يُعتبر طرحُ هذه الفكرة ابتعاداً عن الجوهر والتفاتاً إلى القشور، ويستخدم بوصفه مغالطةً منطقيَّةً للفت النظر عن الحقائق، ذلك أنَّ السؤال المطروح في مقابل هذا التساؤل هو: هل القرآن كتاب حقٍّ أم باطل؟
إذا كان الجواب: إنّه كتاب حقٍّ، فالواجب اتِّباعه بغضِّ النظر عن كاتبه، وإن كان الجواب غير ذلك، فالواجب إقامة الحجَّة والدليل والبرهان على دعوى البطلان، وإن كان الجواب: لا أعلم، فالواجب على من لا يعلم أن يعلم.
في نقاش الفكرة، يطرحُ المقال عدَّة نقاط:
النقطة الأولى: القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد في البشرية الذي يَنسِب كلَّ حرفٍ فيه إلى الله تعالى، وينفي عنه تدخّلات البشر في أي نوعٍ من أنواع التدخل، ويقيم التحدّي على هذه الدعوى، وهذا الأمر يكفي ليثير تساؤل الباحثين عن الحقِّ، للتقصِّي والبحث وإشباع نَهَمِ الوصول إلى الحقيقة.
قد يقول قائلٌ: إنَّ كُلَّ الديانات تدّعي نسبة كتابها إلى الإله، وكلُّ الديانات السماوية تدَّعي نسبة كتابها إلى الله تبارك وتعالى، وهذا ليس حكراً على القرآن الكريم.
الكتب المقدَّسة موجودةٌ عند أتباع كلِّ الديانات تقريباً، لكنّهم لا يدّعون أنّ كل حرفٍ فيها منسوبٌ إلى الله تعالى، بل هي كتبٌ منسوبةٌ إلى أشخاصٍ مقدّسين، أصبَحت كلماتُهم، ونصائحهم، وحكمهم بمجموعها كتاباً مقدَّساً، يتّبعه أتباع الدين، ويمكن للباحث تقصّي الأمر والبحث في كتب الديانات السماوية، والهندية، وغيرها، ليجد أنّ القرآنَ هو الكتابُ الوحيد الذي يحمل فكرةَ نسبة كلِّ حرفٍ من حروفه إلى الله عز وجل، بل إنَّ فيه تهديداً واضحاً بعدم تدخُّل النبي ﷺ حتى ببعض الكلمات حيث قال: (﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيْلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِيْنِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِيْنَ﴾) [سورة الحاقة 44-45].
يُضاف إلى ذلك أنَّ رسولَ الله ﷺ، كان قد نهى عن كتابة السُّنَّة في حياته، حتى لا تختلطَ مع القرآن، فلو كان القرآن من تأليفه –كما يدِّعي البعض- لما نبّه الناسَ ألّا يكتبوا كلامَه بجوار كلام الله تعالى، خوفاً على المسلمين الأوائل الذين يتعلَّمون القرآن لأوَّل مرَّةٍ من أن يختلط عليهم القرآن بكلام النبوة.
النقطة الثانية: في القرآن الكريم، عتابٌ للنَّبيِّ ﷺ، وإعادةُ توجيهٍ لمواقف اتَّخذها، وذكرٌ لأمورٍ ما كان لصاحب ادِّعاءٍ أن يكتبها عن نفسه في كتابٍ يدعو الناس إلى اتِّباعه.
كعتاب الله تعالى لنبيه ﷺ بسبب التفاته عن الأعمى أثناء دعوته لسادات قريش، وإذنه للمنافقين بالتخلف عن الغزوة، والحكم على أسرى بدر بما هو مغايرٌ لحكمِ النَّبيِّ ﷺ، إضافةً إلى بعض المواقف والأحكام الأخرى التي ما كان لصاحب ادِّعاء أن يثبتها على نفسه في كتابٍ سيُقرأ إلى قيام الساعة، فصاحب الادِّعاء يجعل محور الكتاب في تمجيد أفعاله وقراراته، وتقديس كلماته، وحِكَمه، كما هو الحال عند كثير من الكتب في الديانات الأخرى.
النقطة الثالثة: لقد أقام الإسلام والقرآن والرسول ﷺ عقيدةَ الاتِّباع على تصديق معاني أركان الإيمان، بغضِّ النَّظر عن وجودها في القرآن أو عدمه، فأكثر المسلمين الأوائل اتَّبعوا الإسلام قبل أن يتنزّل القرآن كاملاً، ولم يأتِ رسول الله ﷺ بكتابٍ جاهزٍ، مُعدٍّ سابقاً، بل جاء برسالةٍ تدعو إلى أركان الإيمان، فآمن الناس بهذه الأركان، ثم اتَّبعوا بعد ذلك القرآن الذي يصدّق ويعزّز هذه الأركان في القلوب.
إذن فرسول الله ﷺ لم يبنِ أساس دعوته للناس بأن يصدِّقوا القرآن بدايةً، بل بناها على تصديق واتِّباع فكرة التوحيد الخالص لله تعالى، وعلى تصديق واتِّباع كلِّ أركان الإيمان الأخرى، ومنها الاقتناع بما جاء في الكتب السماوية السابقة للقرآن الكريم، فَوَاعَجَباً لكتابٍ يدعو أتباعه لتصديق الكتب الأخرى كشرطٍ لقبول إيمانهم به.
إنَّ كل الحقائق في هذه الحياة واضحةٌ وضوح الشمس في النهار، وهي مع وضوحها تحتاج إلى التجرُّد عن حظوظ النفس، والتصوُّرات السابقة، حتى يراها الباحث عنها.
No comment yet, add your voice below!