كثيراً ما يرد سؤال: هل البخاريُّ معصوم؟
والجواب: الإمام البخاريُّ غير معصومٍ طبعاً، فهو بشرٌ يصيب ويخطئ، لكنّ هذا السؤال يدلّ على العبثيّة وعدم الوعي
ولا يخدم الطاعنين بالبخاري؛ لأنّ جوابه ينطبق على جميع البشر، وليس محصوراً بالبخاري؛ فالعلماء والأدباء والمبدعون والمفكّرون الذين قدّموا نفائس العلوم والابتكارات والاكتشافات، وغيّروا وجه العالم، وأصبحت علومهم تُدَرّس في الجامعات والأكاديميّات العالميّة، وأصبحوا موضع ثقةٍ تامّةٍ كلّهم غير معصومين، وجميعهم معرّضون للخطأ والوهم، ولا ينقص ذلك من مقامهم وعلومهم، ومن بين هؤلاء العظماء الذين نالوا الثقة والقبول: الإمام البخاري، فهو غير معصومٍ، وقد صنّف أصحّ كتابٍ في الحديث الشريف.
وقبل ذلك, فإنَّ هذا السؤال ينطبق على السائل ذاته، فهل من يطعن بالبخاري معصوم؟!
طبعاً غير معصوم، وبناءً على تفكيره بما أنَّه غير معصومٍ, فهو مخطئٌ في طعنه على البخاري.
وفي الحقيقة: إنّ هذا السؤال سمِجٌ لا تستسيغه العقول، لأنّه يصدر من فوضويّةٍ فكريةٍ, وعدم فهمٍ لحقيقة الأمور. ولتتّضح لك صورة هذا السؤال فسأعرضه في مثالٍ آخر مطابقٍ له تماماً:
إذا أبدع عالمٌ من العلماء في مجال الطبِّ مثلاً، واستفاد منه الناس، وشهد له أهل الاختصاص، وتخرَّج على يديه عددٌ كبيرٌ من الأطبَّاء المشهورين والمشهود لهم، ثمّ جاء رجلٌ من العامّة فقال: إنّ هذا الطبيب الذي تقولون: إنَّه عالِم, وقد وثقتم بعلمه، لا يعدو كونه بشراً غير معصومٍ، فهو يخطئ!
كيف يكون وَقْع هذا الكلام على الأسماع؟ وكيف تكون نظرة الناس إلى قائله؟ ألم يكن كلامه سمجاً ثقيلاً؟
وستكون نظرة الناس إليه في غاية الازدراء، بل يرونه في منتهى الجهل والغباء؟
أمّا أهل العلم والاختصاص, فلا يخطر ببالهم مثل هذا الكلام، لأنّهم يعرفون قيمة ذلك الطبيب العالم المبدع, فيقصدونه، ويتتلمذون على يديه، ويدوّنون كلّ كلمةٍ يقولها، ليستفيدوا من علمه وخبرته.
أمّا الأطباء العلماء الذين يقاربونه في المستوى، فإنَّهم يعلمون بمقامه أكثر من المبتدئين في طلب العلوم؛ لأنّ الإنسان كلّما ازداد علماً عرف قيمة العالِم أكثر، لا سيّما ذوو الاختصاص الواحد؛ فإذا شهدوا له بالعلم والإتقان دلّ ذلك على علوّ كعبه وتفوّقه في مجاله.
فهذا مثالٌ يوضح جواباً موجزاً لمن يقول عن البخاري أنَّه غير معصوم، فقد تزاحم الطلاب في حلقات البخاريِّ، وامتلأ بيته ومساجد البلاد التي كان يدرّس فيها، وتخرَّج على يديه أكبر علماء الحديث، وشهد له شيوخه، وكبار المحدّثين بتفوّقه على علماء عصره، واتفق الجهابذة من أهل الاختصاص بأنّ كتابه أصحُّ كتب الحديث الشريف. ثمّ يأتي إنسانٌ لا يعرف قدره ولا علمه، ليقول: لماذا تأخذون بصحيح البخاريِّ, فالبخاريُّ غير معصومٍ!
بكلامٍ سمِجٍ ثقيلٍ بعيدٍ عن العلم والمنطق.
ولو أنَّنا قلنا عن أيٍّ من العلماء في جميع الفنون ومختلف الاختصاصات: إنَّهم غير معصومين، ورفضنا علومهم حتَّى لا نقع في الخطأ النادر الاحتمال الذي ربَّما يقعون فيه، لتعطّلت الحياة، وتبدّدت علوم العلماء، وعشنا في جهالةٍ وأوهامٍ، وسقطنا في حضيض التخلّف.
فإنّ من يرفض العلم الحقيقيَّ حتَّى لا يقع في الخطأ الوهميِّ، لديه خللٌ في التفكير، أو أنَّه مصابٌ بمرضٍ نفسيٍّ.
وإنّ عدم عصمة الإنسان صفةٌ طبيعيّةٌ، منبثقةٌ من ضعفه ومحدوديّة ملَكاته وقدراته، ليعرف حدّه ويدرك عجزه وضعفه، ويدرك أنّ معرفة الحقائق ليست بيده، وإنَّما هي بيد الله وحده؛ ليستشعر افتقاره وعبوديّته لله تعالى، وأنَّه مهما قصد الكمال فإنّ له حدّاً لا يمكنه تجاوزه، وأنّ الكمال لله وحده، والعصمة ليست إلا لأنبيائه.
ولا يمكن للإنسان الوصول إلى اليقين إلَّا في عددٍ محدودٍ من المسائل العلميَّة.
وإنَّ الله تعالى لم يكلِّف عباده بأكثر ممّا استطاعوا أن يصلوا إليه في علومهم وأمور دينهم ودنياهم وعباداتهم، بشرط بذل الجهد، وإفراغ الوسع في أخذ الأسباب، وطلب الكمال.
فإذا قام العالم بواجبه على أكمل وجهٍ في البحث والتحرّي والتحقيق والتدقيق، فقد برئت ذمّته أمام الله تعالى، ووجب الأخذ بعلمه رغم احتمال الخطأ الذي قد يقع فيه، وهذا ما فعله الإمام البخاري، فقد بذل وسعه في إخراج أصحّ الصحيح من الحديث الشريف؛ فقال: ((صنّفت كتابي الصحيح لستَّ عشرة سنة، خرّجته من ستمئة ألف حديثٍ، وجعلته حجَّةً فيما بيني وبين الله تعالى)) [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (2/ 185)، تاريخ دمشق لابن عساكر (52/ 72)].
فلشدّة ثقة الإمام البخاري بهذا الكتاب, واعتنائه به وبصحّة رواياته جعله حجّة بينه وبين الله تعالى.
وأعود إلى السائل وأقول له:
أيُّهما أولى: أنّ نأخذ بقول الإمام البخاري الذي بذل عمره في دراسة الحديث الشريف، مع قربه من عهد النبوّة، ومعرفته بالرّجال الذين رووه، وملاقاتهم، ومعرفة أحوالهم، وتمكّنه من هذا العلم-وإن جاز عليه الخطأ والوهم، بنسبةٍ ضئيلةٍ لأنَّه غير معصوم- أم نأخذ بقول الطاعنين عليه اليوم، الذين ليس لهم صلةٌ بهذا العلم أبداً، وينتقدونه بكلامٍ إنشائيٍّ من وهم الخيال، تكريراً لأقوال المستشرقين الحاقدين؟
فإن أخطأ البخاري فله أجر؛ لأنّه قصد الحقّ، وبذل أقصى جهده فيه.
ومن يتّبعه معذورٌ ومأجور؛ لأنّه سار على خُطا إمامٍ عالمٍ ذي منهجيّةٍ علميّةٍ دقيقة.
أمَّا الجاهلون فإن أصابوا بكلمةٍ من كلامهم فإنّهم مأزورون غير مأجورين؛ لأنَّهم ليسوا أهلاً للعلم، ولا يتكلَّمون إلّا عن جهلٍ وهوىً، وقد وقع الصواب في تلك الكلمة صدفةً وليس عن علمٍ وتحرٍّ.
ومُتَّبعهم مأزورٌ مثلهم؛ لأنّهم خالفوا المنهجيَّةَ العلميّةَ والمنطقيّة، وإجماعَ علماء المسلمين، والمنصفين من المستشرقين، وشذّوا عنهم، ومن شذّ, شذّ في النار.
No comment yet, add your voice below!