التي يومئ إليها الشيخ رشيد، وقد عرفت أنَّ مصانع اللحوم البقرية تضرب البهيمة قبل ذبحها ضربةً تخدِّر أعصابها، ثمَّ تقطع الرأس، وتمضي في تهيئة اللحم لآكليه. قد تكون الصدمة التي تذهب بإحساس البهيمة، ولا تذهب بحياتها مشبهةٌ للمخدِّر الذى يتناوله المريض قبل جراحةٍ يُجريها الأطبَّاء، ولا شيء في ذلك بداهة، بيد أنَّ أعداداً من الغربيين والشرقيين يخنقون الطيور، أو يُجهزون على حياتها بوسائل همجيةٍ أقسى من الذبح، وإن كانوا يعيبون الذبح، وذلك ما تأباه الشريعة الإسلامية، وقد عطف القرآن الكريم على الطيِّبات المباحة مثل لحوم الصيد: ((يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعْلَمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمسكن عليْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سریع الحساب))، والصيد كما يكون بالكلاب المدرَّبة، والبزاة، والصقور، يكون بالأسلحة الفاتكة: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيبلُونَكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يخافه بالغيب)). وفي عصرنا هذا اختفت الرماح والسهام لتحلَّ محلَّها الأسلحة النارية التي تقتل الصيد أو تصيبه بجراحٍ مجهدة، وعند إدراكه حيَّاً ينبغي أن يُذبح الذبح الشرعي المعهود، وإلَّا فإنَّ موته بأيِّ أداةٍ من أدوات الصيد السابقة يعتبر ذكاةً له.

وليس الصيد مسلاةً لطلَّاب اللهو وهواة قتل الحيوان، بل هو مصدرٌ من مصادر التغذية التي كان الناس ولا يزالون في بعض البيئات يحتاجون إليها، والصائد يذكر اسم الله عندما يرسل كلبه، أو يطلق رصاصه، وروى ابن جرير: “إذا أرسلت جوارحك فقل باسم الله، وإن نسيت فلا حرج، أي إنَّ عدم الذكر لا يحرم الصيد».

وروى البخاريُّ أنَّ قوماً قالوا: “يا رسول الله، إنَّ قوماً يأتوننا باللحم لا ندري ذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سمُّوا عليه أنتم، وكلوا، قال: وكانوا حديثي عهدٍ بكفر”.

لماذا يستورد المسلمون الذبائح من أنعام وطيور؟ لماذا عجزوا عن تنميتها وتكثيرها في بلادهم؟ هل تربية الأبقار والدجاج تحتاج إلى أخصَّائيين في علوم الذرَّة؟ وعندما تصاب قدرات المسلمين بالشلل في مجال الثروة الزراعية والحيوانية فهل ينتظر لهم تفوُّقٌ أو نجاحٌ في الميادين الأخرى، برَّاً وبحراً وجوَّاً؟

إنَّ الحماس في عالم الجدل مرضٌ عفنٌ إذا صحبه برودٌ في عالم الإنتاج، وقد رأيت التديُّن التقليدي يتَّسم بهذه الخاصَّة المزعجة… قصورٌ في فهم أو في عرض وجهات النظر المختلفة، ثمَّ تراشقٌ بالتُّهَم، وتبادلٌ لسوء الظنِّ، فإذا تطلَّب الإيمان ضرورة اكتفاء الأمَّة بمواردها، واستغنائها عن سواها تبخَّر الحماس، وخلا الميدان. لست من هواة التغلغل في الفروع الفقهية، فإنَّ أصول العقيدة والأخلاق والتشريع تهمُّني وتستغرق وقتي، وما أنظر في الأمور الفرعية إلَّا بمقدار ما أجمع به الشمل، وأمنع الفرقة، وأقصى المتزمِّتين والمعلولين عن أماكن الصدارة.

إنَّ حاجة المسلمين إلى القمح لصنع الرغيف، أو إلى الدواء لعلاج العلل، أو إلى اللحوم ميتةً أو حيَّةً شيء في نظري يهدِّد عقائدهم ذاتها، ويجعلهم يعيشون عالةً على أهل الأرض.

فهل نوجِّه قدرتنا على الكلام والاعتراض إلى عملٍ إيجابيٍّ؟ أم تبقى مهمَّة بعض المتديِّنين الطعن في الدواء؛ لأنَّه ذائبٌ في الكحول ونرفض اللحم المستورد لأنَّ ذكاءه موضع ريبة؟ ثمَّ ينتهي دورهم، إنَّني أقدِّر النيَّة الحسنة لكلِّ من شارك في هذا البحث، ولكنَّ الطريق لمَّا يُمهَّد بعد لعملٍ جادٍّ تتحرَّك به أُمَّةٌ كسول. 

الخالق العظيم

مصطفى محمود

الخالق العظيم

Loading

الخالق العظيم

هل سأل أحدكم نفسه عن كمية السباكة داخل جسمه! مجموع المواسير داخل العمارة التي هي بدنُه! بما فيه من آلاف الوصلات والمجاري التي يجرى فيها الدم، والبول، والطعام، والفضلات، وعوادم التنفس، والهضم؟

هل يعلم أنَّ طول مواسير الدم في جسمه تبلغ وحدها ثمانية آلاف ميل، أي أطول بكثيرٍ من المسافة بين القاهرة والخرطوم، مواسير أكثر ليونةً من “الكاوتشوك“، وأكثر متانةً من الحديد، وأطول عمراً من الصلب الكروم، وفى بعضها صمَّاماتٌ لا تسمح بالسير إلَّا في اتِّجاهٍ واحد.

ثمَّ مواسير الهواء ابتداءً من فتحة الأنف، إلى الحلق، إلى القصبة الهوائية، إلى الشُعَب، ثمَّ الشُّعيبات التي تتفرَّع وتتفرَّع، وتنقسم حتَّى

تصل إلى أكثر من مليون غرفةٍ هوائيةٍ في الرئتين. ثمَّ مواسير البول التي تجمع البول من الكليتين لتصبَّ في الحوض، ثمَّ الحالب، ثمَّ المثانة، ثمَّ قناة الصرف النهائية، ثمَّ مواسير الطعام من الفم إلى البلعوم، إلى المعدة، إلى الاثنا عشر، إلى الأمعاء الدقيقة، ثمَّ مواسير الفضلات من المصران الصاعد، إلى المستعرض، إلى الهابط، إلى المستقيم، إلى الشرج.

ثمَّ ممرَّات الولادة، وغُرفها، ودهاليزها، وأنابيبها، ثمَّ مجاري المرارة، وحوصلتها، ومواسيرها، ثمَّ مجاري اللمف، ومواقف اللمف، ومحطَّاته في الغدد اللمفية. وهي مواسير تمرُّ إلى جوارها الفضلات، وتحميها شبكةٌ من الأوعية الدموية والأعصاب، وجيوشٌ من خلايا المقاومة تلتهم أيَّ ميكروب يمكن أن يتسرَّب من هذه المواسير في طريقٍ خاطئٍ إلى الجسم. وأنابيب العرق، وبلايين منها تشقُّ الجلد، وتفتح على سطحه لترطِّبه، وتبرِّده بالعرق، وأنابيب الدموع داخل حدقة العين تغسل العين، وتجلوها، وأنابيب التشحيم داخل جفن العين، تفرز المواد الزيتية لتعطي العين تلك اللمعة الساحرة.

هذا الكمُّ الهائل من السباكة الفنّية الدقيقة المعجزة التي نعيش مئة سنةٍ ولا تتلف. وإذا أصابها التلف أصلحت نفسها بنفسها 

نموذجٌ من الهندسة الإلهية العظيمة أهداها الله للإنسان منحةً مجَّانيةً منذ ميلاده، وتولَّى صيانتها برمّته وعنايته. 

فهل أدركنا هذه النعمة؟ وهل قدرناها حقَّ قدرها.  

كثيرٌ من الأمراض سببها أعطالٌ وتلفياتٌ في هذه السباكة. الإسهال والإمساك والغازات وتطبُّل البطن، هي أعطال، وتلفياتٌ في أنابيب صرف الفضلات. والزكام انسدادٌ في منافذ الهواء داخل الأنف. والناسور هو ثقبٌ في ماسورة الإخراج. 

واحتباس البول، والمغص الكلوي، وآلام الكلى، سببها أعطالٌ في أنابيب صرف البول. 

إنَّ تركيبات «الصحي» في جسمك هي التي تصنع لك صحَّتك بالفعل، بل هي صحَّتك ذاتها. إنَّ أيَّ انقباضٍ في 

ماسورةٍ معويةٍ يساوي صرخة مغص، وأيَّ ضيقٍ في شريان القلب التاجي يساوى ذبحه، وأيَّ ضيقٍ في ممرَّات الولادة 

يساوى إجهاضاً، وأيَّ انسدادٍ في قنوات فالوب يساوى عقماً، وأيَّ انسدادٍ في مجارى المرارة يساوى صفراء. 

هذا غير مجارى اللمف والدم والغدد، وهى تتنوَّع في الجسم بالآلاف، ولكلِّ غدَّةٍ توصيلاتها، وقنواتها، ونظامها، ودورها في

صناعة الصحَّة التي نتمتَّع بها دون أن ندري أنَّها عمليةٌ تركيبيةٌ معقَّدةٌ تشترك فيها مئات الأجهزة . 

إنَّ الصحَّة التي نشعر أنَّها مجرد استطراد أمرٍ عاديٍّ واقع، ليست بالمرَّة أمراً عادياً، وليست مجرَّد واقعٍ مألوف، وإنَّما هي نتيجة تدبيرٍ محكمٍ، وثمرة عمليَّاتٍ معقَّدةٍ مرسومةٍ بعنايةٍ وقصد. 

وإنَّما يحدث المرض حينما تتخلَّف هذه العناية _وهي قلَّما تتخلَّف_ فإذا تخلَّفت فلتشرح لنا أسرارها، فما عرفنا معجزة 

الصحَّة إلَّا بدراسة المرض، وما عرفنا معجزة الحياة إلَّا بالموت، وبأضدادها عُرفت الأشياء. 

وفي محاولاتنا البدائية في بيوتنا وعمارتنا التي نبنيها وهى مجرَّد ماكيناتٍ رمزيةٍ صغيرةٍ لاتصل إلى واحد في المليون من العمارة 

البشرية، غرقنا في «شبر ميَّة»، طفحت مجارى القاهرة، وتلوَّث البحر بعوادم المصانع، واختنق النيل بالفضلات التي 

تلقى فيه، ووقفنا أمام السيفون التالف ننادي على سبَّاك، واختلط الساخن بالبارد، والطاهر بالملوَّث، وفشلنا في صناعة أصغر “ماكيت” سباكة لا تزيد  مواسيره عن بضعة أمتار، وغرقنا في بانيو نصف متر. 

وهذه صناعتنا، وهذه صناعته!  

وهذه سباكتنا، وتلك سباكته! 

وهذه عمارتنا، وتلك عمارته! 

وهذا خلقنا، وذاك خلقه! 

فتبارك الله أحسن الخالقين.

ويتحدَّانا الله بصنعته المبهرة، وآياته الخالدة في عماره البشري:

((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ))  

حقيقة العبادة

مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مربع

حقيقة العبادة

Loading

حقيقة العبادة

لا يمكن بحث «السلوك» مع تجاهل الأسباب التي أدَّت إليه، أو العوامل التي تمخضت عنه، وعلماء الأخلاق في شرحهم لـ«السلوك» يفيضون في بحث الوراثة والبيئة، والمقاصد والغايات وما أشبه ذلك، وليس هذا ما نعتني به هنا. 

إنَّ السلوك -من الناحية النفسية– أثر المظهر الثالث من مظاهر الشعور في الإنسان الحي، ومظاهر الشعور كما حدَّدها علم النفس هي الإدراك، والوجدان، والنزوع.

فإذا أردت التعرُّف على نزعةٍ من النزعات، والإحاطة بشُعب العمل الذي يصحبها فيجب أن تعرف مظاهر الشعور التي تسبقها، حتى تبني علمك على قواعد سليمة. 

والذين ينظرون إلى العبادات المختلفة على أنَّها أعمالٌ لا وحدة فيها، ولا رباط بينها، أو أنَّها تكاليف ينهض إليها المرء راضياً أو كارهاً، أو سلعَ يشتريها الخادم من السوق ويدفع بها إلى السيد الذي يطالب بها، الذين ينظرون إلى العبادات هذه النظرة هم قومٌ يجهلون الدِّين جهلاً مطبقا، وكثيرٌ من العابدين يباشرون الطاعات المعروفة كأنَّها استعاراتٌ من خارج الجوِّ الذي يعيشون فيه، استعاراتٌ مجلوبةٌ على النفوس فارغة من معناها كلِّه أو جلِّه. والحقُّ أنَّ للعبادة التي أمر الله بها وخلق العالمين من أجلها شأنٌ فوق ذلك، إنَّها شعورٌ مكتمل العناصر، يبدأ بالمعرفة العقلية، ثمَّ بالانفعال الوجداني، ثمَّ بالنزوع السلوكي، فالصورة الأخيرة ثمرة ما قبلها. 

وهذا هو الوضع الصحيح لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإحسان الخلق، وقول الحقّ، وسائر العبادات الأخرى.  

إنَّ العبادة الأولى في الإسلام، هي معرفة الله معرفةً صحيحةً، والعقل المستنير بهذه المعرفة هو القائد الواعي لكلِّ سلوكٍ صحيحٍ والأساس المكين لكلِّ معاملةٍ متقبَّلة، ويوم تتلاشى هذه المعرفة من لبِّ الإنسان، فلن يصحَّ له دين، ولن تقوم له فضيلة. 

والمعرفة الصحيحة لله تهون من قمَّة الأخطاء التي يتورَّط فيها المرء، لأنَّها أخطاء عارضة، أو خدوش سطحية. أمَّا الجهل بالله فهو الخطيئة التي لا تغتفر، ولا يصحُّ معها عمل، ومن ثمَّ يقول الله في كتبه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}، ذلك أنَّ الشرك دلالة جهلٍ غليظٍ بالله عزَّ وجلَّ.

وهل أحمق من رجلٍ يسكن عمارةً ضخمةً، فإذا هو يتوهَّم أنَّ سلال القمامة المبعثرة فيها هي التي قامت على بنائها؟ 

أليس هذا مثل الوثنية المخرفة التي تردُّ مظاهر الوجود الكبرى إلى بعض الجماد، أو الحيوان، أو الإنسان؟ 

والمعرفة المعتبرة، هي التي تستمدُّ من ينابيعها الفريدة، أي من أعمال الله وأقواله، أي من صنعه في كونه، أو من كلمة في وحيه، وليست هناك معرفة وراء ذلك. 

لا يمكن أن يعتبر عارفاً بربِّه شعب أبله، يعيش بين الأرض والسماء، فلا يعي من آيات الخليفة شيئاً، ولا يكتشف لأسرارها حلَّاً. 

مع أنَّ الله فيما أوحى به إلى رسله بيَّن أنَّ الإيمان الحقَّ إنَّما يقوم على التدبُّر الذكيِّ لهذا العالم، والتجوال البعيد في آفاقه الرحبة. 

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (*) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.  

والتفكُّر الباعث على معرفة الله، هو سرُّ توقيره، وأساس تقواه، ولذلك يقول أولئك المفكِّرون الفاقهون:{سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. إنَّ أولي الألباب هم الذين فكَّروا في خلق الله، فاستفادوا في هذا التفكير خشيته، وطلبوا الوقاية من سخطه. فالتقوى إذن ليست وليدة بلادةٍ في الذهن، أو قصورٍ في الفكر، كلَّا، إنَّها وليدة الإدراك الناضج للحياة وما فيها. وهذا معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.

التوسُّع في معرفة الله هو العادة الأولى، والتعرُّف على الله في ملكوته الواسع هو استجابةٌ لما أمر به في كتبه المنزلة، والنتائج التي تتمخَّض عنها علوم المادة لا يمكن إلَّا أن تصادق الوحي المقبل من وراء المادة لأنَّ هذا وذاك من عند الله. وما يتوهَّمه القاصرون من تفاوتٍ أو تناقضٍ بين الدِّين والعلم ليس إلَّا خرافةً صغيرة، خرافة نشأت عن أخطاء المشتغلين بالعلم والدِّين جميعاً. وقد قرأت للعلماء المتوافرين على الدراسات الكونية تصحيحاتٍ لبقة لأخطاء زملائهم العاملين معهم في هذا الميدان، والذين أساؤوا للدِّين عن عمد، أو عن تهور. وأستطيع في دائرة المشتغلين بالدراسات الدينية أن أوضح موقف الإسلام من العلم المادي، فأؤكِّد أنَّ بحوثه وكشوفه هي المقدِّمات العتيدة لليقين الحقّ، وأنَّها الأسلوب الوحيد الذي ارتضاه القرآن لمعرفة الله، وأنَّ إهمال هذا اللون الخطير من المعرفة كان أبرز المعاصي التي أساءت إلى الحضارة الإسلامية، بل إنَّ المسلمين بهذا الإهمال ظلموا أنفسهم ودينهم أفدح الظلم. 

لو أنَّ المسلمين الأوائل -بدل أن يشتغلوا بفلسفات الإغريق النظرية- انساقوا مع تيَّار دينهم في البحث الكوني المجرَّد، ولكان ذلك أجدى عليهم وعلى الناس.

إنَّ الرجل لا يسمَّى عالماً بالدِّين، إلَّا إذا كان فقيهاً فيما أنزل الله، ولا يعتبر عالماً بما أنزل الله إلَّا إذا نفذ إلى قليلٍ أو كثيرٍ من معارف الكون، وعلى قدر معرفته بالحياة والأحياء تكون معرفته وخشيته لله ربِّ العالمين. هذه المعرفة إن لم تكن الفضيلة بعينها، فهي هادي السلوك الفاضل وحاديه، إذ المفروض فيها أنَّها تصنع الإنسان صناعةً خاصَّةً، وترقى بعمله كما ارتقت بفكرة إلى أوجٍ رفيعٍ.

من عرف الخالق والخليقة وجب عليه أن ينشد الكمال في عملٍ يؤدِّيه، وأن يتوقَّى العثار في كلِّ لحظةٍ يحياها. والإسلام يوجب على كلِّ داخلٍ فيه أن يُصلح عمله، وهذا العمل الصالح  المرتقب من المسلم ليس له نطاقٌ يحدُّه. فالعموم المطلق مقصودٌ في عشرات الآيات التي تجعل (عمل الصالحات) ضميمةً لابدَّ منها مع الإيمان الصحيح. 

الإعجاز اللغوي

غلاف الدكتور شوقي أبو خليل

الإعجاز اللغوي

Loading

الإعجاز اللغوي

يقول علماء العربية:

القرآن الكريم في أعلى درجات الفصاحة في آيــاتـه وسوره كلِّها، وعلى اختلاف المعاني التي جاءت في هذه السور والآيات، ومعلومٌ في تاريخ الأدب العربي أنَّ لكلِّ شاعرٍ من شعراء العربية ضرباً من المعاني هو عليه أقدر، وبيانه عنه أعلى، ولهم في هذا أقوال في طائفة الشُّعراء جرى بعضها مجرى الأمثال، وقالوا:

أشعر الناس امرؤ القيس إذا رَكِب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وزهير إذا رغب.

وهكذا أنت في كلِّ شاعرٍ استغرقه ضربٌ من المعاني، وامتازت عبارته عنه ضرباً من الامتياز ، إلَّا كتاب الله.

قال تعالى في الترغيب: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخفِيَ لَهُم مِن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة۱۷/۳۲].

وفي الترهيب: ﴿ وَاستَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنيد مِن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى من ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجرِّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسيغُهُ ويأتيه المَوْتُ مِن كُلِّ مكانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتِ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ[إبراهيم:14-17]، فالبلاغة في الترغيب، كالبلاغة في الترهيب. ومثالٌ آخر: ﴿قَال لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَد قَدَّمتُ إليكم بالوعيد مَا يُبَدَّلُ القَولُ لدي وما أنا بظلام للعبيد يَوْمَ تَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَل امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَزيد﴾ [ق:٢٨/٥٠ -٣٠] ، هذا ترهيب، بعده مباشرةً ترغيب:

﴿وَأُزلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غير بَعِيدٍ هذا ما توعدون لكُلِّ أواب حفيظ مَن خَشِيَ الرَّحمن بالغيب وَجَاءَ بِقَلْبِ مُنيب ادخُلُوها بسلامٍ ذلك يوم الخلودِ، لَهُم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد} [ق:٢١/٥٠ -٣٥].

الأسلوب البلاغيُّ لم يتغيَّر، والزجر والوعظ أيضاً، بمستوىً رفيعٍ لا مثيل له. وللقرآن موسيقاه الخاصَّة به، ونغمته المتميِّزة، ووقعه الخاص، مع أسلوبٍ غريبٍ في المطالع والمقاطع والفواصل، والعرب -أصحاب اللغة- أدرى به، ويتراءى لقارئه من خلال آياته ذاتٌ إلهيةٌ عادلة، حكيـمةٌ، جبَّارة، خالقة، بارئة، مصوّرة، لا تضعف في مواطن الرحمة.

والقرآن ليس بنثر، كما أنَّه ليس بشعر، إنَّه قرآن. ليس نثراً لأنَّ له قيوده الخاصة، ولا توجد بغيره، وليس شعراً لأنَّه غير مقيَّدٍ بقيود الشعر وتفعيلاته، لذلك سلّمت العرب ببلاغته وفصاحته، ويذكر هنا أنَّه بعد انتهاء حروب الرّدة، قدم وفدٌ من بني حنيفة إلى المدينة المنورة، فقال أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه لأفراد الوفد: أسمعـونـا شيئاً من قرآن مسيلمة، فقالوا: أوَ تُعفينا يا خليفة رسول الله؟ فقال: لا بدَّ من ذلك، فقالوا: كان يقول: يا ضفدع بنت ضفدعين، لحسن ما تنقنقين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، امكثي في الأرض حتى يأتيك الخفاش بالخبر اليقين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصفها، ولكنَّ قريشاً قوم يعتدون. [الاكتفاء ٢ /١٦، الكامل في التاريخ ٢٤٤/٢، البداية والنهاية ٣٢٦/٦، الطبري ٢٨٤/٣] .

وكان يقول: والمبذِّرات زَرْعاً، والحاصدات حَصْداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والخـابزات خُبزاً، والثَّاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، إهالة وسمنا…

فاسترجع أبو بكر رضي الله عنه، أي قال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ثمَّ قال: ويحكم، أيُّ كلامٍ هذا.

لقد استرجع أبو بكر رضي الله عنه، إذن هنالك وفاة، من مات؟ لقد مات ذوقهم الأدبي، وماتت فصاحتهم، لذلك قال: « ويحكم أيُّ كلامٍ هذا؟!».

وبعد هذا كلِّه، أقدِّم لسيادتك لمحاتٍ من الإعجاز اللُّغوي:

  1. من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى أنَّه (غفورٌ رحيم)، وقد وردت هـاتـان الصفتان في القرآن الكريم كثيراً على هذا الترتيب، بتقديم كلمة (غفور) على كلمة (رحيم)، مثل:{فَمَنِ اضْطَرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثمَ عليه إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ[البقرة:۱۷۳/۲].
    ﴿فإنِ انتَهَوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحيم﴾: [البقرة: ١٩٢/٢ ]. ﴿نَبِّئ عِبادِي أَنِّي أنا الغَفُورُ الرَّحيم﴾: [الحجر: ١٥/٤٩]
    ﴿إلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولئكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رحيماً [الفرقان:٧٠/٢٥].
    ﴿وإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحصُوهَا إِنَّ اللهَ لغَفُورٌ رحيم[النحل: ١٨/١٦].
    إلَّا في سورة سبأ: ﴿يَعْلَمُ ما يَلجُ في الأَرض وما يخرج منها وما ينزل من السَّماءِ وما يعرج فيها وهو الرَّحيمُ الغَفُور﴾، فتقدَّمت (الرَّحيم) على كلمة (الغفور) خلافاً للمألوف في جميع السُّور الأخرى، فما السرُّ والحكمة في ذلك؟
    بدأت الآية  بـ(يعلم)، وانتهت بقوله تعالى: ﴿وَهُو الرَّحيمُ الغَفُور}، فتقدَّمت كلمة (الرّحيم) على كلمة (الغفور) لتقترن الرحمة بالعلم، انسجاماً مع ربط الرحمة بالعلم، وإلَّا انقلب (العلم) إلى وحشيةٍ وظلمٍ وفسادٍ وضياع: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ رحمةً وعلماً [غافر: ٧/٤٠]، ﴿ولقد جئناكم بكتابٍ فصَّلناهُ على علمٍ هدىً ورحمةً لقومٍ يؤمنون[الأعراف٥٢]، وهكذا ربطت الآيات بين العلم والرحمة، وإن لم يكن العلم رحمـةً قـاد العلم العالم للتدمير لا للتعمير، العلم بلا رحمـةٍ قـنـابـل، دمار، خراب، قتل جماعي، لقد اقترن العلم
    في الإسلام بالرحمة.

  2.  كلمتا (الأموال) و(الأنفس) إذا اجتمعتا في آيةٍ واحدة، تقدَّمت الأموال على كلمة الأنفس:
    {لَتُبْلَوُنَّ في أموالِكُم وَأَنْفُسَكُم[آل عمران:١٨٦/٣].{وتجاهِدونَ في سبيل الله بأموالِكُم وَأَنفُسِكُم[الصف11]
    {فَضَّل الله المجاهدينَ بِأمْوالِهِم وَأَنفُسِهِم عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً [النساء:٩٥/٤]، فالإنسان يقدِّم ماله، ويبذله رخيصاً ليحمي نفسه، فتقدَّم ذكر المال. أمَّا في سورة التوبة، فقد ورد: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنينَ أَنفُسَهُم وأموالَهُم بأنَّ لهمُ الجَنَّة﴾ خلافاً للمألوف المعتاد في كتاب الله تعالى، فما السرُّ؟
    إنَّ ثمرة الجهاد في الآخرة هي الجنَّة، والنفوس هي التي ستدخل الجنة وتتمتَّع بها لا الأموال، لذا وردت كلمة الجنَّة هنا كعرضٍ يقدَّم للمجاهدين بعد أن قدَّموا الأنفس والأموال في سبيل الله: {بأنَّ لهم الجنَّة}، فناسب أن تتقدَّم كلمة (الأنفس) على كلمة (الأموال)، لأنَّ الأنفس أغلى من الأموال، وهي التي ستنعم بالجنَّة الموعود بها في هذه الصفقة الرابحة بين الله وعباده، التي وردت بلفظ: {اشترى}، والإنسان في البيع والشراء يحرص على الأفضل، والأغلى، والأكثر ربحاً، فإذا جاد الإنسان بنفسه، ولم يضنَّ بها في سبيل الله، استحق أن يفوز بسلعة الله الغالية وهي الجنَّة.
  3. (الفاء) تفيد الترتيب مع التَّعقيب: ﴿وَجاءَ إخوةُ يوسفَ فَدَخَلُوا عليهِ فعرفهم وهم له منكرون [يوسف: ۵۸/۱۲]، (فالفاء) هنا تشعرنا أنَّه لا حارس، ولا حاجب على باب يوسف، فقد دخلوا عليه فور وصولهم، وعرفهم فور دخولهم، كلُّ ذلك من مجرَّد إيراد حرف (الفاء).
    (ثم) تفيد الترتيب مع التراخي، أي مع امتداد الزمن: ﴿يا أَيُّها الناسُ إن كنتم في ريبٍ من البعثِ فإنَّا خلقناكم من ترابٍ ثمَّ منْ نطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مُخَلَّقة وغيرِ مُخلَّقةٍ[الحج: ٥/۲۲]، فبين مرحلة النطفة والعلقة أربعون يوماً، وبين مرحلة العلقة والمضغة أربعون يوماً (ثمَّ) دلَّت على هذا (الترتيب) مـع هـذا (التراخي) في الزمن.
  4. {ولا تخاطبني في الذينَ ظَلَمُوا إنَّهم مُغْرَقون[هود: ۳۷/۱۱]، [والمؤمنون: ۲۷/۲۳]. قال الكوفيون: إنَّ حرف الجر (في) تضمَّن معنى (الباء)، والمراد لا تخاطبني بحديث الذين ظلموا لأنَّني قضيت فيهم بحكمي عليهم أن أُهلكهم فأغرقهم جزاءً لكفرهم وعنادهم. وقال البصريون: إنَّ فعل تخاطبني قد تضمَّن معنى تراجعني، وفعل راجع يتطلَّب حرف الجر (في)، والمراد: ولا تراجعني في الذين ظلموا، فتطلب مني العفو عنهم، ولو كان ولدك منهم، فقد حقَّ القول عليهم أن يغرقوا لإصرارهم على الكفر والطغيان.
  5. {إنَّ الأبرار يشرَبُونَ من كأسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كافُوراً عَيْنا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرونها تفجيراً} [الإنسان6]. وفي المطفِّفين: ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقرَّبون}.
    {عَيْناً يَشْربُ بهَا}، فعل يشرب يتضمَّن هنا يرتوي ويلتذُّ، وهذه الأفعال تتطلَّب حرف الجرِّ (الباء)، فأخذت ما يناسبها، والمراد يشربون مرتويين ومتلذذين بها، فليس المقصود مجرَّد الشرب، بل المقصود التلذُّذ والارتواء دون أذىً أو إرهاق.
  6. ﴿يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور[الشورى٤٩].
    كلمة إناث قبل كلمة الذكور جبراً لخاطر الإناث، وليحبِّب الوالدين بهنَّ، وقدَّم الإناث على الذكور لأنَّ العرب كانوا يستاؤون من الإناث، وجاء الإسلام لينقذ الأنثى من هذا الموقف غير السليم، فقدَّم الإناث على الذكور، فلا تشاؤم بهنَّ، إنَّهنَّ هبة الله. لقد قدَّم الإناث في مجتمعٍ كان يكره الإناث.
  7. ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلَ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجِنَّةِ الَّتي كُنتُم تُوعَدُون[فصلت: ٣٠/٤١]
    (تَتَنَزَّلُ) لا تنزَّل، إنَّ تشديد الزَّاي يدلُّ على أنَّ الملائكة تنزل على المؤمنين مرّةً بعد مرَّة.
    وفي سورة الحجِّ: ﴿وليـوفـوا نـذورهم وليطَّوَّفوا بالبيت العتيق﴾، وليَطوَّفوا، لا يَطُوفُوا، فالتشديد في (وليطوَّفوا) يُفيد أنَّ المراد أكثر من شوط. وفي سورة المائدة٧٥: ﴿وإن كُنتُم جُنُباً فَاطَّهَّرُوا﴾، والتشديد في ﴿فاطَّهروا﴾ دليل المبالغة في التطهُّر.
  8. وفي سورة التوبة: ٤٧، بحقِّ المنافقين: ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلَّا خبـالاً﴾.
    لو خرجوا فيكم، لا خرجوا معكم، لأنَّ (معكم) هنا تفيد التكريم بهذه المعية، بينما المراد هنا أنَّهم مندسُّون منافقون، فجاء النَّص (ولو خرجوا فيكم): فأعطت (فيكم) المعنى المراد والمناسب للمنافقين.
  9. ﴿وَإن طائفتانِ مِنَ المؤمنين اقتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بينهما[الحجرات:٩/٤٩]، طائفتان: مثنى، اقتتلوا: جمع بينهما مثنى، فلم يُرد (اقتتلتا) لتبقى الآية كلَّها مثنى، لماذا؟ عند التحام الطائفتين تصبحان (جمعاً) من الأفراد المتقاتلين، فجاءت(اقتتلوا)، فإذا مالوا إلى الصلح وكفُّوا أيديهم، عادوا طائفتين (مثنى).
  10. ﴿ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أشياءهم﴾ [الأعراف85 وهود85، الشعراء183]. (أشياءهم)، لا حقوقهم، لأنَّ حقوقهم تشمل النـاحيـة المــاديــة، بينما (أشياءهم) تشمل الناحيتين المادية والمعنوية معاً.
  11.  تقول قاعدة في اللغة العربية: كلُّ صفةٍ اختصَّت بها للمرأة تذكَّر ولا تؤنَّث، لذلك تقول: هذه امرأة حامل، مُرضع، حائض، ثَيِّب، بينما في سورة الحج: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرضعت}، لا كلُّ مرضع، لم يُرد هنا الصفة، إنَّما أراد (الفعل)، أي المرأة التي ثديها في فم طفلها، التي تحنو عليه في حجرها، هذه تذهل عن طفلها عند زلزلة الساعة.
  12. ﴿ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جَعَلَ الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً[النساء:٥/٤]، (فيها)، لا (منها)، لأنّ منها تعني أكلها ونقصها، وبالتالي نهايتها، أمَّا (فيها) فتعني من تثميرها، ومن ريعها وأرباحها.

الإعجاز اللغوي فيه الكثير الكثير، نكتفي بما سبق، لننتقل إلى إعجازٍ من نوعٍ آخر، ولكنَّنا نذكِّر بآيتين كريمتين: ﴿أَمْ يَقُولون افتراهُ قُل فأتُوا بِسُورَةٍ مثلِهِ[يونس:٣٨/١٠]، وفي الطور: ﴿أم يقولونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُون فليأتوا بحديثٍ مثلِهِ إنْ كانُوا صَادِقين﴾.

لقد سكت العرب عن المعارضة ، وقد صكَّ التحدي أسماعهم بإلحاحٍ وشدَّة.

إنَّ القوم قد أدركوا مفارقة نظم القرآن الكريم لما ألفوه من وجوه نظمهم في بلاغاتهم، وأحسُّوا بعجزهم التام عن الإتيان بمثله، أو بسورةٍ واحدةٍ من مثله، فسكتوا إيثاراً للسلامة: ﴿فَإن لم تفعلوا وَلَن تَفْعَلُوا فاتَّقوا النَّارَ التي وقـودهـا النَّاسُ والحجارة[البقرة:٢٤/٢].

إلى أي مدى يمكن أن نقتبس من هذه الحضارة المعاصرة

مع رجالات خوار -محمد الغزالي- غلاف
مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مستطيل

إلى أيِّ مدىً يمكن أن نقتبسَ من هذه الحضارة المعاصرة؟

إلى أيِّ مدىً يمكن أن نقتبسَ من

هذه الحضارة المعاصرة؟

كان رجال التعليم والتربية في اليابان أيقاظاً عندما اتَّصلت بلادهم بأوروبا في القرن الماضي، أو قل: كان حرَّاس التقاليد الموروثة صاحين عندما قرَّرت اليابان الاستفادة من التفوُّق الصناعي الغربي، فقد أعدُّوا لكلِّ جديدٍ يُقتبس مكانه فوق أرضهم، ومساحته المادية والأدبية التي لا يعدوها، وهيمنوا ببصرٍ حادٍّ على الآثار المتوقَّعة حتَّى لا تفلت من أيديهم، أو تتحرَّك بعيداً عن خُططهم المرسومة. 

ومع التزام هذا الخطِّ الصارم بقيت الشخصية اليابانية محفوظة السمات ثابتة الملامح، فانتقلت الصناعات الغربية إلى اليابان، ولم يتحوَّل اليابانيون إلى أوروبيين في عقائدهم أو لغتهم أو آدابهم وأخلاقهم. 

إنَّهم فعلوا ولم ينفعلوا وقادوا ولم ينقادوا. 

وكانت هناك أديانٌ بينها فجوات، البوذية من ناحية، والشنتوية من ناحية أخرى…  والأتباع المخلصون تقتسَّمهم وجهات نظرٍ شتَّى، ومذاهب فقهيةٌ كثيرةٌ إن صحَّ التعبير. 

بيـد أنَّ لوناً من المعايشة السلمية فرض نفسه على الجميع؛ فإذا اليـابانيـون كلُّهم دون حساسياتٍ دينية يتعاونون على إنهاض بلدهم ورفع لوائه، وتمَّ لهم ما أرادوا… 

إنَّ للنَّجاح الحقيقيِّ أساساً لا يتغيَّر هو النفس الإنسانية، فإذا استقرَّ هذا المهاد لم  يبق شيءٌ ذو بال، وقد كان محمَّدٌ  e أعرف إنسانٍ بهذه الحقيقة، فاتَّجهت جهوده كلُّها قبل أيِّ شيءٍ إلى داخل الإنسان تصوغه وتضبطه وتطمئنُّ إلى قراره ومساره، وهو يعرف أنَّ هذا الإنسان سوف يفرض نفسه على بيئته يوماً عندما تنزاح العوائق من أمامه… 

ولم يحاول قط الاصطدام بالأسوار الخارجية قبل استكمال هذا الداخل المهم… 

ومن ثمَّ ترك الأصنام منصوبةً حول الكعبة عشرين سنة، لم يُهشِّم واحداً منها في معركةٍ طائشة، بل الثابت في سيرته أنَّه طاف في عمرةٍ في السنة السابقة حول الكعبة والأصنامُ جاثمةٌ حولها، وفى الأوضاع التي كانت عليها من بدء الدعوة …

أكان ذلك بُقيى عليها، أو توقيراً لها؟ … كلَّا… لقد كان يعلم أنَّ لها أجلاً لا ريب فيه، وأنَّها عن قريبٍ أو بعيدٍ ستتحوَّل جُذاذاً. 

ومن الذى يقوم بهذا التحويل الحاسم؟ الرجال الذين استناروا من الداخل،  وتربَّوا على التوحيد الحقّ… 

لقد عرفوا أنَّ الذباب أقوى من هذه الأصنام، وأنَّها لا تثبت في معركةٍ معه… 

ألم يتلوا قوله تعالى: ((يا أيُّها الناسُ ضُربَ مثلٌ فاستمعوا لهُ إنَّ الذينَ تدعونَ منْ دونِ اللهِ لنْ يخلقُوا ذباباً ولو اجتمعوا لهُ وإنْ يسلبهُمُ الذُّبابُ شيئاً لا يستنقـذوهُ منهُ ضَعُفَ الطالبُ  والمطلوبُ)).

فليتربَّصوا بهذه الأصنام يوماً لا ريب فيه دون استعجالٍ، وليهتمُّوا بداخلهم يتعهَّدونه فهو الوجود الآتي مع الغد… 

ويتساءل أناس: ما هذا التعهُّد الشاغل المهم؟ ونقول : هو تعهُّد الوعي ليكون صحيحاً، والباطن ليكون نظيفاً، والخلق ليكون عظيماً، والإخاء ليكون وثيقاً، والهدف ليكون واضحاً… فالأمم لا تبنى بالصور وإنَّما تُبنى بالحقائق… 

إنَّ المنافقين أحسن الناس للمراسم، وقلوبهم هواء… أمَّا المؤمنون فـإنَّ نضج نفوسهم، وزكاة سرائرهم، هما سرُّ عظمتهم، وسرُّ مآل الأمور إليهم. 

ولا يُعرف في تاريخ الهداة رجلٌ مثل محمَّدٍ e أحسن صوغ النفوس وإيقاظ ملكاتها وإدارتها بأعظم ما فيها من طاقة، وجعلها تدفع ولا تندفع، وتؤثِّر ولا تتأثَّر… 

فهل نحن الدعاة المنتمين إليه نفهم هذا المنهج، ونلتزم منطقه؟؟… إنَّ الموجِّهين اليابانيين كانوا أذكى منَّا وأقدر في مواجهة المشاكل وهزيمة الصعاب. 

نظرت بحسرةٍ إلى «الخلق الفردي» في الإفادة من التقدُّم الصناعي العالمي، ما هذا؟ 

هذا شابٌّ يقود سيارةً فـارهةً تنهب الأرض نهباً، ينزل منها بأناقةٍ وكبرياء، ويرمق الشارع بنظرة استعلاء، يشترى بعض السلع ثمَّ يمتطى سيارته ويعود من حيث جاء… 

إنَّه ما زاد من الناحية الإنسانية شيئاً عن الأيَّام التي كان سلفه يمشي فيها حافياً أو منتعلاً… وما تشرف به أُمَّته ولا أسرته.

وهذا عاملٌ قادمٌ من وادي النيل، ماذا حمل إلى وطنه؟ «فيديو»! إنَّ المسكين جمد عرق جبينه، وأرهق أعصابه في هذا الجهاز المسلِّي، وسيحمله منتصب القامة والهامة لأنَّه أصبح به أرفع مستوى، وما درى المسكين أنَّه بما يحمل نقص وما زاد… 

العرب في الحضارة الحديثة شعوبٌ مستهلكةٌ تتنافس الدول الصناعية على إلهائها بالأدوات البرَّاقة والمخترعات المريحة. 

والدعاة لا يدرون كيف يستنقذون أمَّتهم المخروبة من هذه الأوضاع القـاتلة؛ لأنَّهم لا يتَّجهون إلى داخل الإنسان المسلم، يحرِّكون ما توقَّف من أجهزته، وينيرون ما أظلم من مصابيحه… إنَّهم يتحرَّكون نحو الظاهر القريب أو تحته بقليل… 

إنَّ قُدرة أُمَّةٍ ما على الصدارة في الأرض، أو توريث أمَّةٍ ما قيادة العالم كما يعبِّر القرآن الكريم، لا يجيء بين عشيَّةٍ وضحاها، ولا يتمُّ بخصائص سهلةٍ، لا… إنَّ له صلاحياتٍ معيَّنة أومأ إليها الوحي في قوله سبحانه: ((ولقد كتبنا في الزَّبورِ منْ بعدِ الذِّكِر أنَّ الأرضَ يرثُها عباديَ الصالحونَ))

لا تظنَّ المدى قريباً بين ما قَصَّه القرآن الكريم عن ذلِّ بني إسرائيل قديماً، وبين تمكُّنهم في الأرض بعـد ذلك، عندما توعَّد فرعون قوم موسى، وجاء على لسانه: سنقتِّل أبناءَهمْ ونستحيي نساءَهم وإنَّا فوقَهم قاهرون)).

 قال موسى لقومه: ((واستعينوا باللهِ واصبروا إنَّ الأرضَ للهِ يُورثُها من يَّشاءُ من عبادهِ والعاقبةُ للمتَّقين)). 

ومرت السنون، وتغيَّرت الأوضاع: ((وأورثنا القومَ الذينَ كانوا يُستضعفونَ مشارقَ الأرضِ ومغاربَها التي باركنا فيها)) إنَّ ذلك كلَّه لم يتمَّ في أيَّامٍ قلائل،  إنَّه استغرق عشرات السنين، حتى أمكن وفق سنن الله الاجتماعية أن يرزق العبيد أخلاق السيادة الحقيقية. 

والواقع أنَّ العرب أيَّامَ البعثة تعهَّدتهم بالصقل والتهذيب يدٌ صَنَاع، ومضت بهم  في طريق المجد نبوَّةٌ مُلهمةٌ، نبوةٌ حوَّلت الماء والطين إلى أزهارٍ ورياحين… 

نعم إنَّ الإسلام حول العُريَ إلى ربَّانيين بعد ما كانوا شياطين، وجعلهم نماذج تحتذى في ميادين العـبادات والمعاملات، فكانت قـيـادتهم خيراً وبركةً وكانت فتوحهم الفكرية والروحية أندى وأجدى من فتوحهم العسكرية الخارقة.

وعندما سقطت القيادات الـقديمة من الفرس والروم لم يَبكِها أحد، لم يتخلَّف عن سقوطها فراغٌ يحاول الآخرون ملأه! بل الذى حدث أنَّ الشعوب تنفسَّت الصعداء، ورأت أنَّ ما جدَّ في ربوعها أولى بالتقدير والاحترام، أو أولى بالرعاية والحماية.  

لكنَّ عرب الـيوم على غرارٍ آخر، ودعك من التخلُّف الصناعيِّ والحضاريِّ، ولننظر إلى قضايا اجتماعية وأخلاقيةٍ هي من صميم حياتنا الداخلية… 

ما تقاليد الزواج عندنا؟ هناك أعرافٌ متَّبعة: أنَّ قبـيلةً دون قبيلة… وأنَّ أُسرةً أعرق من أسرة… وأنَّ مكانة امرئٍ ما تنبع من نسبه… وقد ساند هذا السلوك الجائر تفكيرٌ فقهيٌّ يؤكِّد أنَّ المرأة من بني أميَّة أو بني هاشم لا يرقى إلى مستواها الرجل من عرقٍ آخر… 

أليست هذه هي التفرقة العنصرية التي جاء الإسلام لمحوها؟ هل نستطيع تصدير هذا التفكير إلى العالم؟ وهل نكون صادقين مع الله عندما نزعم أنَّ ذلك دينه؟   

وهل يقبله أهل الأرض منَّا؟ 

وفى أقطارٍ كثيرةٍ رأيت الشباب يئنُّ من غلاء المهور، وأحسست أنَّ العوائق هائلةٌ دون الحلال، وأنَّ المغريات كثيرةٌ نحو الحرام، فهل هذا العجز في علاج أهمِّ الغرائز البشرية يعدُّ نصراً إسلامياً، وهل رسالة أُمَّتنا الاجتـماعية تصعيب الطيِّبات وتيسير الخبائث، وهل يهشُّ العالم لتقاليدنا تلك؟ 

ولا أمضي في سرد أمثلةٍ لتعثُّر قضايانا الاجتماعية، وإنَّما أمدُّ البصر لقضايانا  الخلقية التي لن نستورد لبحثها خبراء أجانب… 

شكا لي شابٌّ ناشئٌ موهوبٌ وعورة الطريق أمامه، فقلت له يائساً: امض بمواهبك إلى الأمام دون انتظار عونٍ من أحد… بل توقَّع الكبَـد والصدَّ لأنَّ البيئات التي نعيش  فيها لا ترحِّب بالموهوبين، ولا تؤتِ كلَّ ذي فضلٍ فضله… لا كارهة، أو مغلوبة… أغلب الناس يعيش داخل قوقعةٍ من أنسه ومآربه، وقلَّما يلتفت إلى الأخرين ليُسدي عوناً، أو يقدِّم يداً… والطريقة التي يدرسون بها الدِّين لا تعين على زكاة النفس وسنائها، فالأجرب عندما يرتدى ثوباً غالياً جميلاً قد يستر علَّته حيناً، بيد أنَّ ذلك لا يشفي سقامه، هكذا نرى الذين يؤدُّون مراسم العبادات، ولا يهذِّبون أنفسهم. الفارق بين الإنسان والحيوان أنَّ الحيوان يتحرَّك بدوافع حاجاته الخاصَّة ولا يحسُّ إلَّا ذاته! أمَّا الإنسان فالمفروض أنَّه يحيا في مجتمعٍ له ضوابطه وآدابه، وعلى المرء أن يحسَّ بنفسه وبغيره معاً، والصورة الدنيا للسلوك البشري تظهر في أفعال المجرمين الذين لا يهتمُّون إلَّا بما يشتهون، أمَّا صور الرقيِّ المنشود فتتضح كلَّما اختفت الأنانية، وغاب الإحساس بالغير، والتقدير لحقوقه… 

وقد أقام الإسلام شعار: «في سبيل الله» ليخلع الإنسان من أثرته، ويدفعه إلى ربِّه! فالإنفـاق ينبغي أن يكون في سبيل الله، والجهاد ينبغي أن يكون في سبيل  الله، والسعيُ في هذه الدنيا ينبغي أن يكون في سبيل الله، بل المحيا والممات جميعاً في سبيل الله… 

وهذا الشعار يعني في النشاط العام أمرين: ابتغاء وجه الله، وتحقيق المصلحة العامَّة، وفقهاؤنا يرون أنَّ حقَّ الجماعة داخل في كلِّ ما هو لله، إذ الإسلام يمزج بين الدين والدولة، والعبادات والمعاملات. 

والذى حدث في هذا العصر أنَّ المقاييس الأخلاقية في الغرب غالت في حقِّ المجتمع، وقهرت به النوازع الشخصية، وجعلت «المواطن» يرعى وطنه، ومصلحة قومه ورفعة أمَّته… إلى آخره، وضبطت بذلك أنانيته الخاصَّة. 

أمَّا المنتمون إلى الدين فإنَّ شعار في سبـيل الله: «نُسي، أو تنوسي، في مجال  التربية»! … وتُرِك سرطان الأنانية يمتدُّ ويتوغَّل، فـماذا كانت النتيجة؟… فرقةٌ مستغربة بين مجاهدي أفغانستان، وبين محرري فلسطين! وسيطرت المأرب على أغلب الأنشطة العامَّة… فإذا الشخص الذى يعمل لوطنه في أوروبا أيقظ ضميراً من مثيله الذى ينتمي إلى الدِّين وهو لا يفكِّر في سبيل الله، وإنَّما يفكِّر في تنمية ثروته أو دعم مكانته… 

إنَّ المبدأ الإسلاميَّ الأوَّل في التربية وهو: ((قد أفلحَ منْ زكَّاها)) لا يتحقَّق بالدَّعوى ولا بالصياح، وإنَّما يتحقَّق بتطبيقٍ عميقٍ حاسمٍ في شؤون الحياة وبين جميع الطوائف… 

إنَّ «ديغول» ولي نعمة فرنسا الحديثة دُفن دون الأدغال في قريته، وامرأته الفاضلة تعيش بين جدران ملجأ يرعى شيخوختها… على حين نرى من خانوا أمَّتهم أو غشُّوها يُدفنون وسط أحفالٍ مائجة، وتوضع في أفواه أُسرِهم ملاعق الذهب! فهل هذه مثاليَّات الإسلام كما نراها؟ وهل تنتصر الدعوة الإسلامية بهذا  التفاوت الصارخ؟

إنَّ الطيبة أو التقوى أو القـدرة على ميز الخبيث من الطيِّب وإيثار الحسن على القبيح، كانت المشاعر التي برز بها سلفنا الأوَّلون بل آباؤنا الأقربون… ولقد عرفت فلَّاحي قريتنا وأنا صغـيرٌ ينامون مبكِّرين بعد صلاة العشاء، ويستيقظون مع الفجر، فـيذهبون صوب حقولهم، وقـد تذهب إليهم زوجاتهم أو أولادهم بالغـداء، فـما يعودون من مزارعهم إلَّا مع الغروب.. وكانت أراضيهم تدرُّ السمن والعسل، وبركات الله تنهمر عليهم بالغدوِّ والآصال… 

والآن بعد السهر والسمر على شتَّى الـبرامج والنوم حتَّى الضحى، وإضاعة الصلاة، واتِّباع الغفلات ماذا نجني؟… 

سمعت مُعمِّرين منهم يتحدَّثون عن الماضي، والسؤالُ نفسه مع أهل الخليج، يقولون: كنَّا فقراء، ولكنَّ الرجولة والاستعفاف وتقوى الله كانت تسود الآفاق… إنَّ الغد مع الشهوات الواعدة الوافدة مرُّ الثمر… 

أريد من أمَّتنا أن تقتبس من حضارة الغرب ما يوافق أو يوائم مع فطرة الله في مواريثنا… 

ثمَّ ماذا على الدُّعاة والمربِّين لو درسوا الأساليب التي اتَّبعها اليابانيون في الاستفادة من هذه الحضارة؟  

إنَّ هناك خللاً في التركيب الإنساني لأمَّتنا طرأ عليها مع ترادف العلل السياسية والاجتماعية، جعل المنطق العلميَّ يتقهقر، وتحلُّ محلَّه الأوهام، وجعل الاكتمال النفسيَّ يضعف وتسدُّ فراغه بعض الشعائر وصور الطاعات. وعلماؤنا الكبار لم تخدعهم هذه النقائض، ولذلك رفض ابن القيِّم من الغني البخيل أن يُكثر الذكر ويُطيل الصيام، فعبادته الأولى العطاء! كما رفض من الداعية الجبان أن يثرثر بالأوراد، ويعتكف بعيداً عن الناس فعبادته الأولى الأمر والنهي والنصح. 

وفى عصرنا هذا لا يخفى ما تحتاج إليه أمَّتنا كي تنهض من عثرتها، وما أيسر التوفيق بين التقدُّم الحضاريِّ ومواريث الدِّين والخلق، والوفاء بحقوق الله…

مصدر سيادة الإنسان في الإسلام

مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مربع-
مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مستطيل-

مصدر سيادة الإنسان في الإسلام

مصدر سيادة الإنسان في الإسلام

غير أنَّ مصدر هذه السيادة في كتاب الله وحكمه مختلف اختلافاً بيِّناً عن مصدرها لدى أرباب النظم الديمقراطية، فهي في كتاب الله وشرعه خِلعةٌ كرَّم الله بها الإنسان الذي هو في  ذاته وواقعه عبدٌ مملوكٌ له عزَّ وجلّ.

أمَّا في تصوُّر واضعي النظم الديمقراطية، فهي حقٌّ ذاتيٌّ استوجبه الإنسان لذاته، دون تفضُّلٍ من أحدٍ عليه بها. 

وقد اقتضى هذا الاختلاف في النظر إلى المصدر أن يقرِّر أولـو النظم الـديمقراطية أنَّ الإنسان هو الذي ينبغي أن يحكم نفسه بنفسه، وأن يكون المشرِّع لبني جنسه، دون أن يكون ثمَّة أيُّ حقٍّ لكائنٍ ما في التدخُّل بشأنه.

في حين أنَّ الشريعة الإسلامية أبرزت كامل الانسجام والتوفيق بين السيـادة التي  جاءت خلعةً من الله تعالى للإنسان، والعبودية التي يصطبغ بها هذا الإنسان لله عزَّ وجلَّ من حيث كينونته ومصدر وجوده.

 ومن ثمَّ فإنَّ على هذا الإنسان الذي يمتَّع بسيادةٍ تامَّةٍ فوق هـذه الأرض بين أقرانه، وأن يدين في الوقت ذاته بـالعبودية لله U، وأن يخضع كامل الخضوع لكلِّ ما يشرِّعه له من نظمٍ  وأحكام. 

ومن نتائج هذا الاختلاف، ما قرَّرته الشريعة الإسلامية من أنَّ الإسلام هو المسؤول الأوَّل عن رعاية سيادة الإنسان ضدَّ سائر الآفات التي قد تتربَّص بها، ومن ثمَّ فــإنَّ السلطة التشريعية في حياة الإنسان هي لله وحـده، في حين أنَّ النظم الـديمقراطية ترى على اختلافها أنَّ الإنسان هو المسؤول الأوَّل عن سيادة ذاته، وأنَّه هو الذي يتحمَّل أعباء الحماية التامَّة لحقوقها ضدَّ كلِّ ما قـد يتربَّص بها من أخطار، ومن ثمَّ فإنَّ سلطة التشريع كما تراه هذه النظم إنَّما هي للإنسان. 

وهنا يعود السؤال الذي افتتحنا به بحثنا هذا ليفرض نفسه من جديد: أيَّهما الأولى بل الأقدر على رعاية هـذه السيـادة التي ثبت بالاتِّفاق أنَّ الإنسان متَّصفٌ أو مكرَّمٌ بها؟ الإنسان نفسه، أم الإله الذي خلق الإنسان وأضفى عليه خلعة هـذه السيادة؟

لعلَّ التجربة التاريخية هي التي تملـك الجواب القـاطع عن هذا السؤال الكبير. 

وأنا أعني بالتجربة التاريخية، تجربة تحميل الشريعة الإسلامية مسؤولية رعاية السيادة الإنسانية، أيَّام كانت هذه الشريعة مطلقة العنان، صاحبة السلطة فعلاً، وكان دور المجتمعات الإسلامية دور المنفِّذ لها، والأمين عليها… وتجربة تحميل النظم الوضعية بالمقابل في مجتمعـاتٍ كثيرةٍ أخرى، مسؤولية رعاية هذه السيـادة وتوفيرها بشكلٍ حقيقيٍّ لأصحابها بمن فيهم الأفراد والجماعات.

تزوير التاريخ

مع رجالات خوار -محمد الغزالي- غلاف
مع رجالات خوار -محمد الغزالي- مستطيل

تزوير التاريخ

تزوير التاريخ

للاستعمار الحديث براعةٌ منكرةٌ في تزوير التاريخ، وإخفاء بعض معالمه، وإبراز البعض الآخر بعد تشويه المفاهيم، وتحريف الكلم عن مواضعه… وغرضه من هذا هو خداع الأجيال الناشئة عن أصلها.

ولَّى زمامها عن وجهتها العتيدة، وكما ينتقل مجرى النهر لتنسكب مياهه في مصبٍّ آخر، أو لتذهب بدداً في أرضٍ عمياء، يُنقل مجرى التاريخ، وتُحوَّر أحداثه وأحكامه حتَّى يصبح لها مـعنى بدل معنى، وتوجيه غير توجيه… 

وقد تضافر المستعمرون على تمزيق التاريخ الإسلامي وتحريفه خلال القرنين الأخيرين ليكون في سياقه الجديد المختلق عوناً على الغزو الثقافي الواسع المنظَّم، وليمكن على إيحائه الـمصنوع صبّ الأمَّة الإسلامية الكبرى في القوالب الكثيرة التي أُعدَّت لها. 

وهى قوالب شُكِّلت بعنايةٍ ودهاء، كي تتبدَّد خلالها رسالة القرآن، وتتلاشى في طول العالم وعرضه أُمَّته الواحدة… 

وقد ساعد على نجاح هذه الخطَّة إلى حدٍّ ما؛ الضعفان الخلقيّ والعلميّ اللذان صارت إليهما الأمَّة أيَّام العثمانيين. 

وأبرز مظاهر هذا النجاح وجود جماعاتٍ غفـيرةٍ تعـتقـد أنَّ الدِّين لـم يكن وراء حركات المقاومة للحملات الأجنبية على البلاد.

أي إنَّه –خلال القرن الماضي– لم يكن له دورٌ في مدافعة الاحتلال الفرنسي ثمَّ الاحتلال الإنجليزي الطويل… 

كانت الـمقاومة نابعةً من بواعث أخرى مادية، أو محلّية، أو عنصرية، أو أيَّ شيءٍ آخر… إلَّا الدِّين! ويتبع ذلك الفهم عزل الدِّين مستقبلاً عن حركات التحرُّر، وميادين المقاومة.

ومن يدري؟ فقد ينمو هذا الوهم، ويوغل في الشرود لِيُتَّهم الدِّين نفسه بأنَّه قيدٌ على حركات الشعوب، وآمالها في حياةٍ أرقى، وأرغد!  

ولا يطلب الاستعمار الثقافيُّ أكثر من هذا الضلال… ونرى لزاماً علينا أن نكشف الحقائق التي يُراد طمسها، وأن تُقطع هذه السلسلة من الترَّهات والأباطيل التي راجت بين القاصرين والأغرار. 

عندما احتلَّ الفرنسيون مصر، كان الإسلام وحده، ولا شيء غيره هو الذى أشعل نار المقاومة المسلَّحة، والمقاومة السلبية. 

لقد استمات المسلمون في مناضلة الغزاة، وتعويق تقدُّمهم، وأرخصوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، ولم يجبنوا أمام تفوُّق الفرنسيين العسكري، ورجحان كفَّتهم في كلِّ شيء، ولا أمام الخيانات المفاجئة من بعض المواطنين! 

وقاد الأزهر حرب الدفاع المقدَّس، فحكم الفرنسيون على عشراتٍ من علمائه الشبَّان بالقتل، ونفَّذ فيهم حكم الإعدام فرادى وجماعات!

كما نفَّذ حكم الإعدام بطريقةٍ بشعةٍ قذرةٍ في سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر، ودخل الغزاة بخيلهم ورجلهم صحن الأزهر.

ولكنَّ الثورة التي اشتعلت في القاهرة والأقاليم لم تنطفئ جذوتها، وظلَّت جثث القتلى تفوح روائحها في القاهرة وحدها أكثر من ثلاثين يوماً. 

ويقدَّر عدد المسلمين القتلى في مقاومة الغزو الفرنسي بنحو نصف مليون قتيل في مُدن الوجهين القبليّ والبحريّ والقاهرة. 

ولكنَّ الغريب المخزي أنَّ صور هذه المقاومة الباسلة طُويت طيَّاً، بل مُحيت محواً من صحائف التاريخ المدروس بين جماهير الطلاب والمثقفين…! وسطر فصول المأساة نفَس باردٌ ميت! 

وقام جهد مزوِّري التاريخ على أمرين

أوَّلهما سحب ذيول النسيان على دور الإسلام في المعركة، وإغفال تضحيات المسلمين الجسيمة، وخسائرهم الفادحة في الأرواح والأموال. 

الأمر الآخر –وهو ما يطيش له اللبّ-: إبراز الحملة الفرنسية على أنَّها خيرٌ وبركةٌ لمصر والمصريين!

فأيُّ زورٍ هذا الزور؟ وأيُّ هوانٍ هذا الهوان؟ 

رؤية النبي ﷺ لسيدنا جبريل

مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مربع-
مع رجالات حوار الدكتور البوطي -مستطيل-

رؤية النبي ﷺ لسيدنا جبريل

رؤية النبي ﷺ لسيدنا جبريل

لماذا قذف الله في قلبه عليه الصلاة والسلام الرعب منه؟ ولماذا احتار النَّبيُّ في فهم حقيقته؟ ألا تقتضي محبَّة الله لرسوله أن يلقي السكينة في قلبه، ويربط على فؤاده فلا يخاف ولا يرتعد؟ لماذا خشي على نفسه أن يكون هذا الذي ساوره طائفاً من الجنّ؟ ألم يستيقن من أوَّل الأمر أنَّه ملكٌ أمينٌ من عند الله تعالى؟

لماذا انفصل الوحي عنه بعد ذلك مدَّةً طويلة؟ ولماذا جزع النَّبيُّ  بسبب ذلك جزعاً عظيماً حتى كاد يتردَّى من شواهق الجبال حسب ما رواه الإمام البخاري؟ 

هذه أسئلةٌ طبيعيةٌ بالنسبة للشكل الذي ابتدأ به الوحي، ولدى التفكير في أجوبتها نجدها تنطوي على حكمة: ألا وهي أن يجد المفكِّر الحرُّ فيها الحقيقة الناصعة القائمة على المنهج العلميّ اليقينيّ، والواقية عن الوقوع في شرك محترفي الغزو الفكري، والتأثُّر  بأخيلتهم المتكلَّفة الباطلة. 

لقد فوجئ محمَّدٌ عليه الصلاة السلام وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له: اقرأ، حتَّى يتبيَّن أنَّ ظاهرة الوحي ليست أمراً ذاتياً داخلياً مردُّه إلى حديث النفس المجرَّد، وإنَّما هي استقبالٌ وتلقٍّ لحقيقةٍ خارجيةٍ لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات. وضمُّ الملَك إيَّاه ثمَّ إرساله ثلاث مرَّاتٍ قائلاً في كلِّ مرَّةٍ: اقرأ، يُعتبر تأكيداً لهذا التلقِّي الخارجيّ، ومبالغةً في نفي ما قد يُتصوَّر من أنَّ الأمر لا يعدو كونه خيالاً داخلياً فقط.  

ولقد داخله الخوف والرعب ممَّا سمع ورأى، حتَّى إنَّه قطع خلوته في الغار، وأسرع عائداً الى البيت يرجف فؤاده، لكي يتَّضح لكلِّ مفكِّرٍ عاقلٍ أنَّ رسول الله لم يكن متشوِّقاً للرسالة التي سيدعى إلى حملها وبثِّها في العالم، وأنَّ ظاهرة الوحي هذه لم تأت منسجمةً أو متمِّمةً لشيءٍ ممَّا قد يتصوَّره أو يخطر في باله، وإنَّما طرأت طروءاً مثيراً على حياته، وفوجئ بها (بالرسالة) دون أيِّ توقُّعٍ سابق.

ولا شكَّ أنَّ هذا ليس شأن من يتدرَّج في التأمُّل والتفكير إلى أن تتكوَّن في نفسه -بطريقة الكشف التدرجي المستمر- عقيدةٌ يؤمن بالدعوة إليها…

ثمَّ إنَّ شيئاً من حالات الإلهام، أو حديث النفس، أو الإشراق الروحي، أو التأمُّلات العلوية، لا تستدعي الخوف والرعب واصفرار اللون. يدلُّ على ذلك القياس اليقينيّ القائم على استقراء الحالات وجميع الظروف المشابهة، وليس ثمَّة أيّ انسجامٍ بين التدرُّج في التفكير والتأمُّل من ناحية، ومفاجأة الخوف والرعب من ناحيةٍ أخرى، وإلَّا للزم من ذلك أن يعيش عامَّة المفكِّرين والمتأمِّلين نهباً لدفعاتٍ من الرعب والخوف المفاجئة المتلاحقة.

وأنت خبيرٌ أنَّ الخوف، والرعب، ورجفان الجسم، وتغيُّر اللون، كلُّ ذلك من الانفعالات القسرية التي لا سبيل إلى اصطناعها والتمثيل بها. حتَّى لو فرضنا إمكان صدور المخادعة والتمثيل منه عليه الصلاة والسـلام، وفرضنا المستحيل من انقلاب طباعه المعروفة قبل البعثة من الصدق والأمانة إلى عكس ذلك تماماً.

ويتجلَّى مزيدٌ من صور المفاجأة المخيفة لديه ، في توهُّمه بأنَّ هذا الذي رآه، وغطَّه، وكلَّمَهُ في الغار، قد يكون طائفاً من الجنّ، إذ قال لخديجة بعد أن أخبرها الخبر: (لقد خشيت على نفسي) أي من الجان، ولكنَّها طمأنته بأنَّه ليس ممَّن يطولهم أذى الشياطين والجانّ لما فيه من الأخلاق الفاضلة، والصفات الحميدة.