الرزق بمفهوميه السطحي والعميق
الرزق بمفهوميه السطحي والعميق
من النَّاس مَن يحصرُ في ذهنه مفهومَ الرزق بالمال والأملاك… فإذا خسر ما يملك، أو لم يستطع أن يبلغَ ما تعلّق قلبه به من ماديات الحياة… سخط على واقعه… وربَّما سخط على قدره.
هؤلاء عليهم أن يعيدوا النظر في نظرتهم إلى الحياة، وإلى سنن الله مع خلقه، وأن يعوا حقيقةَ بأنَّه لن يكون الجميع أغنياء حدَّ الترف، ولن يكون الجميع مرتاح البال على الدوام، ولن ينعم الجميع بسكنٍ خاصٍّ يلجؤون إليه آخر نهارهم، ولن يكون للبعض زوجٌ يؤنسهم، ولن يكون للبعض الآخر ولدٌ وذرية، لن يستطيع البعض أن يكملوا تحصيلهم العلمي لدرجاتٍ عالية، لن ولن…
وهذا واقع الحياة الذي نعيشه بلا اختيارٍ منا، بل هو الواقع الذي اختاره خالقنا جلّ وعلا… اختار أن يعطي ويمنع، أن يبسط ويقبض… وأن يهب ويحرم… كلُّ ذلك لحكَمٍ ربَّانية… قد تكون لخيرٍ دنيويٍّ، ولدفع شرٍّ قد يكون، وقد تكون اختباراً وابتلاءً…
من المريح للنفس البشرية والعقل البشري أن يستسلما لواقع العبودية الذي أقامنا الله عليه، أن يخضعا لسنن الله الكونية في خلقه …فلمَ العناءُ في شيءٍ لن يجديَ العناء فيه؟ ولمَ طول التفكير في شيءٍ لن يغيِّر إعمال العقل فيه شيئاً ؟! قال صلى الله عليه وسلم: ” واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ” [الترمذي].
رُسم الكون وفق أسس وسنن… سخطك اتّجاهها لن يغير شيئاً… بل سيعود سخطاً ونقمةً عليك.
وحريٌّ بالعاقل أن يتفكَّر ويعيد لكلٍّ نصابَه بلا إفراطٍ أو تفريط… فيستشعر نعمَ ربِّه عليه… يقنع بما وهبه… ويكون على يقينٍ تامٍّ أنَّه لن يملك كلَّ شيء… لا يمدُّ عينيه إلى ما أعطاه الله لغيره، ممَّا لم يُقسم له، فهذا لن يزيده إلَّا حسداً ونقمةً… قال حاتم الأصم: “رأيت الناس يذمُّ بعضهم بعضاً، ويغتاب بعضهم بعضاً، فوجدت أصل ذلك من الحسد في المال والجاه والعلم، فتأمَّلت في قوله تعالى: “نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم معِيشَتَهُمْ فِي الحيَاةِ الدُّنْيَا ” فعلمتُ أنَّ القسمة كانت من الله في الأزل فما حسدت أحداً “ [مختصر منهاج القاصدين].
فقد قسَم الله الأرزاق المادّية والمعنوية، وأمر بالسعي. أمر بالتوكُّل لا بالتواكل، والتوكُّل كما عرَّفه العلماء الربَّانيون: “هو اضطرابٌ بلا سكون، وسكونٌ بلا اضطراب “. أمر بسعي الجوارح والأعضاء، وبراحة القلب واطمئنانه.
مشتِّتات القلب في هذا العصر كثيرةٌ، نعم، وعلى رأسها “السوشال ميديا“، ومرض المثالية المفرطة الذي أصبح متفشّياً بين الناس، وهي في مجموعها سببُ كثيرٍ من الأمراض النفسية، فكم من فتاةٍ ساخطةٍ على شكلها بسبب “الانفلونسرز“، وكم من شابٍّ ساخطٍ على واقعه وحالته المادية، بسبب “البلوغرز، واليوتيوبرز“، وكم من زوجةٍ غير راضيةٍ بما قُسِمَ لزوجها من المال، وتشدِّد عليه وتلحُّ في طلب مالا طاقة له به، ممَّا أدَّى إلى ذهاب الودِّ والسكينة، وانمحاق البركة، وكم وكم.
ولو تفكّروا قليلاً، لوصلوا إلى حقيقة أن لا أحد لديه السعادة الكاملة، كلٌّ منَّا لديه نقصٌ في شيءٍ أو أشياء، والمقارنة تقتل.
ثمَّ ما أدراك أنَّ ما يتمُّ تصويره حقيقة؟ بشهادة أهله هو ليس بحقيقة. وأنَّه يتمُّ التلاعب بالأشكال، والأطوال، والألوان، كما يتمُّ التلاعب بالعقول، والقلوب، والعواطف، ومسلَّمات الأمور.
من السطحية بمكانٍ أن تأخذ بالقشور الظاهرة، وتصدِّق كلَّما تراه، فكم من “بلوغرز” كانوا يتغنَّون بسعادتهم الزوجية على مدار الساعة، ويظهرون مدى ترفهم المعيشي وراحتهم الحياتية فقط ليصبحوا “تريند”، ثمَّ ما لبثوا أن عرضوا مشاكلهم وخلافاتهم على الملأ، هؤلاء عبيد للمال، ورأس مالهم الحقيقي هو من العقول المُغيّبة التي تنجرُّ خلفهم، وتفاهة تفكير من يدعمهم.
ولا يخفى عليك الأثر النفسي لإدمان “السوشال ميديا“، والتأثُّر بمحتواها على الصغير والكبير، والدراسات والأبحاث كثيرةٌ في هذا المجال. فالانجرار وراء مادّيات الحياة والتكالب عليها سببٌ للإصابة بالأمراض النفسية، والكآبة، والأمراض القلبية من: حسدٍ، وحقدٍ، وطغيان النفس على الروح، وسبب هذا كلِّه ضياع الهوية الفكرية، والتشتُّت الفكري، والانحراف عن مصدر الفكر السليم للبشرية ألا وهو كتاب الخالق وشِرعة نبيّه، فتحوَّرت المفاهيم وتغيَّرت المسلَّمات.
فمفهوم الرزق مثلاً أصبح محصوراً في المال والمادَّة، وأخرجنا منه كل ما سواهما.
تناسينا نِعمَ الصحَّة، والعافية، والولد، والوالدين، والسكينة، والعلم، والقدرة على التفكير، والتعقُّل.
تناسينا نعمة الإسلام والقرآن، ونعمةَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، تناسينا نعمةَ الصلة بالله.
تناسينا نِعم الأكل، والشرب، والعمل، ونِعم الحبِّ، والعطف، والرحمة.
تناسينا نعمة تكريمنا من قبل الله حين جعلنا خلفاء في الأرض.
تناسينا نعمة الشكر والصبر، ونعمة امتحانات الله، والعقبات التي يضعها في طريقنا ليعيدنا إليه بعد غفلة.
تناسينا نعمة رمضان، والليالي العشر، وأيَّام الله.
تناسينا أنَّ الرزق الحقيقيَّ هو الصِّلة الدائمة بالله دون بعدٍ أو جفاء.
تناسينا إرادة الله فينا عندما قال: “والله يريد أن يتوبَ عليكم، ويريدُ الذين يتَّبعون الشهواتِ أن تميلوا ميلاً عظيماً ” [النساء:27]
تناسينا أنَّنا عبيدٌ له، ولو أراد بنا فقراً، وجوعاً، وعطشاً، مدى عمرنا، لم يكن لنا من الأمر شيءٌ إلَّا أن نقول سمعاً وطاعة.
ولكنَّه لم يرد ذلك، فقد أعطى وأسبغ، وكَفل لنا أرزاقنا المادّية من طعامٍ، وشرابٍ، وحاجاتٍ للجسد. قال ابن جرير: هو الرزَّاق لخلقه، المتكفِّل بأقواتهم، وهذا الرزق عامٌّ لجميع المخلوقات، البشر وغيرهم، قال تعالى: ((وما من دابَّةٍ في الأرض إلَّا على الله رزقُها ويعلمُ مستقرَّها ومستودَعها كلٌّ في كتابٍ مبينٍ)) [هود: 6].
ولكن يوجد مفهومٌ خاصٌّ للرزق كما قال العلماء، وهو يشمل عطاء القلوب العلمَ النافع، والهداية والرشاد، والتوفيق إلى سلوك الخير، والتحلِّي بجميل الأخلاق، والتنزُّه عن رديئها، قال الإمام الشعراوي: ((الرزق هو ما انتفع به، فالذي تأكله رزق، والذي تشربه رزق، والذي تلبسه رزق، والذي تتعلَّمه رزق، والصفات الخلقية من حلمٍ وشجاعة وغيرها هي رزق، وكلُّ شيءٍ يُنتفع به يُسمَّى رزقاً)).
فواجبنا بوصفنا مسلمين تحرِّي الحلال، والسعي وعدم التواكل، والأخذ بأسباب البركة في الرزق، ومنها: صلة الرحم، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: “من أحبَّ أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه” [رواه البخاري]، وصدق التوبة والاستغفار، قال تعالى: ((فقلت استغفروا ربَّكم إنَّه كان غفَّاراً يُرسلِ السماءَ عليكم مدراراً ويُمددكم بأموالٍ وبنينَ ويجعلْ لكم جنَّاتٍ ويجعلْ لكم أنهاراً )) [نوح:12-10].
أمَّا نتيجة ذلك فلا نملك إلَّا الرضا بها، ومن واجبنا أيضاً: ألَّا نربط مفهوم الرزق بالمادَّة وحسب، وألَّا نغفل عن شكر خالقنا على ما وهبنا من نِعَم -شكر قلبٍ وعمل- لا شكر لسانٍ فحسب، وأن نغرس في عقول أبنائنا مفاهيم الرزق بأوسع أبوابه، ونعرِّفهم سننَ الله في خلقه، ونسعى أن تنالنا من الله الأرزاق المعنوية، وذلك بأن نُريَ الله من أنفسنا خيراً، وأن نُلِحَّ في الدعاء، ونجِدَّ في الطلب.
No comment yet, add your voice below!