هل يحتاجنا الله لنصرة دينه؟
هل يحتاجنا الله لنصرة دينه؟
يقول أحدهم: تدّعون أنَّ من واجب المسلم – كلِّ مسلم- السعيُّ لنصر الإسلام، والدفاع عنه، ولكن! هل يحتاج الله إلى خلقه ليدافعوا عن دينه؟! وهو القائل: ((واللهُ مُتِمُّ نورهِ ولو كرهَ الكافرون)) [الصف:8].
لقد تكفَّل الله بدينه! ونحن لن نقدِّم أو نؤخِّر! ومن ثمَّ فإنَّ نصر دين الله إن كان مسؤوليةَ أحد، فهم الشيوخ ورجال الدين! ولا يكلّف الله نفساً إلَّا وسعها!
وأقول: الروتين اليومي لمعظمنا بوصفنا مسلمين، هو أن نستيقظ، ربَّما نؤدِّي صلاة الفجر حاضراً، وربَّما قضاءً، وربَّما هي ليست بالحسبان أساساً، الفطور، العمل/الدراسة، الغداء، إضاعة الوقت بلا طائل، النوم، ونعيدُ الكرَّة، وهذا في أفضل الأحوال إذا مضى النهار بلا تجاوزاتٍ واضحةٍ لحدود الله، واعتداءاتٍ على حقوق الناس.
حسناً، وبعد؟! يمضي العمر، ولم نحقِّق غاية وجودنا، يمضي العمر في ضنكٍ ومشقَّةٍ دون التفاتٍ إلى السبب أو دون أن نعيه.
يمضي العمر بتأفُّفٍ وتبرُّمٍ، وربما يتمنَّى أكثرُنا لو أنَّ الله لم يخلقه أساساً في دنيا المشقةِ هذه.
يمضي العمر، وواحدنا بعيدٌ كلَّ البعد عن روحه التي بين جنبيه، وعمَّا تريد هذه الروح وتبتغي!
يمضي العمر، وقد حقَّقنا مطالب أنفسنا وأجسادنا بنجاح، متناسين تماماً أنَّه _حاشا لله_ أن يخلُقَ الخلقَ ويقيمَ الكون، لنأكلَ ونشربَ ونتكاثرَ!
أليس من العجب أن نعطي لكلَّ شيءٍ في هذه الحياة أهميةً إلَّا الشيء الذي خُلقنا من أجله؟!
أليس من العجب أن ننسى ما فعله السابقون الأوّلون لأجل أقدس شيء؟ لأجل هذه الدعوة؟
أنْ تحمل همَّ نصر الدِّين، وتضعه في رأسِ سُلَّم أولوياتك، ليس تكرُّماً منك وفضلاً، بل هو أقلُّ ما يمكن أن تفعله لمولاك جلَّ وعلا، ولسيِّد الخلق صلَّى الله عليه وسلَّم الذي أدَّى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، فعلَّم أصحابه السير على نهجه، فبايعوه، وصدَّقوه: ((من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا اللهَ عليه، فمنهم من قضى نحبَه ومنهم من ينتظرُ وما بدَّلوا تبديلاً)) [الأحزاب:23].
أن تحمل همَّ هذه الدعوة هو غاية وجودك أساساً، فكيف لا يكون على الأقلِّ” فرضاً”؟
فقد خلقَ اللهُ الإنسانَ مُكَرَّماً: ((ولقد كرَّمنا بني آدم)) [الإسراء:70]، وأوكلَ إليه مُهِمَّةَ إعمارِ الأرض وفق القواعد التي أراد، وعلى النحو الذي أمر، وأقرب مايكونُ العبدُ لنفسه وحقيقته، عندما يتمثَّل بوظيفته الأولى التي خُلِقَ من أجلها، وهي العبودية، قال تعالى: ((وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلَّا ليعبدونِ)) [الذاريات:56]، وخلافةُ الإنسان في الأرض هي فرَعٌ عن هذه العبودية، قال تعالى: ((إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة)) [البقرة:30]
قد يقول قائل: أليس معنى أن أكون ناصراً لدين الله، يعني أن آمر الناس بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر وأوضح لهم أمور دينهم و…؟! فكيف أفعل كلَّ هذا إن لم أكن قد درست الشريعة الإسلامية بتفاصيلها كبيرها وصغيرها؟! وهل يتوجَّب عليَّ أن أترك عملي أو دراستي كي أتفرَّغ للدَّعوة إلى الله؟! ومن يعمر الأرض أساساً إن توجَّهنا كلُّنا إلى الدعوة لدين الله؟!
وأقول: من البدهي أنَّ من يريد تعليم الناس شؤون دينهم، ومن يريد أن يصلَ الناس بخالقهم لا بدَّ أن يدعوهم على بصيرةٍ وعلمٍ ومعرفة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وإن قام به بعض المسلمين سقط عن بعضهم الآخر، ولكن لن يسقط عنك واجب تحقيق خلافتك لله على هذه الأرض إن قام به غيرك! لأنَّ هذا الواجب هو هويتك الأولى، فنحن هنا نتكلَّم عن واجب كلِّ مسلمٍ تجاه دينه، سواء كان متبحِّراً في علوم الدين، متخصِّصا بها، أم كان عالماً بالحدِّ الأدنى من شؤون دينه الذي يجب على كلِّ مسلمٍ معرفته.
فأن تنصر دين الله -بكلِّ بساطة- يعني أن تكون على الشأن الذي ينبغي أن تكون عليه، على الشأن الذي وُجدْت من أجله، أن تكون مسلماً، مسلماً حقّاً.
عندما شرَّفنا الله بالانتساب إلى الإسلام فهو لا لتوضع على الهوية الشخصية عند خانة الدِّين كلمة “مسلم“، ولا لكي نُدفنَ في مقابر المسلمين عند رحيلنا من هذه الحياة.
حاشا لله أن يبعث أنبياءَ ورسلاً، وينزل كتباً، وصحفاً عبثاً: ((وأنزلنا إليك الذِّكرَ لِتبيِّنَ للنَّاس مانُزِّل إليهم ولعلّهم يتفكَّرون)) [النحل:44].
فينبغي على كلٍّ منَّا أن يأخذ دوره، ويعمل جهد استطاعته ليجسِّد الإسلام في شخصه قولاً وفعلاً، وهذا الواجب لا ينحصرُ في شيخٍ أو إمام. فليس المطلوب منك أن تكون متخرِّجاً من كلية الشريعة، أو ترتدي لفَّةً وعمامة لكي تكون خليفةً لله عزَّ وجلَّ في أرضه، وهذا لا يتحقَّق إلَّا بعد فَهْمِ الإسلام كما هو.
فالإسلام لا ينسلخ عن الواقع ليتمثَّلَ بشعائرَ منزليةٍ يقوم بها الإنسان على عجل، وهو لا ينسلخُ عن الواقع ليتمثَّلَ بقرآنٍ يُتلى على جنازة، أو ليتمثَّلَ بدرس وعظٍ نسمعه هنا وهناك، ونقول:” إي والله مقصِّرين، الله يهدينا“، وفي أفضل حالٍ نذرفُ دمعتين قبل أن نعود لنعاركَ الحياة.
ما لهذا خُلقنا! وما لهذا حُمِّلنا أمَانة الدعوة المحمَّدية، ما لهذا قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: “إنِّي فَرَطُكم على الحوضِ، وإنِّي مُكاثرٌ بكم الأممَ” [فتح الباري لابن حجر]، فاليوم نحن كثير، ولكنَّا مع الأسف “غثاءٌ كغثاء السيل“.
ما لهذا حُمِّلنا أمانة (دينٍ، وعقلٍ، وقلب) أطفالنا ويافعونا الذين تتخطّفهم أمواج الرذيلة والانحراف من كلِّ صوب إن نحنُ لم نأخذ بأيديهم، ونُحسنُ بناء عقولهم وتوجيههم، فمن يفعل؟
عندما شرّفنا الله عزَّ وجلَّ بالانتساب إلى دينه، أخذ علينا عهداً أن ننصر دينه كلٌّ حسب قدراته: ((وإذ أخذَ ربُّك من بني آدم من ظهورهم ذريَّتَهم وأشهدَهم على أنفسِهم ألستُ بربِّكم؟ قالوا بلى شهدنا ..)) [الأعراف:172]، فعندما شهدنا وأذعنّا في عالم الذرِّ بربوبية خالقنا، وبعبوديٍتنا له يعني أن نكون على النَّهج الذي أمر به، ويعني أن نسعى جاهدين لنؤدِّي الأمانة ونفي بالعهد، كلٌّ على حسب قدرتهِ وموقعهِ. ينبغي ألَّا يغيب عن بالنا هذا المفهوم.
فحملُ همِّ نصر الدِّين في القلب وجهٌ من وجوه تأدية الأمانة، وهو أضعف الإيمان .
حمل مسؤولية تبليغ العلم النافع للناس وجهٌ من وجوه تأدية الأمانة.
حمل مسؤولية تنشئة الجيل بعيداً عن المفاسد، تأديةٌ للأمانة.
رفع كلمة الإسلام في السلوك والمعاملات، تأديةٌ للأمانة.
جهادك نفسَك لترقى بها، وتُخرجها من أسرِ الشهوات والأهواء، هو تأديةٌ للأمانة.
الإخلاص في كلِّ عملٍ دينيٍّ أو دنيوي هو في أن يكون لوجهٍ الله فقط، تأديةٌ للأمانة.
السعي لمعرفة الله عزَّ وجلَّ وفهم سننه ومقاصده في القرآن الكريم، تأديةٌ للأمانة.
العمل بإتقانٍ لتقديم خدمة (مادّية/معنوية) للمسلمين تأديةٌ للأمانة.
وتتعدَّد الوجوه مع كلِّ لمحةٍ ونفَس.
وعليه، فنصر دين الله يتمُّ عن طريقِ كلٍّ منَّا، عندما نكون كما أمر، وهذا هو نصرنا “المبدئي” لدين الله.
أمَّا إظهار دين الله، ورفع كلمته، وعودة الأمجاد، فهذا يأتي عندما ننصر -نحن- أوّلاً، عندما نذعن حقَّاً، عندما نَصدُقُ الله، فيصدُقنا وعده، أمَّا أن ينصرنا الله، ويُظهِرنا على من عادانا، ونحن عنه غافلين، فهذا مالا يرضاه عقلٌ، ولا يطالب به إلَّا مُتواكلٌ أو منافق.
وقد وعدَنا الله في مُحكم تبيانه إن نحن أخلصنا له حقَّاً في عبوديتنا أن يرينا نصره وتمكينه: ((وعدَ اللهُ الذينَ آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرضِ كما استخلفَ الذين من قبلهم وليمكنَّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم)) [النور:55]. ومع هذا الوعد أعرضنا وتقاعسنا وتناسينا قوله تعالى: ((وإن تتولَّوا يستبدل قوماً غيركم ثمَّ لا يكونوا أمثالكم)) [محمد:38].
وها نحن تولَّينا، ولم نؤدِّ الأمانة، لم نسخِّر ما وهبنا لأجل ما أمرنا، فأيُّ جحودٍ أكبر من هذا؟
فاللهَ نسألُ ألَّا يستبدلنا، وهو قادر.
واللهَ نسألُ أن يحييَ في قلوبنا الحُبَّ لذاته العليّة أولاً، لأنَّه سبب كلِّ اندفاعٍ، وهمةٍ، ومسعىً نبيلٍ.
واللهَ نسألُ أن يسخِّرنا قلباً، ونفساً، وعقلاً، له ولحبِّه، وعلى حبِّه، لنكون ممَّن يتشرّف بقول الله لهم بعد استقرارهم في جنَّات النعيم “تريدون شيئاً أزيدكم؟” [مسلم].
خالق كلِّ شيء، وربُّ كلِّ شيء، يسأل عباده الذين أخلصوا له في الدنيا: “تريدون شيئاً أزيدكم؟” ثمَّ يكشف لهم عن نور وجههِ الكريم فتكون اللذَّة الكبرى، والنعيم الأكبر.
واللهَ نسألُ أن يجعلَ لنا نصيباً في درء النجس عن دينه المعظَّم، وردِّ إبطال المبطلين، وفساد الفاسدين عنه. وأن يعرِّفنا عظمة دينه، ويجعل همَّ الدعوة إليه، ورفع كلمته، هو الغاية الكبرى والمقصد الأعظم بأي وسيلةٍ استطعنا.
ولكن قد يخطر لنا اشكال: أليسَ اللهُ قادراً على أن يُظهر هذا الدين بلمح البصر؟ فما حاجته لنا؟ أليس قادراً على أن يزيل كلَّ الشبهات والأباطيل الملتصقة بدينه بكلمة “كن”؟!
كلُّ مسلمٍ مُسلِّم، سيُجيب بالإيجاب، ولكنَّه أمر الله في استخلافنا.
وإن قيل: لمَ كلُّ هذا أساساً؟ ولم خُلقنَا لنُستَخلَف؟ وما الذي يستفيده الله تعالى من هذه المهمة التي أوكلها إلينا؟
أمَّا ما يستفيده، فنحن عبيده، وهو ربُّنا، ومتى كان العبدُ هو الذي يفيدُ ربّه؟!
وأمَّا لمَ خلقَنا الله تعالى، وكلَّفنا بالعبودية وبمهمَّة إعمار الأرض؟!
فقد سألتِ الملائكةُ اللهَ هذا قبلنا فقالوا: ((أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماءَ ونحنُ نسَبِّحُ بحمدِكَ ونقدِّسُ لك؟)) فأجابهم تعالى: ((إنِّي أعلمُ مالا تعلَمون)) [البقرة:30]
فهذا شأنه عزَّ وجلَّ، يخلق ما يشاء، ومَن يشاء، ويكِلُ لخلقه ما شاء على النحوِ الذي يشاء، نحنُ نُسأل، وهو لا يُسأل ،فحريٌّ بنا أن نشتغل اليوم بما يُسعِفنا غداً، يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنون، لا أن نخترعَ أسئلةً ثمَّ نُفتِّشَ عن أجوبةٍ لها، رجاءَ أن يُعزَّنا اللهُ بالإسلام، وُيعِزَّ الإسلامَ بنا .
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين
No comment yet, add your voice below!