تأويل النص الديني في الفكر الحداثي 1
تأويل النص الديني في الفكر الحداثي 1
أصبحت الأرض في ظلّ وسائل التواصل قريةً صغيرةً، تنتقل فيها الأفكار الغربيّة, والتيّارات المختلفة, والفلسفات, والآداب, والفنون إلى العالم بأسره، وتمتزج مع بعضها. وممّا انتشر في العقود الأخيرة: “الحداثة” و “ما بعد الحداثة”، تلك الفكرة التي تبنّاها الغرب في القرون الماضية، وأصبحت نمط حياتهم في شتَّى ميادين الحياة، كالأدب والفلسفة والفنون والسلوك، وقراءة النصوص، ونحوها. ولنقف بدايةً عند مصطلحات هذا المقال.
أوّلاً- الحداثة:
عُرِّفَت الحداثة بتعاريف عديدة، ولم تختلف تلك التعريفات في التعابير فحسب، بل كان بينها اختلاف حقيقيّ في المفهوم، فمنها ما يدخل في غيره، ومنها ما يُباينه في المعنى.
منهم من قال: الحداثة هي النهوض بأسباب العقل والتقدّم والتحرّر.
ومنهم من قال: الحداثة هي ممارسة السيادات الثلاث عن طريق العلم والتقنية، السيادة على الطبيعة، والسيادة على المجتمع، والسيادة على الذات.
ومنهم من قال: الحداثة: قطع الصلة بالتراث، أو طلب الجديد.
ومنهم من قال: محو القدسيّة من العالَم، أو العقلنة.
ومنهم من قال: الحداثة قطع الصلة بالدِّين.
وأمام هذا التعدّد والتردّد في تعاريف الحداثة انتقد الفيلسوف الألماني (يورغن هابرماس) الحداثة، وقال: (الحداثة مشروعٌ غير مكتمل) [ينظر: روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية لطه عبد الرحمن: (ص:23)].
إلا أنَّ الحداثيّين متفقون على محو القداسة، وقطع الصِّلة بالدِّين، وتضخيم دور الإنسان، ليكون مسيطراً بواسطة العلم التجريبي على الطبيعة والمجتمع، وعدم الإيمان بما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا).
ثانياً- ما بعد الحداثة:
تجاوز الغرب مرحلة “الحداثة” إلى “ما بعد الحداثة“، ولا بدّ من التعريج عند مصطلح “ما بعد الحداثة”، والمقارنة بينه وبين “الحداثة”.
فإنّ مرحلة “ما بعد الحداثة” تختلف عن مرحلة “الحداثة” كلّيّاً، فبعدما كان الإنسان في مرحلة “الحداثة” مسيطراً على الطبيعة، تحوّل فيما بعد الحداثة إلى كائنٍ زمانيٍّ ومكانيٍّ خاضعٍ لحتميّات الطبيعة، فهي تفعل به ولا يفعل بها، ولا سلطة له عليها، كالحيوان الأعجم، ولا يأبه لشيءٍ إلَّا لإشباع غرائزه، واتّباع أهوائه، وكلُّ شيءٍ لديه متاح، فإنّ هذه المرحلة هي التمرّدٌ على الثوابت، والضياع الأخلاقيِّ والنفسيِّ، والعزلة، والتحرّر المفتوح بما في ذلك الشذوذ، والجندر، والتحوّل.
أمّا من حيث قراءة النصوص والمعاني: ففي “ما بعد الحداثة” تنقطع الصلة بين الألفاظ ومعانيها، فلا علاقة للدال على المدلول، وإنّ معاني النصّ متعدّدة بعدد القرّاء، وكلٌّ يفهم النصّ على مراده دون ضوابط، كما قال عالم اللغة السويسري (فرديناند دي سوسير-1913) واضع أسس علم اللغة البنيوي: إنّ علاقة الدالّ بالمدلول لا تستند إلى أيّ صفاتٍ موضوعيّةٍ كامنةٍ في الدَّالّ، ومن ثمَّ فالعلاقة ليست ضروريّةً أو جوهريّةً أو ثابتة، فهي علاقةٌ اعتباطيّةٌ أو عشوائيّة.
ومن ثمّ كما عند (دريدا) فإنّ “ما بعد الحداثة” ليست معاديةً للمنظومات الدينيّة التي تُحافظ على معاني النصوص فحسب، بل هي معاديةٌ للمنظومات الإنسانيّة والإلحاديّة أيضاً، كون “ما بعد الحداثة” لا تؤمن بأيّ ثابت.
لذا تتَّسم “ما بعد الحداثة” بالتغيّر والسيولة والفوضويّة المطلقة، فهي استراتيجيّةٌ دون غاية، وتفكيرٌ دون هدف.
الفرق بين “الحداثة” و”ما بعد الحداثة”:
تعدُّ “الحداثة” مرحلة علاقة العقل بالواقع، والعقلانيّة (مرحلة الثبات والصلابة)، ويكون الإنسان هو الإله أو بديلاً عنه، ولا قداسة إلَّا للعلم التجريبي، ولا حاجة للإله.
أمّا “ما بعد الحداثة”: فهي مرحلة السيولة والتغيّر، وعدم العقلانية، والفوضى الفكرية والسلوكيّة والعلميّة، واعتبار العلاقات بين الأسباب ومسبِّباتها وهميّة، وفكّ العلاقة بين الدالّ والمدلول في اللغات، وعدم الاهتمام إلّا بالغرائز والأهواء.
أمّا الوجه المشترك بينهما:
فكلاهما يشتركان في معاداة التراث، ونفي القداسة، والتحرّر من قيود العادات والأديان، والتلاعب في تأويل النصوص الدينيّة.
إلّا أنّ الحداثيّيّن يقرؤون النصَّ الديني قراءةً أدبيّةً، بناءً على فلسفةٍ معيّنةٍ في تحريف دلالاته الأصليّة، ويبحثون عن رابط بين الدالّ والمدلول ولو كان وهميّاً.
أمّا دعاة “ما بعد الحداثة” وأنصارها فهم أكثر فوضى وعشوائيّة في ذلك، فلا يرون علاقةً أصلاً بين الدالّ والمدلول، واللفظ والمعنى، ولا يأبهون لوجود تراثٍ أو نصٍّ دينيٍّ أو أدبيّ أصلاً.
ثالثاً- التأويل:
التأويل عند علماء اللغة: هو صرف اللفظ عن ظاهره الحقيقيّ إلى المجازي، أو تعيين أحد معاني اللفظ المشترك، لقرينة ترجّح ذلك المعنى.
أمّا ترجيح المعنى المجازي على الحقيقي: فإذا قلنا (زيد بحر) أدرك السامع أنّ كلمة (بحر) ليست على حقيقتها، بل المقصود بها سعة العلم، أو الكرم، فالتأويل يقع على كلمة (بحر) فتُصرَف عن ظاهرها بما يناسب السياق.
أمّا تعيين أحد معاني اللفظ المشترك: ففي قولنا: (هذه عينٌ صافية) نحمل كلمة (عين) على عين الماء، مع أنّ كلمة (عين) من المشترك، فتحتمل العين الباصرة، وتحتمل عين الشمس، وتحتمل معنى الجاسوس، وتحتمل معنى عين الماء، ، وتحتمل معنى الذهب، وتحتمل معنى الذات المبهمة.
لكنّ الذي رشّح معنى (عين الماء) صفة الصفاء التي كانت قرينةً في ترجيح أحد تلك المعاني على غيرها.
وهناك ضوابط للتأويل في الشريعة، فالأصل في الألفاظ أن تُحمَل على حقيقتها، ولا يُصار إلى المجاز إلّا إذا تعذّرت الحقيقة؛ للحفاظ على مراد واضع النصّ.
فالنصُّ الديني في الإسلام يقوم مقام النصِّ القانوني عند علماء القانون، لا بدَّ من الحفاظ على معناه الدقيق، ولا يصحّ تأويله وإخراجه عن ظاهره دون مسوّغ؛ لأنّ تأويل الخطاب التكليفي في النصِّ الديني بالخروج عن الضوابط التي وضعها علماء الأصول يكون إلغاءً له، وتغييراً للأحكام الثابتة التي جاء بها الإسلام، وهذا مناقضةٌ للشريعة.
التأويل والتفكيك عند الحداثيّين:
استخدم الحداثيون في قراءة النصوص الدينيّة والأدبيّة منهج التفكيك ومنهج التأويل.
أمّا منهج التفكيك فهو الانقضاض على النصّ وإلغاؤه إلغاءً كلّيّاً، وفرض رؤية القارئ عليه، فيُسقِط عليه مفاهيمه وأفكاره، ويخضعه لنموذج التفكير الغربي، ويكون للنصِّ عددٌ لا نهائيٌّ من التأويلات، دون الاستناد إلى أيِّ طريقةٍ أدبيّةٍ أو منهجيّة. [ينظر: السيرورة السيميائيّة ومشروع الدلالات المفتوحة د. سعاد بن سنوسي: (ص:222)].
أمّا التأويل: فهو حالةٌ خاصَّةٌ من حالات تفسير النصِّ وفهمه؛ حيث يقطع القارئ النصَّ عن زمنه ومؤثّراته وسياقه، ويجعله أسيراً لذهنيّة القارئ والمتلقّي ليفهمه وفق معاييره الخاصّة في زمن القراءة، ويُسقطه على فلسفةٍ من الفلسفات التي يتبنّاها، وينفي وجود معنى أصليّ مقصود له، وسيأتي تفصيل مناهج التأويل في المقال القادم إن شاء الله.
ينطلق الحداثيّون في تأويل النصِّ الديني من خلال الآتي:
1- نفي القداسة؛ لأنّهم ينطلقون من إنكار سلطان الدِّين والأعراف.
2- النظر في النصِّ الديني على أنّه نصٌّ أدبيّ: فلا فرق عندهم بين القرآن الكريم وقصائد شكسبير.
3- تاريخيّة النصِّ الدِّيني: فإنّ النصوص الدِّينيّة كُتِبت في فترةٍ تاريخيّةٍ معيّنة، وتتغيّر دلالاتها ومعانيها تغيّراً جذريّاً حسب ما يصلح له النصُّ في كلِّ زمان، ومن ثمَّ فإنَّ معاني الكتاب والسنّة اليوم ليست هي المعاني التي كانت في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ويحلّلون النصوص ويؤوّلونها من مفهوم (موت المؤلّف) أي يتناولون النصِّ الديني والأدبي بالتأويل والنقد، بعيداً عن تأثير مؤلّفه وما يقصده من كلامه، ويستبعدون جميع المؤثِّرات المتعلَّقة بالمؤلِّف وبالنصّ، كالغرض من إيراده، والبيئة والثقافة، ونحو ذلك، والاقتصار على تحليل العلاقات الداخلية بين البُنى النصّية، وكأنَّ المؤلِّف قد مات ولا علاقة له بما كُتِب.
No comment yet, add your voice below!