كان رجال التعليم والتربية في اليابان أيقاظاً عندما اتَّصلت بلادهم بأوروبا في القرن الماضي، أو قل: كان حرَّاس التقاليد الموروثة صاحين عندما قرَّرت اليابان الاستفادة من التفوُّق الصناعي الغربي، فقد أعدُّوا لكلِّ جديدٍ يُقتبس مكانه فوق أرضهم، ومساحته المادية والأدبية التي لا يعدوها، وهيمنوا ببصرٍ حادٍّ على الآثار المتوقَّعة حتَّى لا تفلت من أيديهم، أو تتحرَّك بعيداً عن خُططهم المرسومة.
ومع التزام هذا الخطِّ الصارم بقيت الشخصية اليابانية محفوظة السمات ثابتة الملامح، فانتقلت الصناعات الغربية إلى اليابان، ولم يتحوَّل اليابانيون إلى أوروبيين في عقائدهم أو لغتهم أو آدابهم وأخلاقهم.
إنَّهم فعلوا ولم ينفعلوا وقادوا ولم ينقادوا.
وكانت هناك أديانٌ بينها فجوات، البوذية من ناحية، والشنتوية من ناحية أخرى… والأتباع المخلصون تقتسَّمهم وجهات نظرٍ شتَّى، ومذاهب فقهيةٌ كثيرةٌ إن صحَّ التعبير.
بيـد أنَّ لوناً من المعايشة السلمية فرض نفسه على الجميع؛ فإذا اليـابانيـون كلُّهم دون حساسياتٍ دينية يتعاونون على إنهاض بلدهم ورفع لوائه، وتمَّ لهم ما أرادوا…
إنَّ للنَّجاح الحقيقيِّ أساساً لا يتغيَّر هو النفس الإنسانية، فإذا استقرَّ هذا المهاد لم يبق شيءٌ ذو بال، وقد كان محمَّدٌ e أعرف إنسانٍ بهذه الحقيقة، فاتَّجهت جهوده كلُّها قبل أيِّ شيءٍ إلى داخل الإنسان تصوغه وتضبطه وتطمئنُّ إلى قراره ومساره، وهو يعرف أنَّ هذا الإنسان سوف يفرض نفسه على بيئته يوماً عندما تنزاح العوائق من أمامه…
ولم يحاول قط الاصطدام بالأسوار الخارجية قبل استكمال هذا الداخل المهم…
ومن ثمَّ ترك الأصنام منصوبةً حول الكعبة عشرين سنة، لم يُهشِّم واحداً منها في معركةٍ طائشة، بل الثابت في سيرته أنَّه طاف في عمرةٍ في السنة السابقة حول الكعبة والأصنامُ جاثمةٌ حولها، وفى الأوضاع التي كانت عليها من بدء الدعوة …
أكان ذلك بُقيى عليها، أو توقيراً لها؟ … كلَّا… لقد كان يعلم أنَّ لها أجلاً لا ريب فيه، وأنَّها عن قريبٍ أو بعيدٍ ستتحوَّل جُذاذاً.
ومن الذى يقوم بهذا التحويل الحاسم؟ الرجال الذين استناروا من الداخل، وتربَّوا على التوحيد الحقّ…
لقد عرفوا أنَّ الذباب أقوى من هذه الأصنام، وأنَّها لا تثبت في معركةٍ معه…
ألم يتلوا قوله تعالى: ((يا أيُّها الناسُ ضُربَ مثلٌ فاستمعوا لهُ إنَّ الذينَ تدعونَ منْ دونِ اللهِ لنْ يخلقُوا ذباباً ولو اجتمعوا لهُ وإنْ يسلبهُمُ الذُّبابُ شيئاً لا يستنقـذوهُ منهُ ضَعُفَ الطالبُ والمطلوبُ)).
فليتربَّصوا بهذه الأصنام يوماً لا ريب فيه دون استعجالٍ، وليهتمُّوا بداخلهم يتعهَّدونه فهو الوجود الآتي مع الغد…
ويتساءل أناس: ما هذا التعهُّد الشاغل المهم؟ ونقول : هو تعهُّد الوعي ليكون صحيحاً، والباطن ليكون نظيفاً، والخلق ليكون عظيماً، والإخاء ليكون وثيقاً، والهدف ليكون واضحاً… فالأمم لا تبنى بالصور وإنَّما تُبنى بالحقائق…
إنَّ المنافقين أحسن الناس للمراسم، وقلوبهم هواء… أمَّا المؤمنون فـإنَّ نضج نفوسهم، وزكاة سرائرهم، هما سرُّ عظمتهم، وسرُّ مآل الأمور إليهم.
ولا يُعرف في تاريخ الهداة رجلٌ مثل محمَّدٍ e أحسن صوغ النفوس وإيقاظ ملكاتها وإدارتها بأعظم ما فيها من طاقة، وجعلها تدفع ولا تندفع، وتؤثِّر ولا تتأثَّر…
فهل نحن الدعاة المنتمين إليه نفهم هذا المنهج، ونلتزم منطقه؟؟… إنَّ الموجِّهين اليابانيين كانوا أذكى منَّا وأقدر في مواجهة المشاكل وهزيمة الصعاب.
نظرت بحسرةٍ إلى «الخلق الفردي» في الإفادة من التقدُّم الصناعي العالمي، ما هذا؟
هذا شابٌّ يقود سيارةً فـارهةً تنهب الأرض نهباً، ينزل منها بأناقةٍ وكبرياء، ويرمق الشارع بنظرة استعلاء، يشترى بعض السلع ثمَّ يمتطى سيارته ويعود من حيث جاء…
إنَّه ما زاد من الناحية الإنسانية شيئاً عن الأيَّام التي كان سلفه يمشي فيها حافياً أو منتعلاً… وما تشرف به أُمَّته ولا أسرته.
وهذا عاملٌ قادمٌ من وادي النيل، ماذا حمل إلى وطنه؟ «فيديو»! إنَّ المسكين جمد عرق جبينه، وأرهق أعصابه في هذا الجهاز المسلِّي، وسيحمله منتصب القامة والهامة لأنَّه أصبح به أرفع مستوى، وما درى المسكين أنَّه بما يحمل نقص وما زاد…
العرب في الحضارة الحديثة شعوبٌ مستهلكةٌ تتنافس الدول الصناعية على إلهائها بالأدوات البرَّاقة والمخترعات المريحة.
والدعاة لا يدرون كيف يستنقذون أمَّتهم المخروبة من هذه الأوضاع القـاتلة؛ لأنَّهم لا يتَّجهون إلى داخل الإنسان المسلم، يحرِّكون ما توقَّف من أجهزته، وينيرون ما أظلم من مصابيحه… إنَّهم يتحرَّكون نحو الظاهر القريب أو تحته بقليل…
إنَّ قُدرة أُمَّةٍ ما على الصدارة في الأرض، أو توريث أمَّةٍ ما قيادة العالم كما يعبِّر القرآن الكريم، لا يجيء بين عشيَّةٍ وضحاها، ولا يتمُّ بخصائص سهلةٍ، لا… إنَّ له صلاحياتٍ معيَّنة أومأ إليها الوحي في قوله سبحانه: ((ولقد كتبنا في الزَّبورِ منْ بعدِ الذِّكِر أنَّ الأرضَ يرثُها عباديَ الصالحونَ))
لا تظنَّ المدى قريباً بين ما قَصَّه القرآن الكريم عن ذلِّ بني إسرائيل قديماً، وبين تمكُّنهم في الأرض بعـد ذلك، عندما توعَّد فرعون قوم موسى، وجاء على لسانه: سنقتِّل أبناءَهمْ ونستحيي نساءَهم وإنَّا فوقَهم قاهرون)).
قال موسى لقومه: ((واستعينوا باللهِ واصبروا إنَّ الأرضَ للهِ يُورثُها من يَّشاءُ من عبادهِ والعاقبةُ للمتَّقين)).
ومرت السنون، وتغيَّرت الأوضاع: ((وأورثنا القومَ الذينَ كانوا يُستضعفونَ مشارقَ الأرضِ ومغاربَها التي باركنا فيها)) إنَّ ذلك كلَّه لم يتمَّ في أيَّامٍ قلائل، إنَّه استغرق عشرات السنين، حتى أمكن وفق سنن الله الاجتماعية أن يرزق العبيد أخلاق السيادة الحقيقية.
والواقع أنَّ العرب أيَّامَ البعثة تعهَّدتهم بالصقل والتهذيب يدٌ صَنَاع، ومضت بهم في طريق المجد نبوَّةٌ مُلهمةٌ، نبوةٌ حوَّلت الماء والطين إلى أزهارٍ ورياحين…
نعم إنَّ الإسلام حول العُريَ إلى ربَّانيين بعد ما كانوا شياطين، وجعلهم نماذج تحتذى في ميادين العـبادات والمعاملات، فكانت قـيـادتهم خيراً وبركةً وكانت فتوحهم الفكرية والروحية أندى وأجدى من فتوحهم العسكرية الخارقة.
وعندما سقطت القيادات الـقديمة من الفرس والروم لم يَبكِها أحد، لم يتخلَّف عن سقوطها فراغٌ يحاول الآخرون ملأه! بل الذى حدث أنَّ الشعوب تنفسَّت الصعداء، ورأت أنَّ ما جدَّ في ربوعها أولى بالتقدير والاحترام، أو أولى بالرعاية والحماية.
لكنَّ عرب الـيوم على غرارٍ آخر، ودعك من التخلُّف الصناعيِّ والحضاريِّ، ولننظر إلى قضايا اجتماعية وأخلاقيةٍ هي من صميم حياتنا الداخلية…
ما تقاليد الزواج عندنا؟ هناك أعرافٌ متَّبعة: أنَّ قبـيلةً دون قبيلة… وأنَّ أُسرةً أعرق من أسرة… وأنَّ مكانة امرئٍ ما تنبع من نسبه… وقد ساند هذا السلوك الجائر تفكيرٌ فقهيٌّ يؤكِّد أنَّ المرأة من بني أميَّة أو بني هاشم لا يرقى إلى مستواها الرجل من عرقٍ آخر…
أليست هذه هي التفرقة العنصرية التي جاء الإسلام لمحوها؟ هل نستطيع تصدير هذا التفكير إلى العالم؟ وهل نكون صادقين مع الله عندما نزعم أنَّ ذلك دينه؟
وهل يقبله أهل الأرض منَّا؟
وفى أقطارٍ كثيرةٍ رأيت الشباب يئنُّ من غلاء المهور، وأحسست أنَّ العوائق هائلةٌ دون الحلال، وأنَّ المغريات كثيرةٌ نحو الحرام، فهل هذا العجز في علاج أهمِّ الغرائز البشرية يعدُّ نصراً إسلامياً، وهل رسالة أُمَّتنا الاجتـماعية تصعيب الطيِّبات وتيسير الخبائث، وهل يهشُّ العالم لتقاليدنا تلك؟
ولا أمضي في سرد أمثلةٍ لتعثُّر قضايانا الاجتماعية، وإنَّما أمدُّ البصر لقضايانا الخلقية التي لن نستورد لبحثها خبراء أجانب…
شكا لي شابٌّ ناشئٌ موهوبٌ وعورة الطريق أمامه، فقلت له يائساً: امض بمواهبك إلى الأمام دون انتظار عونٍ من أحد… بل توقَّع الكبَـد والصدَّ لأنَّ البيئات التي نعيش فيها لا ترحِّب بالموهوبين، ولا تؤتِ كلَّ ذي فضلٍ فضله… لا كارهة، أو مغلوبة… أغلب الناس يعيش داخل قوقعةٍ من أنسه ومآربه، وقلَّما يلتفت إلى الأخرين ليُسدي عوناً، أو يقدِّم يداً… والطريقة التي يدرسون بها الدِّين لا تعين على زكاة النفس وسنائها، فالأجرب عندما يرتدى ثوباً غالياً جميلاً قد يستر علَّته حيناً، بيد أنَّ ذلك لا يشفي سقامه، هكذا نرى الذين يؤدُّون مراسم العبادات، ولا يهذِّبون أنفسهم. الفارق بين الإنسان والحيوان أنَّ الحيوان يتحرَّك بدوافع حاجاته الخاصَّة ولا يحسُّ إلَّا ذاته! أمَّا الإنسان فالمفروض أنَّه يحيا في مجتمعٍ له ضوابطه وآدابه، وعلى المرء أن يحسَّ بنفسه وبغيره معاً، والصورة الدنيا للسلوك البشري تظهر في أفعال المجرمين الذين لا يهتمُّون إلَّا بما يشتهون، أمَّا صور الرقيِّ المنشود فتتضح كلَّما اختفت الأنانية، وغاب الإحساس بالغير، والتقدير لحقوقه…
وقد أقام الإسلام شعار: «في سبيل الله» ليخلع الإنسان من أثرته، ويدفعه إلى ربِّه! فالإنفـاق ينبغي أن يكون في سبيل الله، والجهاد ينبغي أن يكون في سبيل الله، والسعيُ في هذه الدنيا ينبغي أن يكون في سبيل الله، بل المحيا والممات جميعاً في سبيل الله…
وهذا الشعار يعني في النشاط العام أمرين: ابتغاء وجه الله، وتحقيق المصلحة العامَّة، وفقهاؤنا يرون أنَّ حقَّ الجماعة داخل في كلِّ ما هو لله، إذ الإسلام يمزج بين الدين والدولة، والعبادات والمعاملات.
والذى حدث في هذا العصر أنَّ المقاييس الأخلاقية في الغرب غالت في حقِّ المجتمع، وقهرت به النوازع الشخصية، وجعلت «المواطن» يرعى وطنه، ومصلحة قومه ورفعة أمَّته… إلى آخره، وضبطت بذلك أنانيته الخاصَّة.
أمَّا المنتمون إلى الدين فإنَّ شعار في سبـيل الله: «نُسي، أو تنوسي، في مجال التربية»! … وتُرِك سرطان الأنانية يمتدُّ ويتوغَّل، فـماذا كانت النتيجة؟… فرقةٌ مستغربة بين مجاهدي أفغانستان، وبين محرري فلسطين! وسيطرت المأرب على أغلب الأنشطة العامَّة… فإذا الشخص الذى يعمل لوطنه في أوروبا أيقظ ضميراً من مثيله الذى ينتمي إلى الدِّين وهو لا يفكِّر في سبيل الله، وإنَّما يفكِّر في تنمية ثروته أو دعم مكانته…
إنَّ المبدأ الإسلاميَّ الأوَّل في التربية وهو: ((قد أفلحَ منْ زكَّاها)) لا يتحقَّق بالدَّعوى ولا بالصياح، وإنَّما يتحقَّق بتطبيقٍ عميقٍ حاسمٍ في شؤون الحياة وبين جميع الطوائف…
إنَّ «ديغول» ولي نعمة فرنسا الحديثة دُفن دون الأدغال في قريته، وامرأته الفاضلة تعيش بين جدران ملجأ يرعى شيخوختها… على حين نرى من خانوا أمَّتهم أو غشُّوها يُدفنون وسط أحفالٍ مائجة، وتوضع في أفواه أُسرِهم ملاعق الذهب! فهل هذه مثاليَّات الإسلام كما نراها؟ وهل تنتصر الدعوة الإسلامية بهذا التفاوت الصارخ؟
إنَّ الطيبة أو التقوى أو القـدرة على ميز الخبيث من الطيِّب وإيثار الحسن على القبيح، كانت المشاعر التي برز بها سلفنا الأوَّلون بل آباؤنا الأقربون… ولقد عرفت فلَّاحي قريتنا وأنا صغـيرٌ ينامون مبكِّرين بعد صلاة العشاء، ويستيقظون مع الفجر، فـيذهبون صوب حقولهم، وقـد تذهب إليهم زوجاتهم أو أولادهم بالغـداء، فـما يعودون من مزارعهم إلَّا مع الغروب.. وكانت أراضيهم تدرُّ السمن والعسل، وبركات الله تنهمر عليهم بالغدوِّ والآصال…
والآن بعد السهر والسمر على شتَّى الـبرامج والنوم حتَّى الضحى، وإضاعة الصلاة، واتِّباع الغفلات ماذا نجني؟…
سمعت مُعمِّرين منهم يتحدَّثون عن الماضي، والسؤالُ نفسه مع أهل الخليج، يقولون: كنَّا فقراء، ولكنَّ الرجولة والاستعفاف وتقوى الله كانت تسود الآفاق… إنَّ الغد مع الشهوات الواعدة الوافدة مرُّ الثمر…
أريد من أمَّتنا أن تقتبس من حضارة الغرب ما يوافق أو يوائم مع فطرة الله في مواريثنا…
ثمَّ ماذا على الدُّعاة والمربِّين لو درسوا الأساليب التي اتَّبعها اليابانيون في الاستفادة من هذه الحضارة؟
إنَّ هناك خللاً في التركيب الإنساني لأمَّتنا طرأ عليها مع ترادف العلل السياسية والاجتماعية، جعل المنطق العلميَّ يتقهقر، وتحلُّ محلَّه الأوهام، وجعل الاكتمال النفسيَّ يضعف وتسدُّ فراغه بعض الشعائر وصور الطاعات. وعلماؤنا الكبار لم تخدعهم هذه النقائض، ولذلك رفض ابن القيِّم من الغني البخيل أن يُكثر الذكر ويُطيل الصيام، فعبادته الأولى العطاء! كما رفض من الداعية الجبان أن يثرثر بالأوراد، ويعتكف بعيداً عن الناس فعبادته الأولى الأمر والنهي والنصح.
وفى عصرنا هذا لا يخفى ما تحتاج إليه أمَّتنا كي تنهض من عثرتها، وما أيسر التوفيق بين التقدُّم الحضاريِّ ومواريث الدِّين والخلق، والوفاء بحقوق الله…