ضغوطات الحياة والثبات على الإيمان

ضغوطات الحياة والثبات على الإيمان

ينطلق المسلم في حياته كلِّها من منطلقاتٍ شرعية، ويتحرَّك بناءً على أسسٍ ثابتةٍ قوية، فلا يستسلم لهواه ونفسه الأمَّارة بالسوء، ولا يصبح إمَّعةً يتبع كلَّ متكلم، ويسير خلف كلِّ مناد، كما أنَّه لا يرضخ لضغط الواقع الذي يحيط به، والمجتمع الذي يعيش في وسطه.

هي مشكلةٌ كبيرةٌ وقع فيها عددٌ من الناس، فنرى أحدهم يحبُّ شيئاً، ولكنَّه لا يفعله؛ خوفاً من مخالفة الواقع وانتقادات المجتمع. أو يكره شيئاً وينتقده في نفسه، لكنَّه في الواقع يمارسه مجاملةً لواقعه وبيئته التي يعيش فيها.

وربَّما يتَّخذ أحياناً مواقف فيصلية، ويقرِّر قراراتٍ مهمَّة، ليس راضياً عنها، ولا مطمئناً لها، وإنَّما هناك ضغوطاتٌ وعوامل جعلته يُصدر تلك القرارات، أو يتَّخذ تلك المواقف والتصوُّرات.

فكم من إشكاليةٍ وقع فيها مسايرةً للواقع؟

وكم من مخالفةٍ مارسها نتيجة لضغوطات الواقع؟

وكم من عاداتٍ قبيحةٍ سايَرها مراعاةً للواقع والتماساً لرضى الناس وتجنُّباً لسخطهم؟

وربَّما يقع -والعياذ بالله- في المعاصي… ثمَّ يعتذر بالواقع!

نحن بحاجة إلى التثبـيت والثبات خاصَّةً في هذا الزمان الذي كثرت فيه الشهوات، وتتابعت فيه الشبهات، وازدادت فيه التأويلات، وكثرت فيه الاختلافات، واختلطت فيه الأمور، والتبس فيه الحق بالباطل، فصرنا نقول أقوالاً أو نفعل أفعالاً ثمَّ نحكم عليها أحكاماً غالباً ما تصدر أحكامنا على هذه الأمور من ضغط الواقع لا من حكم الشرع.

قال النَّبيُّ e: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ)) [الترمذي].  

 إنَّ مُشكلة (ضغط الواقع) مشكلةٌ عظيمة، ضعف كثير من المسلمين اليوم أمامها، واستسلموا لها، وضعفوا عن مقاومتها، وإذا كان رسولنا e قد قال له ربَّه: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) [الإسراء: 74] فكيف بغيره؟ فإنَّ غيره أحوج إلى التثبيت، وأولى أن يُخاف عليه من تأثيرات الواقع وضغوطاته.

 وتعظم هذه المصيبة وتشتدُّ حين نجعلها هي الأصل والمطلوب، فكلُّ ما وافق أهواءنا ورغباتنا وخالف الهدي الإسلامي وأحكامه قمنا بضمِّه وأدخلناه ضمن دائرة الإسلام، تحت حُجَّة أنَّه صار واقعاً، ولا مناص لنا من ممارسته وارتكابه، فأدخلنا كثيراً من الأمور في الدِّين ونسبناها إليه والدِّين منها براء، وبدلاً من أن نكيِّف الواقع للإسلام صرنا نكيِّف الإسلام للواقع، وبدلاً من اعتبار الأمور النادرة والرخص استثناءاتٍ وحالاتٍ اضطرارية، قمنا بجعلها منهجاً نمشي عليه ونراه هو الأصل، ومن خالفه فهو المتزمِّت المتشدِّد.

وكأنَّنا نسينا قول الله سبحانه وتعالى: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:63]

وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران:7]    

إنَّ الضغوطات حينما تشتدُّ وتقوى فإنَّها تميِّز أهل الإيمان الحقيقيين عن غيرهم ممَّن يدَّعي الإيمان أو أنَّ إيمانه ضعيف رخو، وتكشف المؤمنين الصادقين من غيرهم، ولهذا حينما اشتدَّ الضغط على المسلمين يوم الأحزاب وبلغ بهم الخوف أشُدَّه، واجتمع عليهم المشركون من الخارج، واليهود من الداخل، وحوصروا من كلِّ الجهات حصاراً خانقاً، انقسم المحاصرون إلى قسمين:

قسمٌ ثبت على دينه، معتزٌّ بإيمانه، صابرٌ على تلك الضغوطات العظام، التي زاغت فيها الأبصار، وبلغت فيها القلوب الحناجر، وهم أهل الإيمان والعزَّة الذين مدحهم الله بقوله: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22]

وقسم آخر تقهقر وانهار لتلك الضغوطات والتأثيرات، فلم يصبر عليها ولم يتحمَّلها، فقال الله عنهم: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) [الأحزاب:12]

 إنَّنا نقول هذا لأنَّ هناك من يقول أنَّه لا عذر اليوم من الواقع وضغوطاته، وأنَّ الإنسان في هذا العصر إن لم يستجب لهذه الضغوطات وينجرف وراءها فإنه سيعيش وحده ويبقى منعزلاً عن واقع الحياة، ولن يستطيع أن يؤثِّر فيها أو يغيّر، ولهذا فلابدَّ عندهم من التأثُّر بتلك الضغوطات، حتى يستطيعوا بزعمهم التغيير من داخل الواقع لا من خارجه، وهذا _لا شكَّ_ تصوُّرٌ مغلوطٌ ومنهجٌ مخالفٌ لمنهج النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، الذي غيَّر وجه الأرض كلِّها دون أن يحتاج إلى الاستسلام لتلك الضغوطات الكبيرة التي كانت تحيط به والأرض يومئذ على الضلال.

يقول النَّبيُّ e: ((إِنِّي مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَهَافَتُونَ فِيهَا أَوْ تَقَاحَمُونَ تَقَاحُمَ الْفَرَاشِ فِي النَّارِ وَالْجَنَادِبِ -يَعْنِي: فِي النَّارِ- وَأَنَا مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنَا فَرَطٌ لَكُمْ عَلَى الْحَوْضِ فَتَرِدُونَ عَلَيَّ مَعًا وَأَشْتَاتًا فَأَعْرِفَكُمْ بِسِيمَاكُمْ وَأَسْمَائِكُمْ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الْفَرَسَ فَيُؤْخَذُ بِكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: إِلَيَّ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: أَوْ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، كَانُوا يَمْشُونَ بَعْدَكَ الْقَهْقَرَى…)) [مسند البزار]

المطلوب اليوم منَّا جميعاً الثبات على الدين، والصبر عليه، وعدم الاستسلام للواقع وضغوطاته وتأثيراته، فإنَّ ربَّنا تبارك وتعالى يقول: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ) [إبراهيم:27]  

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *