هل ينقلب البغضُ حبّاً.. بكلمة؟!
هل ينقلب البغضُ حبّاً.. بكلمة؟!
بقلم: أحمد الشافعي
تخيلوا أنَّ رجلاً كان سيِّداً في قومه، وأحدَ زعماء المشركين الذين آذوا المسلمين والنَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، يقع أسيراً بين أيدي مجموعةٍ صغيرةٍ من المسلمين، كانت قد خرجت قبالة نجد في مهمَّة استطلاعية، وتحسُّباً لأيِّ غارةٍ قد يُغار بها على المدينة.
جاء الصحابة بهذا الرجل وربطوه في سارية المسجد، وهم لا يعرفون أنَّ هذا الأسير هو سيِّد أهل اليمامة، وهو بمثابه صيدٍ ثمينٍ أصبح بحوزتهم، وتحت تصرُّفهم.
لما رأى النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم هذا الأسير عند سارية المسجد عرفه، وقال لأصحابه: أتعرفون من الرجل؟ هذا “ثمامة بن أثال” الحنفيُّ سيِّد اليمامة.
_ هذه القصَّة ليست مجرَّد كلماتٍ من سيرته صلَّى الله عليه وسلَّم يُستأنس بها فقط، ولكن إن أمعن صاحب النظر بين سطورها فسيجد فيها العبر والحكم، وبُعدَ النظر في تصرُّف النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
فقد أمر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أصحابه أن يحسنوا ضيافته، فتسابقوا رضوان الله عليهم لتقديم أخيَر ما عندهم من طعامٍ وشراب، ويقال أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم قدَّم له من حليب ناقته، وجاء إليه وسأله: “ما عندك يا ثمامة” فقال: “عندي خير، إن تقتل، تقتل ذا دم، وإن تُنعم، تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل منه ما شئت”.
وقف الصحابة يرقبون ردَّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فما كان منه صلَّى الله عليه وسلَّم إلَّا أن تركه وذهب، وعاد إليه في اليوم التالي، وقال: “ما عندك يا ثمامة”، فأعاد ثمامة مقولته: “إن تقتل، تقتل ذا دم، وإن تُنعِم تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد مالاً فاسأل ما شئت”، فتركه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يردَّ عليه، وعاد إليه في اليوم الثالث، وسأَله: “ما عندك يا ثمامة” فأعاد مقولته أيضاً: “إن تقتل…”.
لكنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أخذ قراراً بشأن الأسير هذه المرة، وقال: “أطلقوا ثمامة”.
مشى ثمامة مذهولاً ممَّا جرى، وكذلك الصحابة، فمثل هذا الرجل قد يُكسب مقابل حريَّته الكثير، وخصوصاً أنَّه سيِّدٌ في قومه…!!
هل انتهت القصَّة هنا…؟!
ما حصل مع ثمامة، وما لقيه من إحسانٍ وعفوٍ من النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وما شاهده خلال تلك الأيَّام في المجتمع المسلم من أخلاقٍ ومعاملات، كان مختلفاً تماماً عن تلك الإشاعات التي تُطلَق عن المسلمين، وكان ذلك كلُّه كفيلاً بأن يُدخل الهداية إلى قلبه، فما إن خرج من المسجد حتَّى انطلق إلى نخلٍ قريبٍ من المسجد، فاغتسل ثمَّ دخل إلى المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمَّداً رسول الله، يا محمَّد، والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ، والله ما كان من دينٍ أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ دينٍ إليّ، والله ما كان من بلدٍ أبغض إليَّ من بلدك فأصبح بلدك أحبَّ البلاد إلي، وإنَّ خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشَّره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمره أن يعتمر، فلمَّا قدم إلى مكَّة قال له قائل: صبوت (خرجت من دينك)؟ قال: لا، ولكن أسلمت مع محمَّدٍ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّة حنطةٍ حتَّى يأذن فيها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقطع ثمامة بالفعل عن أهل مكَّة ما كان يأتيهم من محاصيل وغذاء، وحين أحسُّوا بالضرر، ما كان منهم إلَّا أن بعثوا بكتابٍ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يشتكون إليه حالهم إثر منع المؤنة عنهم، ويطلبون منه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يكلِّم سيَّد اليمامة أن يتراجع عن قراره.
وبالرغم من حالة الحرب مع مشركي مكّة، إلَّا أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم كتب إلى ثمامة: “أن خلِّ بين قومي وميرتهم”، فامتثل ثمامة لأمر النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، واستأنف إرسال المحاصيل إلى مكَّة، فارتفع عن أهلها الخوف من المجاعة.
أخيراً… ولنرجع الآن إلى بداية القصَّة، ولنفترض أنَّ الأمور لم تسر كما سارت، ولم يتعامل معه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على هذا الشكل، فما كان ليحصل حينئذٍ؟
هل كان لثمامة أن يُسلم، ويَحسُن إسلامه، وهل سيكون لاحقاً من فضلاء الصحابة، وهل كان ليهدي الله به قومه فيسلم أكثرهم…
لم يكن ذلك لولا حكمة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وتطبيقه لأمرِ الله في التعامل مع الأسرى، والوقوف عند قوله عزَّ وجلَّ في العفو عن المسيء: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسنُ فإذا الذي بينك وبينه عداوة ٌكأنَّه وليٌّ حميم} (فُصِّلت:34).
No comment yet, add your voice below!