الحوار أصل في الشريعة الإسلامية
الحوار أصل في الشريعة الإسلامية
لما شاء الله تعالى أن يوصل رسالاته إلى البشر عبر الرُّسُل الكرام الذين اصطفاهم، وكرَّمهم، وأوحى إليهم؛ قضى لتلك الرسالات أن تصل بوسائل عديدةٍ أبرزها الحوار: ثمَّ ضبط ذلك بضوابط شتَّى تضمن سلامة الحوار؛ لسلامة وصول الرسالة من بابٍ أولى. فقد حاسب الإسلام أبناءه على ما تنطق به ألسنتهم: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيْبٌ عَتِيْدْ﴾ [ق18]. وحثَّهم على حُسن الكلام: ﴿وَقُوْلُوا لِلنَّاسِ حُسْنَاً﴾ [البقرة83]، ثمَّ أعلى قيمة الكلمة الحسنة: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِيْنٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم24].
ليس الحوار في الإسلام مجرَّد مُجاملةٍ اجتماعيةٍ، ولا ترفاً فكرياً، أو نافلةً من القول، بل هو أساسٌ راسخٌ في إيصال حقائق الشريعة الإسلامية إلى العقول والقلوب: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيْلِ رّبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالموْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل125]. فقد رسَّخ الإسلام مبادئه الأساسية سواءً في العقيدة والإيمان أو الفقه والأخلاق، أو غيرها من دقائق الدِّين على أساس الحوار، والنقاش، والإقناع بالحجَّة والبرهان؛ استناداً إلى موازين المنطق والعلم، بما لا يُخالف العقل السليم، والفطرة السويَّة الصافية، فيحذِّر الإسلام من اتِّباع أيِّ معتقدٍ إلَّا بناءً على بيِّنةٍ من الدليل العلميِّ المحايد، الصافي عن شوائب الأهواء الشخصية، والرغائب، والعصبيَّات النفسية: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولَاً﴾ [الإسراء36]، وكان هذا هو الأساس الذي ينطلق منه الإسلام في حواره مع الناس، ويُطالبهم بعد ذلك أن يتحاكموا بمقتضاه.
منهج الحوار في الإسلام:
تتَّضح ملامح هذا الحوار وأُسسه فيما يعلِّمنا إيَّاه القرآن الكريم، والحديث النَّبويُّ. وأهمُّ هذه الملامح:
أوَّلاً: تحريض العقل وسوقه إلى الحقائق عن طريق الإقناع المنطقيّ، فانظر إلى حوار سيِّدنا إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [اﻷنعام 75 – 79].
ثانياً: البيان الواضح، وإزالة الأسباب التي تلبس الحقَّ بالباطل، بعيداً عن الإرغام والإجبار: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ [الغاشية22]، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَّيِّ﴾ [البقرة256].
ثالثاً: المنطق الذي لا يخالف البداهة: فإذا ما كانت المحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة، فلا يرفض الشرع الإسلاميُّ الحوار في أيِّ أمرٍ كان، لكنَّه يضبطه بضوابطه الصحيحة. فالحوار في الإسلام يفسح المجال أمام العقل غير المتعصِّب لهوىً، أو الأسير لنفسٍ أن يصل إلى جوهر الحقيقة بِيُسرٍ وسلاسةٍ، لأنَّه يسوقه بمنطقيةٍ لا تخالف ولو أبسط بدهيَّاته.
وانظر إلى ذلك في الحديث النبويِّ عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: ((إنَّ فتىً شابَّاً أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال: ((ادنه))، فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: ((أتحبُّه لأُمِّك؟))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا النَّاس يحبُّونه لأُمَّهاتهم))، قال: ((أفتحبُّه لابنتك؟))، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا النَّاس يحبُّونه لبناتهم))، قال: ((أفتحبُّه لأختك))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا النَّاس يحبُّونه لأخواتهم))، قال: ((أفتحبُّه لعمَّتك؟))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا النَّاس يحبُّونه لعمَّاتهم))، قال: ((أفتحبُّه لخالتك))، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا النَّاس يحبُّونه لخالاتهم))، قال: فوضع يده عليه، وقال: ((اللهمَّ اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فَرْجَه))، فلم يكن بعد -ذلك الفتى- يلتفت إلى شيء. [رواه الإمام أحمد].
فلم يُمْلِ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على الشابِّ الموعظة جامدةً جافَّةً إلَّا أن يجعل الحقَّ يخرج على لسانه هو بعد الإقناع والصبر، وتغزُر أمثلة ذلك في السيرة النبوية والقرآن الكريم.
وبهذا يعلِّم الإسلام أبناءَه أدب الحوار بطريقٍ غير مباشرة، فإذا ما تأدَّبوا بذلك الأدب كان كفيلاً أن يودي بمُحاوِرِهم إلى جادَّة الحقيقة، فالحوار هو السبيل الأمثل والأجدى في عرض الإسلام على من لا يعرفه أصلاً. وهو الأداة الفعَّالة في حلِّ الخلافات الفكرية إذا ما نشأت بين أبنائه، وهو من أفضل الوسائل لكسب العقول والقلوب في زمنٍ حادت فيه البشرية وتاهت عن الطريق إلى الله تعالى خالقها ومولاها.
No comment yet, add your voice below!