مفاهيم متغيرة والثابت واحد
مفاهيم ومتغيرة والثابتواحد
إنَّها الشريعة التي اختصَّها الله تعالى بأن تكون صالحةً لكلِّ الأزمنة والأمكنة، شريعةٌ كان قرآنها دستوراً لا تنقضي عجائبه، جعل فيه سبحانه أحسن القصص في البلاغ للرَّسالة والذكر الحكيم، أنزل فيه المحكم والمتشابه ليكون آيةً في إعجازه إلى يوم يبعثون، دستوراً للحياة ومنهجاً للنجاة.
الرسالة الخاتمة (رسالة الإسلام) التي اختارها الله للبشر من فوق سبع سماواتٍ كمنهجٍ للحياة تضبط علاقة الناس بربِّهم وعلاقتهم ببعضهم البعض. نهج متكاملٌ يبدأ بالقرآن ولا ينتهي بالسُّنَّة، مع اعتبارهما أساس هذا الدِّين، ليأتي الصحابة والتابعون ومن بعدهم الأئمَّة والفقهاء والعلماء الذين تمكَّنوا من علوم الشريعة وأصولها ليستنبطوا منها القواعد الكلِّية التي ترتبط بحياة الإنسان ومعاملاته فتنتج عنها أحكامٌ تُصلح وتضبط حياة المسلمين في أحكامهم ومعاملاتهم فيتكوَّن لدينا ما نسمِّيه بـ (الفقه الإسلامي).
لم يختر الله سبحانه وتعالى الإسلام شريعةً خاصَّةً بشعبٍ أو قوم، إنَّما جعله دين العالمية: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ-28].
وليكون هذا الدِّين خالداً فلا بدَّ أن تكون تشريعاته وأحكامه مناسبةً لكلِّ زمانٍ ومكان، ومن خصائصه أن يكون مرناً في محتواه يتلاءم مع متغيِّرات الزمان، ثابتاً في أصوله كالشجرة تضرب الأرض بجذورها، مورقةٌ في أغصانها، تغيّر أوراقها على مدار الفصول لتبقى عبقةً نضرة: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُها في السَّمَاءِ﴾ [إبراهيم-24].
وبذلك جمعت الشريعة الإسلامية الغرَّاء في داخلها بين الثبات والتغيّر، وهذه الخاصية واحدةٌ من مظاهر الإعجاز التشريعيّ التي لا يمكن أن تتوافر إلَّا للشريعة الإسلامية الخاتمة، لأنَّها ربَّانيةٌ، مُوحى بها من عند الله الذي خلق الخلق وهو بأزمانهم وأحكامها حكيمٌ خبير، مُحيطٌ عليمٌ بفطرتنا وطبائعنا وأزماننا وما يناسبها.
فالقرآن والسُّنَّة أصولٌ للشريعة، والفقه ما هو إلَّا استنباطٌ للأحكام التي يحتاجها كلُّ مسلمٍ في حياته، وقد يختلف الفقهاء في الأحكام التي تفهم من نصوص الأصلين، ولا يمكن لمؤمنٍ يريد أن يعيش حياته كما اختارها له ربُّه بأن يفصل الشريعة عن الفقه، فأصوله تحتاج إلى خبراء عالمين عارفين يستنبطون أحكامه من أدلَّته الشرعية، فمنها ما هو قطعيٌّ ومنها ما هو ظنِّيٌّ، تجد فيه الكلِّيات والجزئيات، أركانه ثابتةٌ راسخةٌ لا خلاف فيها، والتي تمثل مجموعةً من الأحكام القطعية، وهي مدار بقيَّة الأحكام، وما يجري من اجتهاداتٍ فرعية لا بدَّ من أن تكون ضمن تلك الأطر للأصول الكلية.
ما هو الثابت إذن؟
الثابت في اللغة: اسم فاعلٍ من ثبت الشيء ثباتاً وثبوتاً فهو ثابتٌ وثبيت، وثبت، والثبات فيه معنى الديمومة والاستمرار والملازمة والبقاء.
فالثابت في الإسلام هو مجموعة الأسس والحقائق التي لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، كأصول العقيدة وأركان الإيمان الستَّة، وأركان الإسلام الخمسة، وما يتعلق بالله سبحانه من توحيده وإثبات أسمائه وصفاته وأفعاله، وإفراده بالألوهية والرُّبوبية والعبادة، وأصول العبادات والمعاملات ومكارم الأخلاق، وإنَّ الإسلام هو وحده الدِّين المقبول عند الله سبحانه، قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران-19]، وغيرها من أصول الإسلام التي يصعب حصرها، والتي منها وجوب الالتزام بأحكام الله تعالى وتشريعاته، وعدم جواز إقرار أيِّ تشريعٍ يخالف تشريعه سبحانه، فأركان الدِّين من عقيدةٍ وقيّمٍ ومقاصد ثابتةٍ لا تتغيَّر، أمَّا الجانب المرن في الدِّين إنَّما كان في الشقِّ التشريعيِّ المعاملاتي، ويظهر ذلك جلياً في العديد من آيات القرآن الكريم .
الثابت اصطلاحاً :
يُقصد به التشريعات التي لا تتبدّل مع تغيُّر الزمن والتي تتَّصف بالاستقرار والديمومة المطلقة، فالثابتُ هو مقصد الدِّين والغاية التي من أجلها أرسل الله الرسل في كلِّ زمانٍ ومكانٍ كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتابَ والميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيْدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ [الحديد-25]، فإقامة العدل وتحقيق العدالة بين الناس مقصدٌ ثابتٌ وهدفٌ وغايةٌ جاء الرسل لتحقيقها على أرض الواقع في كلِّ حين، وهي تحتاج إلى وسائل للوصول إليها، والمقصود بذلك إرسال الرسل بشريعةٍ سماوية، فالهدف هو مقصد الدِّين الثابت، والوسائل وهي الشريعة وهي متغيِّرة بتغيُّر الزمان والمكان.
وقد أطلق الفقهاء اسم الإجماع على الثابت، ومثاله وجوب الصلاة والزكاة والحجِّ وصيام رمضان وليس شهراً آخر، وأنَّ الوضوء شرطٌ للصَّلاة ويأتي قبلها (وليس بعدها) وأنَّ البيع حلالٌ، والزواج حلالٌ، ووجود أحكامٍ للطَّلاق والقصاص والحدود وحرمة السرقة والزنا والرِّبا والقتل والعدوان والميتة، وهي الأحكام التي وصلت إلينا بدليلٍ قطعيٍّ لا يقبل التغيير والتبديل، فهي عناصر ثابتةٌ في الشرع لورودها في الصحيح القطعيّ، أمَّا المتغيِّر من الأحكام فهي التي وردت إلينا بدليلٍ ظنِّيٍ واختلف فيها الفقهاء، وهي ليست من الثوابت في الشريعة وإنَّما من الأحكام المتغيرِّة التي تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان واختلاف فتاوى الفقهاء.
رحمته في الجهاد
ما المقصود بالمتغيّر؟
المتغيِّر هي التشريعات التي تتبدّل مع تغيُّر الزمان، فقد تصلح لزمنٍ دون غيره فذلك لا يعطيها سمة الاستمرارية والديمومة، وهناك من يرى أنَّ الثابت هي مقاصد الشريعة أي الضروريات الخمس: الحياة (النفس)، العقل (العلم) الدِّين (المعيار الثابت) والعرض (الكرامة الفردية والجماعية) والمال (الثروة الوطنية)، والمتغيِّرات هي الحاجيات والتحسينات طبقاً لظروف كلِّ عصر .
لقد أقرَّ الإسلام مجموعةً من القواعد الفقهية الكبرى التي تحقِّق الخير للنَّاس فتحصل مصالحهم، وتنظِّم حياتهم، وتسعى إلى تعطيل المفاسد وتقليلها، ومنها: قاعدة (الأمور بمقاصدها) و (لا ضرر ولا ضرار) و(الضرورات تبيح المحظورات)، فتلك القواعد تبقى ثابتةً لأنَّها مبنيةٌ على استقراء أحكامٍ فقهيَّةٍ كثيرةٍ حتَّى وصلت إلينا، وتبقى الأحكام الشرعية مرتبطةً بالمصادر الأصلية للتشريع الإسلاميّ المتَّفق عليها والمحصورة بالقرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الصحيحة، وقد راعت الشريعة الضرورات والحاجات والأعذار التي تنزل بالناس، فشرَّعت لها أحكاماً استثنائيةً تناسبها وفقاً لاتجاهها العام في التيسير على الخلق.
ويؤكِّد ابن القيِّم هذا التقسيم في كتابه: “إغاثة اللهفان“؛ حيث يقول: “الأحكام نوعان: نوعٌ لا يتغيَّر عن حالةٍ واحدةٍ هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمَّة؛ كوجوب الواجبات، وتحريم المحرَّمات، والحدود المقدَّرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرَّق إليه تغييرٌ ولا اجتهادٌ يخالف ما وُضع عليه، والنوع الثاني: ما يتغيَّر بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا؛ كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإنَّ الشارع يُنوِّع فيها بحسب المصلحة“، ثمَّ يقول ابن القيِّم رحمه الله في بيان أنَّ هذه المعاني قد تخفى على كثيرٍ من الناس: “وهذا بابٌ واسعٌ اشتبه فيه على كثيرٍ من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التي لا تتغيَّر بالتعزيرات التابعة للمصالح وجوداً وعدماً” إغاثة اللهفان، (1/ 570 – 574).
فالمتغيِّرات في الشريعة الإسلامية: تتمثَّل بالأحكام الفقهية الفرعية المستمدَّة من نصوصٍ ظنِّية الدِّلالة يمكن الاجتهاد فيها، أو هي تلك النصوص التي تستمدُّ من نصوصٍ معلَّلةٍ بعللٍ خاصَّةٍ، والتي تتغيَّر بتغيُّر الزمان أو المكان، أو الأحكام المبنية على قواعد العرف، والتي تتغيَّر بتغيّره، والأمور التي تندرج تحت الكماليات والتحسينات أيضاً، وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان.
ويمكن للناظر في الفقه أن يلحظ أنَّ الفقه القديم ركَّز على أن تكون الأولوية للعبادات لا على المعاملات، وفي الفقه الجديد يركِّز الفقهاء على المعاملات لا على العبادات، فالعبادات قد استقرَّت أمَّا المعاملات فهي بحاجةٍ إلى فقهٍ جديدٍ متجدِّدٍ في ظلِّ المستجدَّات المعاصرة، وهو ما يسمِّيه فقهاء العصر الحديث “فقه الزمان” وهذا يؤكِّد الفكر الإسلاميَّ الذي يتحرَّك فيه الفقهاء في الوقت الراهن درساً واجتهاداً واستنباطاً لأحكامٍ درجت حديثاً، كالمعاملات التي كثرت بين الناس وبين الدول وتشعَّبت في مجالاتٍ عديدةٍ متنوِّعةٍ، كالبنوك الإسلاميَّة والتعاملات النقديَّة، وغيرها مما استجدَّ في زماننا ولم تكن على عهد من كان قبلنا.
فالتجديد في الفكر الديني إنَّما هو مشروعٌ يركِّز على فهمنا الدينيّ وقراءتنا له، وليس على الدِّين نفسه، فالدِّين فوق أن يتجدَّد، وتجديد الدِّين خطأٌ منهجيٌّ، فالدِّين كاملٌ مطلقٌ يحتوي الحوادث المتجدِّدة على الدوام لأنَّه جاء من عند الله سبحانه وتعالى الذي يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، ويعلم ما يصلح للإنسان في كلِّ زمانٍ ومكان.
والتجديد في تعاملات الناس وفهم النصوص أمرٌ شرعه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأقرَّه في الحديث الذي أخرجه أبو داود في سننه عن أبي هريرة عن رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم:: “إنَّ الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلِّ مئة سنةٍ من يجدّد لها دينها)). وفي رواية: ((من يُقيم أمر دينها“، والمراد بتجديد الفكر الديني: إحياء معالمه العلمية والعملية التي أبانتها نصوص الكتاب والسُّنَّة .
إنَّ مسألة الثابت والمتغِّير ليست مسألةً جديدةً فقد شغل هذا الأمر الفقهاء الأوائل، وحاولوا أن يلتمسوا الحلول والإجابات للمسائل الجديدة التي طرأت بتغيُّر الزمان، وابتكروا لذلك أدلَّةً جديدةً تصلح لكلِّ زمانٍ كالقياس والاجتهاد والمصالح المرسلة، والسبب فيها يرجع إلى أنَّ النصَّ الدينيَّ والتشريعات الإسلامية محدودةٌ متناهيةٌ، ومشاكل الواقع ومستجدَّاته متجدِّدةٌ باستمرارٍ وغير متناهية.
وإنَّ كثيراً من الأحكام تختلف باختلاف الزمان؛ لتغيُّر عُرْفِ أهله، أو لحدوث ضرورةٍ أو فسادٍ في أهل الزمان؛ بحيث لو بقيَ الحكم على ما كان عليه أوَّلًا للزِم منه المشقَّة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، فالتطبيق العمليُّ قد تتولَّد منه مشاكلُ تتطلَّب حلولًا في ظلِّ الشريعة، وهذه الحلول تقتضي الخروج عن الدائرة النظرية إلى ما هو أوسع وأرحب منها، طبقاً لروح الشريعة وقواعدها الكلية.
وإنَّ من رحمة الله بخلقه أن جعل دينه يسيراً في أحكامه ليتواءم مع كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ويظهر ذلك فيما أكَّده النَّبيُّ في أكثر من موضع، فعَنْ أَبِىهُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ:
” إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ“ [رواه البخاري (39) ومسلم (2816)].
No comment yet, add your voice below!