كيف نفهم القضاء والقدر
كيف نفهم القضاء والقدر
﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [سورة الحديد: 22-23]
آيتان كريمتان يبين لنا فيهما ربُّنا سبحانه وتعالى قضيةً من أكثر القضايا جدلاً في العقيدة الإسلامية؛ قضية القضاء والقدر.
وقد تحدَّث المسلمون قديماً بهذه القضية، وما زالوا يناقشون فيها إلى يومنا هذا، وذهب بعض الناس إلى اعتقاد الجبريّة المطلقة، فقالوا: إنَّ الإنسان مسيّر لا يختار شيئاً البتة، ونحى بعضهم نحو إنكار القدر بالكلية، وقالوا: إنَّ الأمر محض عمل الإنسان، ولا علاقة لله به.
وبين هذا وذاك يجب على المسلم أن يعرف معنى القضاء والقدر ومكانته في العقيدة الإسلامية، والاعتقاد الموافق لما أنزل الله ولما علّمَنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
ما هو القضاء والقدر؟ وما مكانته في العقيدة الإسلامية؟
القدَر: هو تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه، واقتضته حكمته، والقضاء: هو حكم الله تعالى بوقوع تلك الأشياء على نحو ما سبق في علمه الأزلي، فهو سبحانه العالمُ بكلِّ ما سيجري في الكون، وعلمه شاملٌ لكلِّ صغيرةٍ وكبيرة، وكلُّ ما يجري هو بمقتضى مشيئته وحكمته.
وتعرف مكانة الإيمان بالقضاء والقدر في العقيدة الإسلامية من خلال الاطلاع على الشواهد الكثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة:
مثل قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ [سورة الأحزاب:38]
وقوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر﴾ [سورة القمر:49]
وقوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان:2]
ولقول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث الشريف: (لا يؤمن عبدٌ حتَّى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتَّى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه) [الترمذي:2144]
وهو أحد أركان الإيمان الستَّة كما أخبر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عندما سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.) [صحيح مسلم: الحديث8]
وتضافرت الآيات والأحاديث على بيان القضاء والقدر وأهمية الإيمان به، وأهل الإيمان في التعامل معه على أنواع:
من هم الجبريّة والقدريّة؟
الجبريّة: هم الذين يعتقدون أنَّ الله أجبر العباد على أفعالهم وعلى الإيمان أو الكفر، ويقولون: إنَّ العبد مسيَّر، لا خيار له أبدًا؛ فهو كالريشة في مهَبِّ الريح.
القدريّة: هم الذين ينفون قدر الله تعالى، ويقولون: إنَّ الله تعالى لم يخلق أفعال العباد، بل العبد يخلق فِعل نفسه، ويقولون: إنَّ الله تعالى لا يعلم الشيء إلَّا بعد وقوعه.
يظنُّ بعض الناس أنَّ الإنسان إمَّا أن يكون (جبريّاً) أي يعتقد بأنَّ الإنسان مسيّر ولا خيار له، أو يكون (قدريّاً) أي يقول: إنَّ الله لا يخلق شيئاً من أفعال العباد.
وقد ظهر هذان الاعتقادان المخالفان للعقيدة منذ القرون الأولى للإسلام، وذلك بسبب ضعف فهم الناس لمسألة القدر، واجتزائهم للأدلَّة الشرعية، وتبنِّي بعض الآيات أو الأحاديث دون غيرها، وإعراضهم عن تعلُّم الإسلام على أيدي العلماء الربَّانييّن.
ما هو الاعتقاد الصحيح بين هذا وذاك؟
إنَّه الاعتقاد الصحيح الذي نقله لنا الربَّانيون عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذين يعلِّمون القرآن بقلوبٍ مؤمنةٍ وعقولٍ نيّرة، فيتدبَّرون جميع الآيات دون اجتزاء أو تشويه، وبذلك نعلم أنَّ الله سبحانه هو المتصرِّف وحده في الكون؛ وأنَّ الإنسان حرٌّ مختارٌ بقلبه، ومحاسبٌ على هذا الاختيار:
يقول سبحانه وتعالى:
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ﴾ [سورة الكهف:29]
ويقول عن الإنسان:
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [سورة الإنسان:3]
وفي الوقت نفسه يبيِّن لنا سبحانه أنَّه متصرِّفٌ في الكون، ولا يجري أمرٌ إلَّا بإذنه سبحانه ويفعل ما يشاء:
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:166]
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ﴾ [سورة النساء:90]
والجمع بين هذين الأمرين تكمن فيه حقيقة الاعتقاد بالقضاء والقدر، وهو أنَّ الله يحاسب الإنسان على نيّته وإرادته للخير أو الشر أو ما يسمّى بـ (كسب القلب) فهذا محلّه القلب، ومنه اختيار الإنسان وعليه يحاسب. أمَّا أن يقع هذا الأمر أو لا يقع فهذا مرهونٌ بإرادة الله.
ومن هذا نفهم أنَّ الله إذا أراد ابتلاء المؤمنين أذِن لأهل الشرور أن تظهر شرورهم كي يبتلي عباده بهم، ويعاقب بهم من شاء من خلقه، لكنّ الله يحاسب أهل الشرور على فعلهم لأنَّهم (اختاروا) ذلك الفعل ووقع منهم، لا لأنَّ الله قدَّر وقوع تلك المصيبة على المؤمن. وعليه فليس لمن يفعل الشرور أن يحتجَّ بالقدر على الله سبحانه، لأنَّ الله يحاسبه على ما كسب بقلبه وعلى إرادته للشر.
مثل حديث النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم:
(إنَّما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه الله مالاً وعلماً، فهو يتَّقي في ماله ربه، ويصل به رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وعبدٌ رزقه الله علماً، ولم يرزقه مالاً، فهو يقول: لو أنَّ لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، وهما في الأجر سواءٌ، وعبدٌ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، فهو لا يتَّقي في ماله ربَّه، ولا يصل به رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأسوأِ المنازل عند الله، وعبدٌ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أنَّ لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، وهما في الوزر سواءٌ) [أخرجه أحمد والترمذي]
وقد أورد الإمام القرطبي رحمه الله هذا الحديث في سياق تفسيره لقصة أصحاب الجنَّة في سورة القلم، فقال في تفسير قوله تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ﴾:
“في هذه الآية دليلٌ على أنَّ العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنَّهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم. ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿ومَنْ يُرِد فِيْهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيْمٍ﴾. وفي الصحيح عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: إذا التقى المسلمان بسيفيهما…” الحديث.
موقف المؤمنين من الابتلاءات المتتالية التي تحلُّ بالأمَّة، وعلاقته بالفهم الصحيح للقضاء والقدر:
يزداد بين الفينة والأخرى سؤال الناس عن الحكمة من الابتلاءات، وعن قدر الله الذي قدّره على الأمَّة الإسلامية، حيث يرى جميع الناس ما يجري من ابتلاءٍ لأهل غزَّة ولبنان وغيرهم من المستضعفين ولسان حالهم يقول: لماذا يأذن الله للصهاينة بأن يفعلوا ما يحلو لهم؟ هل الله راضٍ عن فعلهم؟ وإن كان لا يرضى؛ لماذا لا يعاقبهم أو يخسف بهم الأرض؟ أم إنَّ الله لا علاقة له بما يجري على الأرض، وإنَّ الأمر منعزلٌ عن الإرادة الإلهية على مذهب القدريّة؟
وإذا أردنا إسقاط هذه الوقائع على ما تمَّ تأصيله من اعتقادٍ سليم، فعلى المؤمن أن يوقن أنَّه ما من أمر يجري في هذا الكون إلَّا بأمر الله سبحانه ومشيئته، ومن يعتقد غير ذلك فقد كفر بالقدر، وفي الوقت نفسه على المؤمن أن يوقن أنَّ هؤلاء الصهاينة المجرمين محاسبون على أفعالهم لإرادتهم الشرَّ الذي حدث، ولرضاهم بأن يفعلوا ما شاؤوا بالشعوب المستضعفة، بل إنَّ الله يؤاخذهم على إرادتهم التي تفوق قدراتهم، فهم لو استطاعوا لأفنوا البشرية كلَّها إلَّا قلَّةً قليلةً تخدمهم، وهذا هدفهم وهذا ما يسعون إليه؛ فهم مؤاخذون على جريمتهم هذه التي بيّتوها في قلوبهم وإن لم يأذن الله أن يقع ما يخططون له من جرائم على الأرض.
أمَّا ما وقع ويقع من ابتلاءاتٍ وآلامٍ وقتلٍ واعتداءٍ على الأبرياء، فإنَّه قد جرى بإذن الله الذي شاء أن يوقع جزءاً من نية هؤلاء المجرمين على الأرض، تمييزاً للأمَّة وتمحيصاً للصادقين من الكاذبين، وتبييناً للمنافقين الذين اتخذوا من المجرمين أولياء وحلفاء من دون المؤمنين المستضعفين.
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [سورة محمد:31]
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [سورة البقرة:214]
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سورة التوبة:16]
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [سورة العنكبوت:2 – 3]
خلاصة
نعم، إنَّ كلَّ ما يجري من أفعالٍ في الكون لا يكون إلَّا بإذن الله ومشيئته وتقديره، ولكن ليس للإنسان أن يحتجَّ عن سوء أفعاله بالقدر، ويبررها بذلك؛ لأنَّ الإنسان حرٌّ بقلبه ينوي ما يشاء ويعزم ما يشاء، لكنَّ الله غالبٌ على أمره، ولا يجري في ملكوته إلَّا ما شاء.
وأقدار الله تمتحن إيمان المؤمنين، وصدق الصادقين، وتحضّ على بذل أقصى الجهد، والعمل للوصول إلى الثمرة المطلوبة.
كانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، ذَاتَ يَومٍ جَالِسًا وفي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ به، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقالَ: ما مِنكُم مِن نَفْسٍ إلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ قالوا: يا رَسُولَ اللهِ، فَلِمَ نَعْمَلُ؟ أَفلا نَتَّكِلُ؟ قالَ: لَا، اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له. [صحيح مسلم:2647]