تحت الأضواء ...الإمام البخاري ومكانة صحيحه
كان للإمام البخاريّ في صحيحه عنايةٌ بالجانب الفقهيّ, فإنَّه لم يكتفِ بسردِ الأحاديث بل عَنوَنَ لها بعناوينَ تسمَّى التراجم
ترجمة الإمام البخاريّ ومكانتُه في علوم الحديث:
كان الإمام البخاريُّ شخصيّةً واسعة الجوانب أُلِّفَ عنها الكثير من الكتب.
هو الإمام مُحمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبه البخاري الجعفي, وُلد في 13/ شوال/ 194ه في مدينة بخارى في بيتٍ مُباركٍ, وتربّى في جوٍّ إيمانيٍّ كان له أثرٌ في نشأته الصَّالحة وتوجُّهه إلى طلب العلم.
كانت همَّته من الصغر همَّةً طيِّبةً, وكان طلبة العلم يقصدونه وهو في مقتبل العمر. أخذ العلم عن مئاتٍ من شيوخ العلم والحديث, وكان يمتاز بحرصه على أخذ كلِّ ما عند الشيخ من الأحاديث مع حرصه الدِّقَّة في الأخذ والتحمُّل.
كان نابغةً في الحفظ منذ صغره, وكان طلبة العلم معه يكتبون لكنَّه كان يحفظ من غير كتابةٍ من المرَّة الأولى, وامتُحن في بغداد واختُبر في الحفظ وأبهر الجميع.
ألَّفَ الكتب العديدة غير الصّحيح, منها: (التاريخ الكبير في تراجم رُواة الحديث), و (التاريخ الأوسط) و (التاريخ الصغير) وغيرها, وأخذ عنه كثيرٌ من الرُّواة لعلَّ من أبرزهم مسلم صاحب الحديث, والترمذي والنسائي وابن خزيمة والبزَّار.
كانَ كثيرَ العبادة والصيام والقيام والتلاوة, ومن أعظم خصال وَرعِه تجنُّبه الغيبة.
أثنى عليه عددٌ لا يُحصى من أعلام السُّنَّة, وقال عنه الإمام أحمد: “ما أخرجَتْ خُراسان مثل محمَّد بن إسماعيل البخاريّ“.
كانت وفاته ليلةَ عيد الفطر سنة 256ه في بلدةٍ من ضواحي سمرقند عن اثنين وستين عاماً, رحمَه الله وجزاه عن الأمَّة خيراً.
كتابُهُ الصَّحيح, منهجه فيه, ومكانته بين كتب الحديث:
من أهمِّ أسباب تأليفه الصحيحَ هو حاجة طلبة الحديث إلى وجود كتابٍ يختصُّ بالصحيح, ومما شدَّ عزيمة البخاري للعمل على تصنيف صحيحه اقتراح بعض إخوانه في مجلس شيخهم إسحاق بن راهويه, فقال البخاريُّ: “فوقعَ ذلك في قلبي, فأخذت في جمع هذا الكتاب”.
ودفعه أيضاً رؤيا صالحةٌ رآها وهو يقف بين يدي النَّبيِّ وبيده مِروحةٌ يذبُّ بها عنه, فكان تأويلها وكأنَّه يذبُّ الكذب عنه.
استغرقَ تصنيف الصحيح ستَّ عشرة سنةً بعد تخريجه من ستمئة ألف حديثٍ, ويقول الإمام: “جعلته حجَّةً فيما بيني وبين الله تعالى”.
ولخَّص الإمام منهجه في الصحيح من خلال عنوان الكتاب, حيث أسماه: (الجامع المُسنَد الصحيح المختصر من أمور رسول الله وسننه وأيامه).
الجامع: أي الكتاب الشامل لكلِّ أبواب الدِّين, فهو غير مقتصرٍ على جانبٍ واحدٍ.
المُسنَد: فالأحاديث الموجودة متصلة الإسناد مرفوعةً إلى النَّبيِّ.
الصَّحيح: فكلُّ الأحاديث التي أوردها فيه مستوفيةٌ لشروط الصّحّة.
المختصر: فلم يستوعب فيه كلَّ الأحاديث الصَّحيحة.
ويشير إلى شمول كتابه لكلِّ النواحي المتعلِّقة برسول الله من الحديث والشمائل والأخلاق.
وسننه: وهو أحاديث الأحكام, وما جاء عن النَّبيِّ مما جرى العمل عليه.
أيَّامه: أي المغازي.
فهذا خلاصة منهج البخاري في كتابه مما دلَّ عليه العنوان.
شروط الصّحّة عند البخاري:
يشترط الإمام شروطاً خمسةً في الحديث الصحيح, لكنّ الذي يميّزُ الإمام عن غيره شدَّةُ تحرِّيه في تطبيق هذه الشروط وتشدُّده في بعض تفصيلاتها, ونذكر منها:
في شرط اتِّصال السَّند: في قبول (السَّند المُعنعن) لا يقبله حتى يتحقَّقَ من سلامة راويه من التَّدليس, وحتى يثبت عنده في خبرٍ آخر أنَّ هذا الرَّاوي قد تتلمذَ على هذا الشيخ الذي يروي عنه وسمعَ منه, ولا يكتفي مجرّد المعاصرة الزّمانية.
في شرطَي العدالة والضبط: لا يُخرِّج الإمام البخاريُّ لكلِّ من تحققَّ فيه هذان الشرطان فقط, بل ينتقي من الصّحيح الأصحّ, ومن الجيّد الأجود.
وفيما قيل من رواية البخاري عن رجالٍ انتقدَهم بعض الحفَّاظ في عدالتهم كالمنسوبين إلى البدعة, أو في ضبطهم وإتقانهم, فالجواب: إنَّ البخاريَّ كان لا يرى البدعة غير المُكفِّرة جرحاً في الرّاوي إن لم يكذب الرّاوي عن النَّبيِّ كالخوارج, وما رواه عنهم أحاديث صحيحةٌ لورودها من طريقٍ آخر أيضاً, أمَّا الرُّواة المتكلَّم فيهم من حيث الضّبط فلم يعتمد على أحاديثهم, وإنَّما انتقى الرِّواية التي تحقَّقَ من صحّتها انتقاءً في الموضع الذي رواه, وهي أحاديث يسيرةٌ لها طرقٌ أخرى من شواهدَ أو متابعات.
في شرط السلامة من الشُّذوذ والعلَّة القادحة: فالثِّقة غير معصومٍ من الخطأ, وإذا وُصف رجال صحيح البخاريّ بأعلى درجات العدالة والضبط فهذا لا يعني العِصمَة, ولذلك قد يكرّر الحديث في موضعٍ واحدٍ أو في مواضعَ متعدِّدةٍ لتبيين تنوّع الرِّوايات وعدم اختلافها, وبذلك ينتفي الشُّذوذ والعلَّة عن أحاديث صحيح البخاري.
مصادر صحيح البخاري:
قد سبقَ كثيرٌ من أهل العلم الإمامَ البخاريَّ إلى تدوين الحديث بشكلٍ عام, ولم يكن هو صاحب التّصانيف أوّلاً, فجاء وقد حصَّلَ الكتب السابقة, وحرص على سماعها, ولَمَّـا صنَّفَ الصحيح كانت مصادره بين يديه يستفيد منها, وينتقي الصّحيح منها.
وكثيرٌ من الأسانيد التي تبدو شفاهيةً محضَةً نجدها تعتمد على صحفٍ مكتوبةٍ, وروايةٍ من طريق مصنَّفاتٍ سابقةٍ, مع الحرص على رواية الأحاديث بالإسناد.
وكان للإمام البخاريّ في صحيحه عنايةٌ بالجانب الفقهيّ, فإنَّه لم يكتفِ بسردِ الأحاديث بل عَنوَنَ لها بعناوينَ تسمَّى التراجم, يلخّص فيها ما يستنبطه من الحديث من حِكَم أو أحكام, حتّى قال العلماء: فقه البخاريّ في تراجمه.
هذه لَمَعاتٌ في سيرة الإمام البخاري, توضح سعة حفظه, ودقّة منهجه, تفتح أمام القارئ آفاق الوصول إلى معرفة دقائق هذا الاختصاص إن شاء الله تعالى.
No comment yet, add your voice below!