حقيقة العبادة
حقيقة العبادة
لا يمكن بحث «السلوك» مع تجاهل الأسباب التي أدَّت إليه، أو العوامل التي تمخضت عنه، وعلماء الأخلاق في شرحهم لـ«السلوك» يفيضون في بحث الوراثة والبيئة، والمقاصد والغايات وما أشبه ذلك، وليس هذا ما نعتني به هنا.
إنَّ السلوك -من الناحية النفسية– أثر المظهر الثالث من مظاهر الشعور في الإنسان الحي، ومظاهر الشعور كما حدَّدها علم النفس هي الإدراك، والوجدان، والنزوع.
فإذا أردت التعرُّف على نزعةٍ من النزعات، والإحاطة بشُعب العمل الذي يصحبها فيجب أن تعرف مظاهر الشعور التي تسبقها، حتى تبني علمك على قواعد سليمة.
والذين ينظرون إلى العبادات المختلفة على أنَّها أعمالٌ لا وحدة فيها، ولا رباط بينها، أو أنَّها تكاليف ينهض إليها المرء راضياً أو كارهاً، أو سلعَ يشتريها الخادم من السوق ويدفع بها إلى السيد الذي يطالب بها، الذين ينظرون إلى العبادات هذه النظرة هم قومٌ يجهلون الدِّين جهلاً مطبقا، وكثيرٌ من العابدين يباشرون الطاعات المعروفة كأنَّها استعاراتٌ من خارج الجوِّ الذي يعيشون فيه، استعاراتٌ مجلوبةٌ على النفوس فارغة من معناها كلِّه أو جلِّه. والحقُّ أنَّ للعبادة التي أمر الله بها وخلق العالمين من أجلها شأنٌ فوق ذلك، إنَّها شعورٌ مكتمل العناصر، يبدأ بالمعرفة العقلية، ثمَّ بالانفعال الوجداني، ثمَّ بالنزوع السلوكي، فالصورة الأخيرة ثمرة ما قبلها.
وهذا هو الوضع الصحيح لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإحسان الخلق، وقول الحقّ، وسائر العبادات الأخرى.
إنَّ العبادة الأولى في الإسلام، هي معرفة الله معرفةً صحيحةً، والعقل المستنير بهذه المعرفة هو القائد الواعي لكلِّ سلوكٍ صحيحٍ والأساس المكين لكلِّ معاملةٍ متقبَّلة، ويوم تتلاشى هذه المعرفة من لبِّ الإنسان، فلن يصحَّ له دين، ولن تقوم له فضيلة.
والمعرفة الصحيحة لله تهون من قمَّة الأخطاء التي يتورَّط فيها المرء، لأنَّها أخطاء عارضة، أو خدوش سطحية. أمَّا الجهل بالله فهو الخطيئة التي لا تغتفر، ولا يصحُّ معها عمل، ومن ثمَّ يقول الله في كتبه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}، ذلك أنَّ الشرك دلالة جهلٍ غليظٍ بالله عزَّ وجلَّ.
وهل أحمق من رجلٍ يسكن عمارةً ضخمةً، فإذا هو يتوهَّم أنَّ سلال القمامة المبعثرة فيها هي التي قامت على بنائها؟
أليس هذا مثل الوثنية المخرفة التي تردُّ مظاهر الوجود الكبرى إلى بعض الجماد، أو الحيوان، أو الإنسان؟
والمعرفة المعتبرة، هي التي تستمدُّ من ينابيعها الفريدة، أي من أعمال الله وأقواله، أي من صنعه في كونه، أو من كلمة في وحيه، وليست هناك معرفة وراء ذلك.
لا يمكن أن يعتبر عارفاً بربِّه شعب أبله، يعيش بين الأرض والسماء، فلا يعي من آيات الخليفة شيئاً، ولا يكتشف لأسرارها حلَّاً.
مع أنَّ الله فيما أوحى به إلى رسله بيَّن أنَّ الإيمان الحقَّ إنَّما يقوم على التدبُّر الذكيِّ لهذا العالم، والتجوال البعيد في آفاقه الرحبة.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (*) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
والتفكُّر الباعث على معرفة الله، هو سرُّ توقيره، وأساس تقواه، ولذلك يقول أولئك المفكِّرون الفاقهون:{سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. إنَّ أولي الألباب هم الذين فكَّروا في خلق الله، فاستفادوا في هذا التفكير خشيته، وطلبوا الوقاية من سخطه. فالتقوى إذن ليست وليدة بلادةٍ في الذهن، أو قصورٍ في الفكر، كلَّا، إنَّها وليدة الإدراك الناضج للحياة وما فيها. وهذا معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.
التوسُّع في معرفة الله هو العادة الأولى، والتعرُّف على الله في ملكوته الواسع هو استجابةٌ لما أمر به في كتبه المنزلة، والنتائج التي تتمخَّض عنها علوم المادة لا يمكن إلَّا أن تصادق الوحي المقبل من وراء المادة لأنَّ هذا وذاك من عند الله. وما يتوهَّمه القاصرون من تفاوتٍ أو تناقضٍ بين الدِّين والعلم ليس إلَّا خرافةً صغيرة، خرافة نشأت عن أخطاء المشتغلين بالعلم والدِّين جميعاً. وقد قرأت للعلماء المتوافرين على الدراسات الكونية تصحيحاتٍ لبقة لأخطاء زملائهم العاملين معهم في هذا الميدان، والذين أساؤوا للدِّين عن عمد، أو عن تهور. وأستطيع في دائرة المشتغلين بالدراسات الدينية أن أوضح موقف الإسلام من العلم المادي، فأؤكِّد أنَّ بحوثه وكشوفه هي المقدِّمات العتيدة لليقين الحقّ، وأنَّها الأسلوب الوحيد الذي ارتضاه القرآن لمعرفة الله، وأنَّ إهمال هذا اللون الخطير من المعرفة كان أبرز المعاصي التي أساءت إلى الحضارة الإسلامية، بل إنَّ المسلمين بهذا الإهمال ظلموا أنفسهم ودينهم أفدح الظلم.
لو أنَّ المسلمين الأوائل -بدل أن يشتغلوا بفلسفات الإغريق النظرية- انساقوا مع تيَّار دينهم في البحث الكوني المجرَّد، ولكان ذلك أجدى عليهم وعلى الناس.
إنَّ الرجل لا يسمَّى عالماً بالدِّين، إلَّا إذا كان فقيهاً فيما أنزل الله، ولا يعتبر عالماً بما أنزل الله إلَّا إذا نفذ إلى قليلٍ أو كثيرٍ من معارف الكون، وعلى قدر معرفته بالحياة والأحياء تكون معرفته وخشيته لله ربِّ العالمين. هذه المعرفة إن لم تكن الفضيلة بعينها، فهي هادي السلوك الفاضل وحاديه، إذ المفروض فيها أنَّها تصنع الإنسان صناعةً خاصَّةً، وترقى بعمله كما ارتقت بفكرة إلى أوجٍ رفيعٍ.
من عرف الخالق والخليقة وجب عليه أن ينشد الكمال في عملٍ يؤدِّيه، وأن يتوقَّى العثار في كلِّ لحظةٍ يحياها. والإسلام يوجب على كلِّ داخلٍ فيه أن يُصلح عمله، وهذا العمل الصالح المرتقب من المسلم ليس له نطاقٌ يحدُّه. فالعموم المطلق مقصودٌ في عشرات الآيات التي تجعل (عمل الصالحات) ضميمةً لابدَّ منها مع الإيمان الصحيح.
No comment yet, add your voice below!