اشتمل القرآن الكريم على الدين كله، بجملته وتفصيله، بكلياته وجزئياته، فهو يحتوي جميع الأحكام التشريعية بتفصيلاتها، وما ترك شيئاً ولا فرط في شيء
ولهذا كان القرآن كافياً، ولم يكن ثمة حاجةٌ لمصدرٍ ثانٍ للتشريع، فلا حاجة للسنة النبوية، ولا مكان لها… هكذا قال بعض المدَّعين!
وقد استدلوا على كلامهم بما يأتي:
قوله سبحانه وتعالى: ((مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )) [الأنعام: 38]
وقوله جل وعلا في وصف القرآن الكريم: ((مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )) [يوسف: 111]
و استدلوا بالآيات التي وصف الله تعالى القرآن فيها بأنه (مبينٌ) من مثل قوله عزَّ وجل: ((إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ )) [يس: 69]
ووجه استدلالهم بها: أن الله تعالى بيَّن فيها أنه ذكر في القرآن الكريم كلَّ شيء، فلم يفرط في الكتاب من شيء، بمعنى: لم يترك صغيرة ولا كبيرة، ولم يدع أمراً من أمور الدين، أو حكماً من أحكام الشرع يحتاج إليه الناس في عقائد أو عبادات أو معاملات إلا وقد ذكره في القرآن، فيقولون: إذا كان الأمر كذلك؛ فما حاجتنا إلى مصدر آخر غير القرآن؟!
ويقول من ينكر السنة النبوية:
- إن إضافة مصدر آخر إلى القرآن الكريم الذي لم يترك شيئاً، ولم يفرط الله فيه من شيء، إنما يعني أن نزيد في شرع الله ما ليس منه، وأن نخلط شرع الله الذي أنزله في كتابه بشرع من عند غير الله تعالى، وهذا باطل فاسد، وفساده إنما أتى من الاعتماد في الدين على غير كتاب الله الذي فصّل كل شيء وأحاط بكل شيء.
وإذا كان القرآن فصّل كل شيء؛ فما حاجتنا إلى السنة؟ وماذا سنفيد منها؟
- كذلكم الآيات التي وصفت القرآن بأنه: (مبين) ووصفت آياته بأنها: (آيات بينات)؛ فهذه تقطع السبيل على من يقولون: إن السنة مبينة للقرآن ومفصلة. فهذا هو القرآن يتحدث عن نفسه في آياته القاطعات، بأنه قد اشتمل على كل شيء، وفصَّله، وبيَّنه، وبهذا يتضح أن السنة لا محل لها من التشريع، ولا حاجة إليها في بيان أو تفصيل أو توضيح.
والجواب على هذا الكلام، وفق الآتي:
إن القول بهذه الشبهة يدل على عدم إدراك مقاصد ومضامين آيات القرآن الكريم؛ فإن الأمَّة اتفقت على أنَّ القرآن قد اشتمل على الدين مجملاً في كثير من جوانبه وأحكامه، ومفصلاً في جوانب أخرى، وقد جاءت السنة النبوية المطهرة فبيَّنت ذلك المجمل وفصلته.
وإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حين يبيّن ويفصّل إنّما ينفذ أمر الله تعالى ويؤدي ما وكَّله به من بيان القرآن المنزل على الخلق، فكان تطبيقاً واستجابةً لأمره عز وجل في قوله: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )) [النحل: 44]
وقوله تعالى: ((وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )) [النحل: 64]
وإن كرر أصحاب ذلك الرأي قولهم بأن القرآن المجيد قد فصل كل شيء، وبين كل صغيرة وكبيرة في الدين؛ فلنحتكم وإياهم إلى عماد الدين: الصلاة؛ أين ذكر عدد الصلوات في القرآن الكريم؟ ووقت كل صلاة ابتداءً وانتهاءً؟ وعدد ركعاتها؟ والسجدات فيها؟ وهيئاتها؟ وأركانها؟ وما يقرأ فيها؟ وواجباتها؟ ونواقضها؟ إلى غير ذلك من أحكام لا يمكن أن تقام الصلاة بدونها.
ومثل ذلك يقال في أحكام العبادات كافة، فقد ورد الأمر بالصلاة والزكاة والصيام والحجِّ في القرآن الكريم، فأين نجد الأنواع التي تُخرج منها الزكاة؟ ومقدار كل نوع؟ وأين نجد أحكام الصيام؟ وأين نجد مناسك الحج؟
إن الله سبحانه قد وكَّل بيان ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، ثم نجد رسول الله يقول: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلي)) [متفق عليه]، ولم يقل: كما تجدون في القرآن، لأن القرآن قد خلا من تفصيل أحكامها وبيانها.
ولعل من حكمة الله سبحانه في جعل مهمة التفصيل والبيان لرسوله الكريم؛ أن تفصيل هذه الأحكام وبيان جزئياتها، وتوضيح دقائقها، إنما يكون أولى وأكثر جدوى بالطريق العملي، ولو أن الأحكام فصَّلت قولاً نظرياً فقط، لما استغنت عن ضرورة بيانٍ عملي واقعي.
ولعله من الحكمة وراء ذلك أيضاً: بيان ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من منزلة سامية لا يشاركه فيها غيره، ومكانة رفيعة عالية لا يرقى إليها سواه، وذلك بإسناد الله تعالى تفصيل الأحكام وبيانها إليه صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان كل شيء مفصلاً مبيناً لكان رسول الله مثل غيره من الناس مطبّقاً فقط لما هو منزلٌ في القرآن فعلاً، لكنَّ الله عزَّ وجل اختصَّه صلى الله عليه وسلم بتفصيل الأحكام وبيان مجمل القرآن تكريماً لشأنه وإعلاءً لمنزلته، ولأنَّ النبي هو المتبَّع ولا معنى للنبي دون اتباع.
ونقول لمن يرفض الاعتراف بالسنة الشريفة مستدلاً بالقرآن الكريم أنه قد أخطأ بطريقة الاستدلال:
فلا يمكن لمن أراد الاستشهاد بأيِّ نصٍّ من النصوص أن يأخذه بمعزلٍ عن النصوص الأخرى، وطالما أننا متفقون على أن القرآن الكريم هو كتاب من عند الله تعالى، فلنستوعب جميع الآيات القرآنية التي تبيّن شأن القرآن الكريم، ودور النبي صلى الله عليه وسلم. لا أن نختار آية أو آيات محددة دون غيرها.
ومن البدهيّات التي يعلمها طلبة العلم وكثير من الناس: أن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً، وأن آياته إنما يفهم بعضها في إطار البعض الآخر، وأن تفسير آياتٍ منه بعيداً عن بقية الكتاب الكريم قد يؤدي إلى عدم فهم المراد منها فهماً صحيحاً.
وهؤلاء قد اعتمدوا آية أو بضع آيات من القرآن، ثم عزلوها عن بقية ما في القرآن من بيان في الموضوع نفسه، ثم حمَّلوها من المعاني مالا تحتمل…
إنَّ الله سبحانه الذي ضَمَّن القرآن العظيم قضايا الدين وأصول الأحكام مجملةً، هو جلَّ جلاله الذي وجَّه الناس وأرشدهم إلى الطريق الذي يحصلون منه على تفصيل ذلك المجمل وبيانه، وقد جاء التوجيه في القرآن نفسه في قول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ )) [محمد: 33]
وقوله تبارك وتعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر: 7]
وغير ذلك آيات كثيرة تأمر المؤمنين بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه.
وختاماً فإن القرآن الكريم والسنة المطهرة مصدران أصليان من مصادر التشريع في الإسلام، وكلاهما متمِّمٌ للآخر ولا يستغنى عنه ، فالقرآن الكريم ذكر عدداً من القضايا الكبرى والأحكام العامة في كثير من آياته، وجاءت السنة ببيانٍ مكمّل وموضّح لعموم النص القرآني، ومن أراد تحييد السنة وإقصاءها فقد جانب الصواب في إدراك الحقائق.
والحمد لله رب العالمين
No comment yet, add your voice below!