تأويل النص الديني في الفكر الحداثي 2
تأويل النص الديني في الفكر الحداثي 2
استخدم الحداثيّون عدداً من المناهج في قراءة النصِّ الديني من خلال إسقاط نظرتهم الفلسفيّة التي يعمّمونها على جميع مناحي الحياة، بما في ذلك قراءة النصوص الأدبيّة والدينيّة، وقد نشأت هذه المناهج في القرون المتأخّرة، وتلتقي جميعها عند إفراغ النصوص من معانيها المقصودة، وقطع الصلة بين اللفظ والمعنى، وإليك أهمّها:
1- المنهج الألسني السيميائي:
أي الرمزي، وهو الغوص في عمق النصِّ والانغلاق فيه، واستخراج الدلالات الرمزيّة، وربط النصِّ بخلجات القارئ ونفسيَّته، بعيداً عن دلالات المعاني، وإلغاء كلِّ السياقات والملابسات المتّصلة بفضائه الخارجي، مع إنكار الغيبيّات والميتافيزيقيّة، ومن ثمَّ يُنكر هذا المنهج الإيمان بالغيب والآخرة، ويؤوّل ذلك كلَّه ويعدّ كلَّ ما ورد من الغيبيات رمزاً لا حقيقة.
وبقدر ما يتمنّع اللفظ ويستعصي على المعنى، يكبر حجم التأويل ويزداد كثافةً وتماسكاً، ويؤدِّي إلى انزلاقاتٍ دلاليّةٍ لا حصر لها ولا عدّ.
ويمتدُّ طموح الدرس السيميائي بوصفه علماً يقارب الأنساق الهلامية في نظر أصحابه إلى تخليص حقول المعرفة الإنسانية من القيود الميتافيزيقية -أي من خرافات الإيمان بالغيب حسب زعمهم- التي تكبّلها، وتعوق أبحاثها من الوصول إلى نتائج تجعل منها علوماً ذات سلطان، ولها مكانتها المرموقة في وسط المعرفة الإنسانية المعاصرة، وتمكّنها من القراءة العلمية الدقيقة لكثيرٍ من الإشكاليات المطروحة، والظواهر الإنسانية التي لم تعد في إطار التأمُّل العابر، والتفسير الأفقي الساذج. [يُنظر سعيد بنكراد، السيميائيات .. مفاهيمها .. تطبيقاتها، لسعيد بنكراد: (ص 35)].
2- المنهج التاريخي أو التاريخانيّة:
- تأسَّست هذه القراءة في القرن التاسع عشر، وتعني تفسير ما يحدث في التاريخ وفقاً للظروف التاريخيّة لا من خارجها، وينتج من ذلك:
- أنّ الأشياء لا يُمكن أن تفهَم إلَّا ضمن سياقها التاريخي.
- ليس هناك قيمٌ أبديّةٌ وثابتة، وإنّما هناك أفكارٌ نسبيّةٌ ترتبط بالسياق الاجتماعي والتاريخي.
- معايير الرشد والعقلانيّة ليست ثابتةً بل متغيّرةً عبر الزمان وحسب الظروف التاريخيّة.
- تتغيّر دلالات النصِّ تغيّراً جذريّاً في كلِّ زمانٍ حسب ثقافته ورؤاه.
- استبعاد أيِّ أثرٍ للإرادة الإلهيّة في الفعل التاريخي الذي هو من صنع الإنسان، وهو يخضع لقوانين داخليّة ضمن بيئته.
ويترتّب على ذلك:
أنّ القرآن الكريم منتجٌ بشريٌّ لا قداسة له، وأنّ أحكامه وتشريعاته كانت استجابةً لظروفٍ معيَّنة، ومع تغيّر الظروف والبيئة لم تعد تشريعاته صالحةً لهذا الزمن.
ومن أبرز من أسقط التأويل التاريخي على القرآن الكريم: نصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، وعبد الله العروي، وهشام جعيط.
3- المنهج الجدلي أو الديالكتيكي:
وهو مكمِّلٌ للمنهج التاريخي، فكلاهما يجعلان من الإنسان المتصرّفَ المطلق في صنع الأحداث، ضمن قوانين العلم والمادّة، مع إنكار وجود خالقٍ يدبِّر الكون، يقول ستالين: ” إنَّ المادية الديالكتيكية، والمادية التاريخية تظهران كعِلمٍ واحدٍ، وكفلسفةٍ متكاملة، فلا المادية التاريخية معقولة بدون المادية الديالكتيكية، ولا المادية الديالكتيكية ممكنة بدون المادية التاريخية). [المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، (ص: 129) من الترجمة العربية (منشورات دار دمشق)]
ويقول جودت سعيد عن أصحاب المنهج الماركسي: (لمحوا قدرة الإنسان على صنع التاريخ، والقيام بعمليّة التاريخ) [كتاب: ” اقرأ وربك الأكرم “، ص 219].
فإنّ هذا المنهج ينظر إلى الأشياء والمعاني، وإلى المجتمع الإنساني، وإلى الطبيعة في ترابطها ببعضها، وما يقوم بينها من علاقةٍ متبادَلة، وتأثير كلِّ منهما على الآخر، وما ينتج عن ذلك من تغيُّرٍ كما ينظر إليها عند ولادتها ونموّها وانحطاطها.
هذه النظرة المادّيّة تتعارض مع الغيبيبّات (الميتافيزيقيا)؛ لأنَّ المؤثِّرات في الكون حسب رؤيتهم هي الموجودات والمحسوسات، وكلُّ شيءٍ يؤثّر في الآخر من خلال الفعل وردّة الفعل، ولا علاقة لتدخّل إلهٍ غيبيٍّ ميتافيزيقي في حركة الكون.
يرى “الماركسيون الديالكتيك” صراع الأضداد والمتناقضات في الوجود قانوناً أزليّاً للوجود المادّي المتطوّر تطوراً ذاتيّاً، وفكرة وجود ربٍّ خالقٍ هي من اختراع الفكر الإنساني. [ينظر: ضد دوهرنج، إنكلز: (ص:392)، التحريف المعاصر في الدين د. عبد الرحمن حبنكة: (58)].
ومن أبرز من اتّبع هذا المنهج: محمّد شحرور، إلّا أنّه أخفى الجانب الإلحادي، وألبس نصوص القرآن الكريم ثوب الماركسيّة، وقد عدَّ الفلسفة الماركسيّة من كبرى الحقائق التي يجب التسليم بها والإيمان بمقرّراتها.
4- المنهج الهيرمينوطيقي:
ويسمى المنهج التأويلي، وهو منهج تفسير النصوص الدينيّة في أوروبّا في القرن التاسع عشر، حيث عظم سلطان المذهب العقلي في الفلسفة، والتقى مع أكثر التيارات الفلسفيّة واللغويّة الأخرى، على أنّ الكتاب المقدّس يجب أن يخضع إلى إعادة القراءة والتفسير، وأنّه لا بدَّ من عقلنة المقولات الإنجيليّة وتخليصها من أسطوريّتها لتلائم ثقافة العصر من خلال آليّاتٍ تأويليّة، حيث يتجاوز فهم النصّ رصد العلاقات اللغويّة، وإعادة تركيب العمليّة الإبداعيّة التي دارت في خلد واضع النصّ، ولمّا كان الكثير مما هو غير واعٍ في خلد المؤلِّف يصبح واعياً في خلد المفسّر، فيجعله ذلك قادراً على فهم النصّ أفضل من كاتبه. [ينظر: فهم الفهم، مدخل إلى الهرمينوطيقيا، نظريّة التأويل من إفلاطون إلى غادامر، د: عادل مصطفى: (ص: 70)، مفاتيح تفسير نصوص الوحي، د. محمد الخيمي: (ص:160)]
5- المنهج اللغوي البنيوي والتفكيكي:
ويسمّى المنهج التفكيكي الحفري الفوكوي، (نسبة إلى ميشيل فوكو) الذي صاغ نظريةً جديدةً في اللغة وأصلها وتراكيبها ووظيفتها، من خلال مصدره الخاصّ لإظهار كنه الحقيقة الإنسانية وهو «الجنون» معلناً أنَّ المجنون يمكن أن يؤدِّي دور النَّبيِّ عند المؤمنين بالأديان!
إنّ هذا المنهج يبدأ بإلغاء الآخرين، وإقصاء جميع المنهجيات والتصوُّرات التي تُخالف القارئ التفكيكي، ثمّ الانقضاض على النصّ وانتقاده حسب تصوّره، فيضرب معاني النصوص ودلالاتها، ويُخضعها للنموذج الغربي في التفكير، ويفرض رأيه عليها، ويُظهر قطيعةً جذريةً مع الدراسات الإسلامية التقليدية التي تؤمن بالنصِّ وتستجيب له.
وبسبب هذه الثقافة التفكيكية استشكل الفكر الغربي الحديث والمعاصر علاقةَ العقل الإنساني بالدِّين الإلهي؛ لأنّه مبنيٌّ على العلمويّة وإنكار الميتافيزيقيا، ووصل بذلك إلى وصف تلك العلاقة بالتنافر والتضادّ، بل والتناقض، وانقسم في ذلك إلى اتجاهين:
الاتجاه الأول: اتِّجاه متطرِّف غالٍ، يهدف إلى القضاء على الدِّين ومصدره جملةً وتفصيلاً، مع تأليهه للعقل الإنساني، ويمثّل هذا الاتجاهَ لفيفٌ من مشاهير الفلاسفة الغربيين باختلاف اتجاهاتهم، ومن أبرزهم:
- (دولباخ) : وهو فيلسوفٌ مادّيٌّ من القرن الثامن عشر، فقد رفض كلَّ الأدلَّة على وجود الله، بناءً على أن الطبيعة هي الكون كلُّه، وأنكر الإلهَ، حتَّى إنّه (كان يتباهى بأنّه العدوّ الشخصي للإله). [مدخل إلى الميتافيزيقيا، عزمي إسلام: (ص: 113)].
- (نيتشة): وقد قرّر أنَّ: (الإنسان في لحظةٍ تعسةٍ من حياته اخترع –وحاشى لله- خرافةً أسماها (الله) وأعلن في كتابه: (هكذا تكلَّم زرادشت) موتَ الإله، فقال: (جميع الآلهة قد ماتت، أو أنَّ الله قد مات).
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه التوفيقي الذي اعترف بطرفَيْ المشكلة التي استشكلها، أي النصوص الدينيّة التي تقرّر وجود إلهٍ، مع عدم إمكانيّة وجوده عقلاً -حسب زعمهم- فأقصى الطرف الثاني وهو الدِّين من ميدان المعرفة البشرية، وربطه بالوجدان القلبي المجرد من معنى العقل والتعقُّل، ومن أبرزهم:
- (باسكال): فقد كان يرى أنَّ الإيمان الدِّيني لا يخضع للعقل، بل يتعلّق بالوجدان القلبي؛ فقال: (إنَّ القلب هو الذي يستشعر الله لا العقل، هذا هو الإيمان، الله محسوسٌ للقلب لا للعقل). [مدخل جديد إلى الفلسفة لعبد الرحمن بدوي: (ص:214)].
- (إيمانويل كانت): فقد قرّر في فلسفته النقدية عجز العقل عن إثبات الميتافيزيقيا، وأعظم تلك الغيبيات في نظره مسألة «وجود الله» و«حرية الإرادة» و«خلود النفس» لكنّه كان يؤكّد وجود ذلك عن طريق الأخلاق أي: الوجدان الداخلي، أو كما يسميه «العقل العملي».
- (جورج سنتيانا) : الذي يقول عن الإيمان الدِّيني إنَّه (غلطةٌ جميلةٌ أكثر ملاءمة لنوازع النفس، ومن الحياة نفسها) [قصة الفلسفة الحديثة، أحمد أمين، وزكي نجيب محمود: (1/402)]، فقد كان يميل إلى الدِّين شعورياً، لكن يكفر به عقلياً.
وقد بلور هذا الاتجاه الموقف العامّ للفكر الغربي المعاصر من الدِّين والوحي، فقد أصبح مفهوم الدِّين عند الغربيين كمفهوم الأدب والفن القائم على معايير ذاتية، ترفض إقامة البراهين العقلية على صِدْقها.
يقول حسن جابر في مقالةٍ له بعنوان: “تصوُّرٌ منهجيٌّ لفهم القرآن الكريم”: (لكنَّ الثابت في علاقة النصِّ الديني، بالنصِّ البشري، أنَّه يمكن لكليهما أن يخضعا لمنهجٍ واحد، هو منهج التأويل القائم على تفكيك المعنى، وفتح مداياتٍ واسعة أمام إمكان المعنى… وأنَّه ثمَّة علاقة بين القارئ والنص، لا يستطيع أحدٌ إنكارها، حيث الإقرار بأنَّه لا وجود للمعنى إلَّا في الوعي البشري، الذي هو نسيج من الأهواء والتقاليد والانفعالات، والمؤثرات واللون الثقافي والحضاري، ويستوي في ذلك قارئ النص الديني والنص البشري، فكلاهما يحضران في عملية تناسل المعاني).
ومن أعظم ما تفضي إليه هذه القراءة والفلسفة زعزعة الثوابت، ونقض الإيمان بالغيبيّات، يقول المفكّر اللبناني المهتم بالفلسفة التفكيكيّة علي حرب: (إنَّ المنحى الحفري التفكيكي شكَّل أهمَّ حدثٍ فكريٍّ في النصف الثاني من القرن العشرين عند من يرى ويسمع، أو يقرأ ويفهم؛ به تزعزعت ثوابت فكريةٌ راسخة، وتداعت قلاعٌ ما ورائيةٌ حصينة). [الممنوع والممتنع: (ص24)] أي: كان من أهمِّ إنجازات المنهج التفكيكي نبذ الدين القائم على الإيمان بالغيب، وترسيخ الإلحاد.
6- المنهج المقاصدي أو المصلحي:
وهو تأويل النصّ حسب الواقع والمصلحة، والخروج عن المعنى الحرفي لدلالات ألفاظ الكتاب والسنّة.
ولا علاقة لهذا المنهج بمقاصد الشريعة المنضبطة التي جاء بها الإمام الشاطبي، لكنّ الحداثيّين تكلّفوا في تحميل الشاطبي كلاماً لم يقله ولم تحتمله عبارته، ولم يخطر له ببال.
فقد فسروا المصلحة الشرعيّة بالمعنى البراغماتي الغربي، وهذا معنىً يناقض مقاصد الشريعة بالأصل، ومع هذا قال جمال باروت: (وكأنّ الشاطبي يقترب من المفهوم البروستانتي -ولا سيّما في صيغة الكالفينيّة- للعمل كعبادة، والذي حدّد من خلاله ماكس فيبر في كتابه الشهير “الأخلاق البروتستانتيّة والروح الرأسماليّة” حصّة البروتستانتيّة في تكوين الرأسماليّة، وتبنّي مشروعها العقلاني، والعملي والترشيدي على أساس أخلاقٍ طهريّة أو نسكيّة… لا يختلف هذا المفهوم في حدِّ ذاته كثيراً عن المفهوم الإسلامي للعمل… يفسّر هذا المفهوم الإسلامي للعمل أو الكسب التقاء الشاطبي ولوثر في نقطةٍ أساسيّةٍ، العمل عبادة، والمصلحة تكليف) [الاجتهاد النص، الواقع، المصلحة: (ص:114)].
تعلّق بعض المفكّرين المعاصرين بالطريقة المقاصديّة للنصوص التي لا تستند إلى أصلٍ علميٍّ منهجيّ، في إبطال معاني نصوص الشريعة ومناقضتها، ومحاكاة مناهج التأويل الأخرى.
على أنَّ علم مقاصد الشريعة أجلُّ من تلك الرؤية المشوّهة؛ فإنَّ أهمَّ ما جاءت به هذه المقاصد هي الحفاظ على الثوابت، وفهم نصوص الكتاب والسُّنَّة ضمن المنهجيّة التي قرّرها علماء أصول الفقه، وإظهار محاسن الشريعة، وإيجاد الحلول لمشكلات العصر.
والخلاصة: إنّ جميع القراءات المعاصرة والتأويلات الحداثيّة تسعى لإفراغ النصوص الدينيّة من معانيها ومقاصدها، وتأويلها حسب رؤى بعض الفلاسفة والمفكرين الغرب، على اختلاف مناهجهم وفلسفاتهم، وهذا في الحقيقة ليس قراءةً وتجديداً في الدين، بل إبطالٌ له وطمسٌ لمعالمه.
وقد سلك المفكِّرون الغربيون هذه المناهج لقراءة النصوص الدينيّة؛ بسبب التأثّر السلبي بالدين الكنسي الذي أقام أصوله على الخصومة بين الدين والعقل، فضاقوا به ذرعاً، ورأوا تلك التعاليم تعارض العلم والمنطق، فقاموا بفكّ الارتباط بين الوحي والعقل، وبناءً على هذه النظرة قاموا بتأويل النصوص الدينيّة.
أمّا الدعوة إلى قراءة نصوص الكتاب والسنّة والعلوم الإسلاميّة على منهج الحداثيّين فإنّها تعكس مدى غياب حقيقة الإسلام وتشويه صورته في تصوّرهم، ووصفه بصفاتٍ لا تمتُّ إليه بصلة، فإنّ النصوص الإسلاميّة تختلف اختلافاً جذريّاً عن النصوص الدينيّة في أوروبّا، فالإسلام جاء بفكرٍ عميقٍ منضبطٍ، وتشريعٍ متكاملٍ، يضمن مصالح الدنيا والآخرة، وفي ظلِّ تعاليمه نشأت حضارةٌ دامت قروناً عديدة، وبرز آلاف العلماء في شتَّى العلوم الكونيّة فضلاً عن علماء الدين والمفكّرين ذوي المنهجيّة العلميّة الراسخة، ولا تزال تعاليم الإسلام اليوم تستقطب كبار العلماء والمفكّرين والعباقرة من شتّى بقاع العالم.
فمن يبحث عن الحقيقة التي تتسق مع الفكر والمنطق، فليتعمّق في دراسة الإسلام بصفائه دراسةً أصوليّةً ومقاصدية، وسيرى فيه المنهج المتكامل الذي يحلُّ جميع المشاكل، ولا يحتاج أن يسلك سبيل الأوروبيّين في تأويل كتبهم المقدَّسة.
No comment yet, add your voice below!