نسبية الحقيقة
نسبية الحقيقة
ما المقصود بنسبيّة الحقيقة؟
المقصود بنسبيّة الحقيقة: أنّه لا يوجد حقٌّ مطلقٌ ولا حقيقةٌ ثابتةٌ في الكون، ويصحّ إطلاق الأحكام المتناقضة على الشيء الواحد، وأنّ الحكم على الشيء يتبع الظروف ووجهات النظر، فما كان حقّاً في ظرفٍ يكون باطلاً في ظرفٍ آخر، وما كان صحيحاً برؤية بعضهم يكون بنظر غيرهم باطلاً، وكلّهم على صواب.
تحرير موضع النزاع: ليس المقصود بنسبيّة الحقيقة هنا ما يتعلّق بالرأي الخاصّ وتفضيل الأشياء لدى الأشخاص، فالآراء لا خلاف في نسبيتها، ولا إشكال في الاختلاف فيها، فلكلّ واحدٍ رأيه وذوقه وتفضيله، فقد يستحسن بعضهم لوناً معيّناً ويستقبحه غيره، ويفضّل بعضهم طعماً معيّناً ويعافه الآخر، وهذا الاختلاف متَّفقٌ عليه ولا ينكره أحد.
ولكنَّ المقصود بنسبيّة الحقيقة هنا ما يتعلّق بالحقائق الثابتة بالبرهان العقليّ أو الحسيّ، كمن ينظر إلى البحر فيقول: هذا بحر، ويقول الأخر: بل هذا صحراء.
وهذا مذهبٌ فلسفيٌّ يسمّى (المذهب النسبي)، نشأ في القرن الخامس قبل الميلاد، وقد ظهر على يد (بروتاغوراس السوفسطائي) عندما قال: يمكن إعطاء رأيين متناقضين في الشيء الواحد، وأخذ يعمل على الإقناع بهذه النظريّة بطريقة سوفسطائيّة، ثمّ توصّل إلى استنتاج متطرّف وهو: (كلُّ شيءٍ حقيقة).
وحين أراد أن ينقد أصول المعرفة، قال: (إنَّ الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها، ومقياس وجود ما لا يوجد).
ثمَّ أخذ بهذا مذهب أهل الشكّ، فطبَّقوها على الحدود -أي التعريفات- كما طبَّقوها على نواحي العلم كلِّه، فلم تعد لديهم حقيقةٌ من حقائق العلم ثابتةً أو مستقرَّةً، بل كلُّ شيءٍ في تغيّرٍ مستمرٍّ كما يقول هرقليطس. [انظر: موسوعة المعرفة الإلكترونية].
ومن البراهين التي يذكرونها لتأييد هذه النظريّة:
أنّه لو كُتِب الرقم 9 بخطٍّ كبيرٍ على الأرض، فإنّ من وقف عند رأسه سيقرؤه 9، ومن وقف في أسفله سيقرؤه 6 وكلاهما مصيب، فبتغيّر مكان القارئ تغيّرت الحقيقة!
وهذا ينطبق على كلِّ موجودٍ في الكون، وعلى كلّ فكرةٍ يطرحها المفكّرون والعلماء، فكلّ إنسانٍ يرى الحقيقة بغير ما يراها غيره، ولا مانع أن يكون الحكم متناقضاً، وكلُّهم مصيب.
بيان معاني نظريّة (نسبيّة الحقيقة) ونقض الباطل منها:
إذا قمنا بالتقسيم الحاصر في (نسبية الحقيقة) نجد لقولهم (نسبية الحقيقة) ثلاثة معان:
الأوّل: أن يراد بها أنّ معرفة الناس للحقِّ نسبيّ.
والثاني: أنّ الشيء نسبيٌّ بالنسبة إلى غيره وليس بالنسبة إلى ذاته.
والثالث: أنَّ الشيء في نفسه نسبيٌّ، فيحمل الضدّين.
وإليك البيان:
- المعنى الأوّل: معرفة الناس للحقِّ نسبيٌّ: وهذا معنىً صحيح؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ يتصوّر الحقَّ حسب علمه وإحاطته به، وعلوم الناس تختلف، ونظراتهم تتباين، فقد يصيب بعضهم الحقّ، ويخطئ بعضهم، ويقارب الآخرون، كلٌّ حسب علمه وتصوّره للحقيقة، وكلُّ واحدٍ منهم يعتقد نفسه مصيباً وغيره مخطئاً.
وهذا الاختلاف ليس تعدُّداً للحقيقة بتعدّد الأنظار، بل إنَّ الحقَّ ثابتٌ، وإدراكه مرهونٌ بتصوّره تصوّراً علميّاً سليماً دقيقاً، وأمّا من لم يدرك الحقيقة إدراكاً تامّاً فيظنّ الوهم يقيناً وحقّاً، وهو مخالفٌ للحقيقة ولا يدري.
وإذا عدنا إلى مثال الرقم 9 نجده في الحقيقة لا يعدو مغالطةً وسفسطة؛ لأنّ الكاتب عندما كتبه قصد به الرقم 9 ولم يقصد به الرقم 6 فالحقّ موافقة ما قصده الكاتب وليس ما يظهر لكلِّ قارئ.
وإنّ الذي قرأه 6 ليس مصيباً بل هو مخطئ وإن رآه 6 يقيناً وظنّ نفسه على الصواب، وإنَّما جاء الغلط لأنّه أخلّ بشرطٍ من شروط صحّة التصوّر، وهو مخالفة الاتّجاه الذي قصده الكاتب، فوقف أسفل الرقم، ولم يحقِّق شرط صحَّة القراءة.
فإن قيل: لعلَّ الكاتب قصد به 9 و6 في آنٍ واحد، فالجواب: لا يصحّ حمل الكلمة الواحدة على معنيين مختلفين في آنٍ واحدٍ كما قرّر علماء المنطق، قال عبد العزيز البخاري الحنفي: (إنَّ اللفظ بمنزلة الكسوة للمعاني، والكسوة الواحدة لا يجوز أن يكتسيها شخصان كلُّ واحدٍ منهما بكمالها في زمانٍ واحد، فكذا لا يجوز أن يدلَّ اللفظ الواحد على أحد مفهوميه بحيث يكون هو تمام معناه، ويدلُّ على المفهوم الآخر كذلك أيضاً في ذلك الزمان). [كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (1/ 41)].
وكما يختلف إدراك الحقائق حسب تصوُّر الأشياء، كذلك يكون في المعنى السلبي بالنسبة إلى رفض الحقيقة، فكلّما ازداد الجهل بالحقّ ازداد البعد عنه؛ لذا قالوا: الإنسان عدوّ ما يجهل.
فكم من جاهلٍ ينتقد حقيقةً لأنّه يحمل صورةً مشوّهةً عنها، وهو يظنّ أنّه على الصواب المطلق، فإذا زال الوهم وظهر جهله بها غيّر رأيه، وصار يدافع عمّا كان ينتقده بالأمس.
ومن أمثلة ذلك: (أرنود فان دورن) منتج الفلم المسيء للرسول ﷺ نائب رئيس حزب (من أجل الحرّيّة) أكثر الأحزاب اليمينيّة تطرّفاً في هولندا، فقد كان يحمل حقداً شديداً على الإسلام وعلى رسول الله ﷺ بسبب جهله بالإسلام وتعاليم رسوله الكريم ﷺ، ووظّف جهوده وخبراته في الهجوم على رسول الإنسانيّة ﷺ وأنتج فيلماً مسيئاً في حقّ النبي ﷺ، ولكنّه عندما اطّلع على مصادر المعرفة الأصليّة، وعرف حقيقة النَّبيِّ ﷺ أعلن إسلامه، وقال في مقابلةٍ له: (كانت نظرتي للإسلام سيّئةً، لقد انجرفت مع كلّ التصريحات السلبيّة عن الإسلام… لذلك انجرفت مع الكراهية ضد الإسلام. كنت أعتبر الإسلام في ذلك الوقت أنَّه شيءٌ غير جيِّد).
وبعد إسلامه أدّى مناسك الحجّ والعمرة، ثمّ قصد زيارة النَّبيِّ ﷺ ووقف عند قبره معتذراً منه يبكي نادماً على ما فعله، واعتذر من المسلمين على إخراجه لهذا الفيلم، وعاهد النَّبيَّ ﷺ أن ينتج فيلماً في بيان حقيقة رسول الله ﷺ وشمائله الحميدة. [انظر: شبكة بحوث وتقارير، بوابة الشروق الإلكترونيّة]
ومنهم: (دانيال سترايش) أكبر المعادين للإسلام والحاقدين عليه في سويسرا، وأشرس القائمين على حملة منع المآذن فيها، وهو الذي أشاع أنّ (الإسلام والإرهاب وجهان لعملةٍ واحدة)، كلُّ ذلك بسبب تصوّره المغلوط المخالف للواقع، وهو يظنّ أنّ الحقيقة المطلقة معه، وأراد أن يؤكّد النظرة السلبية للإسلام حسب تصوّره من كتب المسلمين، فأخذ يقرأ كتب التفسير والحديث النبوي ونحوها ليقوّي حجّته ويردّ على المسلمين من كتبهم، لكنّه عندما اطّلع على ما كتبه المسلمون وما نقلوه عن كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم ﷺ تبيّن له أنّه كان مخطئاً، وأنّ تصوّره عن الإسلام كان وهماً كلُّه، وما وسعه بعد ذلك إلاّ أنّه دخل الإسلام، وأصبح داعيةً يدافع عنه، وقال: (أجد نفسي مضطراً على أن أحاضر وأكتب الكثير من المقالات لتوضيح أهمّيّة المساجد في سويسرا، وتسليط الضوء على مكامن الخطورة في منع بناء المآذن في بلادي) [انظر: موقع قصة الإسلام بإشراف د. راغب السرجاني]، وهناك المئات من أمثالهما.
فقبل إسلام (أرنود فان دورن) و(دانيال سترايش) عندما كانا يحكمان عن قناعةٍ تامّةٍ بأنّ محمَّداً ﷺ جاء بالإرهاب، ويريان نفسيهما على الصواب، وكان المسلم يقول عن علمٍ ويقين: بل محمَّدٌ ﷺ هو نبيّ الرحمة، والإسلام دين الإنسانيّة والسلام، واختلف الفريقان في الحكم على النَّبيِّ ﷺ وعلى الإسلام، فهذا لا يعني أنّ الحقيقة نسبيّة، وحكم (أرنود فان) و(دانيال سترايش) حقٌّ لأنَّه صادرٌ عن قناعة، بل الحقيقة ثابتة، وإنَّما كان هذا الحكم حسب تصوّرهما والحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره، لذا نجدهما عند وضوح الحقيقة لديهما أخذا يدافعان عمّا كانا ينتقدانه بالأمس.
ومن خلال هذين النموذجين وأمثالهما نجد أنّ الحقيقة ثابتة، وتعدّد الأحكام على الشيء الواحد لا يعني أنّ الحقيقة نسبيّة والشيء يشتمل على الصفات المتناقضة، بل الحقيقة واحدةٌ وهي تتبع العلم الصحيح والتصوّر السليم للشيء، وأنّ الجهل المركَّب هو الذي يجعل صاحبه يرى الوهم حقيقةً والخطأ صواباً.
– المعنى الثاني: أنّ الشيء نسبيّ بالنسبة إلى غيره وليس بالنسبة إلى ذاته: فهذا المعنى منطقيٌّ، وهناك أمورٌ نسبيةٌ بطبيعتها، والناس متَّفقون على نسبيَّتها؛ فلا ينبغي أن يختلط هذا المعنى بنسبيَّة الحقيقة في ذاتها.
فالألوان والطول والقِصَر ونحوها أعراضٌ نسبيّة، فالبياض ليس على درجةٍ واحدة، فإنَّ لون الثلج يختلف عن لون الحليب، وكلاهما أبيض، وهذا يُسمّى في علم المنطق (مشكّك).
ومثله نسبية الطول والقصر والإبداع ونحو ذلك، فإذا قورن الطويل في شرق آسيا بالإفريقي كان قصيراً، وكذلك قدرات البشر على درجاتٍ متفاوتة، فمن يكون مبدعاً بين متوسِّطي المواهب لا يكون متميّزاً بين المتفوّقين.
فيصحّ إعطاء الشيء الواحد حكمين مختلفين، ولكن ليس بالنسبة إلى ذاته، بل حسب نسبته إلى غيره، وهذان الحكمان صحيحان ومنطقيّان لوجود حقيقتين ثابتتين:
حقيقة الشيء بالنسبة لنفسه، وحقيقته مع غيره، فعند المقارنة يظهر الفرق بين الشيئين، وهذا من باب التفضيل، وكأنّنا قلنا: حقيقة الطول بالنسبة للآسيوي ثابتة، لكنّ حقيقة الطول لدى الإفريقي أقوى، وحقيقة الإبداع عند زيد بين المتوسِّطين عالية، ولكن بمقارنتها مع المتفوّقين غير متميّزة.
- المعنى الثالث لنسبيّة الحقيقة: أنّ الحقّ نسبيٌّ في الشيء ذاته: أي إنَّ الشيء الواحد حقٌّ وباطل، وحسنٌ وقبيحٌ في آنٍ واحد، فلا شيء ثابت، ولا معيار للحقّ، وهذا هو المعنى الذي يقصده الملحدون والحداثيون والعلمانيون من هذه النظرية.
وإنّ القول بنسبيّة الحقيقة باطلٌ باتفاق العقلاء؛ وهو تناقضٌ صريح؛ لأنَّ الحقَّ في ذاته واحدٌ لا يتغيَّر ولا يجتمع النقيضان فيه.
وإنّ مُنشئ هذه الفكرة: (بروتاغوراس السوفسطائي) عندما قال: يمكن إعطاء رأيين متناقضين في الشيء الواحد، وأخذ ينقد أصول المعرفة، وقال: (إنَّ الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها، ومقياس وجود ما لا يوجد).
رفض جميع الفلاسفة فكرته، وعارض أرسطو وأفلاطون استنتاجاته، فقال أرسطو في الخطابة: (إنّ أقوال بروتاغوراس هي وهمٌ وخداع، وتبدو أقوالاً متطرّفة، وليس لها أيّ مقامٍ في أيِّ فنٍّ من الفنون باستثناء الخطابة) [انظر: موسوعة المعرفة الإلكترونيّة] ومعنى الخطابة هنا الكلام الذي لا يستند إلى أصلٍ علميّ.
ومع وهن هذه النظريّة وتناقضها، فهي تنقض نفسها بنفسها، نقول: بما أنّ الحقيقة نسبيّةٌ ولا يوجد أمرٌ ثابتٌ، فهذه النظرية ليست ثابتةً، والحكم على صحَّتها نسبيٌّ، والحكم عليها بالبطلان من تقرير النظرية نفسها.
وإن أرادوا أن يلزموا الناس بها ويجعلوها الحقَّ المطلق فقد نقضوها وناقضوا أنفسهم؛ لأنّ النظريّة نفسها تنفي الحقَّ المطلق أصلاً.
تبنّي الغرب لنظريّة (نسبيّة الحقيقة):
أحيا الغرب في عصر النهضة فكرة (نسبية الحقيقة) نتيجة الصراع لديهم بين رجال العلم التجريبي ورجال الدين الكهنوتي، عندما منع رجال الدين علماء الطبيعة من التجارب العلميّة، وتمسّكوا بنصوص الكتاب المقدّس التي كانوا يستبدّون بتفسيرها، يقول الأستاذ غازي التوبة: (نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكِّرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغيّر الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أنَّ تغيُّر الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة، غير أنَّ تكوّن تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترةٍ أبعد من العصور الحديثة، ويرتبط بالعصور الوسطى.
فمن المعروف أنّ الكنيسة كانت تنطلق آنذاك في حكمها لأوروبا من نصّ “الإنجيل المقدس” الذي كان ثابتاً، والذي كانت تحتكر الكنيسة تفسيره، وعندما قامت حقائق علميّةٌ وكونيّةٌ متعدّدةٌ تُناقض النصَّ الثابت وتُناقضُ تفسير رجال الكنيسة له، وقع التصادم المريع بين الدِّين والعلم، وكانت النتيجة اضطهاد رجال العلم، بحجَّة مخالفة النصِّ المقدَّس الثابت، ولكنّ الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها، وأمام حقائق العلم، واعتبرت الثورة رجال الدين عقبةً في طريق العلم والتقدُّم، وصار الربط منذئذٍ بين النصِّ المقدّس وثبات الحقيقة، وكذا بين العلم ونسبية الحقيقة). [مجلة الوعي الإسلامي المجلد (42) العدد (473) (ص: 39)].
توظيف نظريّة (نسبيّة الحقيقة) في التحرّر ونشر الإلحاد:
إنّ نظريّة نسبيّة الحقيقة تنسجم مع نظريّة المصلحة (البراغماتيّة) لدى الغرب؛ لذا تبنّى العلمانيّون والحداثيّون فكرة نسبيّة الحقيقة؛ لأنّها تخدم أفكارهم في هدم الثوابت، والدعوة إلى التحرّر من قيود الأخلاق والأعراف والأديان، فإذا كان كلّ شيءٍ نسبياً فما يراه المجتمع أو الدِّين ممنوعاً يراه أصحاب النزوات حقّاً، ومن ثمّ أصبح للشواذّ حقوقٌ خارج الإطار الديني والعرفي، ولهم الحقُّ بالمطالبة بحقوقهم التي انتزعها منهم الدين والمجتمع!
وكذلك اتّخذ الملحدون فكرة (نسبيّة الحقيقة) أصلاً يبنون عليه أفكارهم، للقضاء على (الحقّ المطلق) الذي تؤمن به الأديان، وهو (الله) أو (الدين).
فتبنّى الملحدون هذه النظريّة، وقالوا لا شيء في الكون مطلقٌ وثابت، وإنّ الأمور نسبيّةٌ ومتغيّرة، فالأصلح من الأفكار والرؤى هو الحقيقة، ثمّ ما كان صالحاً وحقيقةً في الأمس قد يكون فاسداً ووهماً اليوم.
وبناءً على ذلك إذا استغنت البشريّة عن الحقيقة المطلقة التي تنادي بها الأديان، وصلحت الحياة باعتبار أنّ الحقيقة نسبيّة، ولا يؤثّر إنكار الحقّ المطلق عند الأديان على سير عجلة الحياة، فلا داعي لوجود حقيقةٍ مطلقةٍ وهي الإيمان بـ(الله) أو بـ(الدين).
وبمعنىً آخر: هناك اتجاهان يتنازعان تفسير وتسيير هذه الحياة:
الاتجاه الأول: الدعاة إلى الدين الذين يرون (الإله حقاً مطلقاً).
والاتجاه الثاني: أصحاب النظرة المادّيّة الذين يرون أنّ هذا المطلق لا يصلح للحياة، فلا بدّ أن يكون نسبيّاً متغيّراً، وهذه النظرة هي الأصلح والأجدر بالحياة بالنسبة إليهم . [انظر: مجلة البيان (79/ 95)].
وبناء على ذلك:
يرى الملحدون أنّ الحياة هي المادّة، ووجود الإله أو عدم وجوده ليس له تأثيرٌ في حركة الحياة، ومن ثمّ مهما جاء المسلمون بحججٍ علميّةٍ ومنطقيّةٍ في إثبات أن: (الإله هو الحقُّ المطلق) فهم يقولون بنسبيّة الحقيقة، وأنّه لا حقّ مطلقٌ في الكون البتّة، وتلك الحجج لا تعدو وجهة نظرٍ خاصّة بأصحابها، فلا وجود لثوابت قطعيّة، وأنّ ما يراه المسلمون حقَّاً يراه الملحدون وهماً، وبذلك يجعلون أفكارهم الإلحاديّة مهما كانت واهيةً تكافئ الأدلّة والبراهين القطعيّة التي يستدلّ بها العلماء.
وهكذا يحاولون أن يتجمَّلوا بمصطلحاتٍ فلسفيّةٍ ذات إيحاءات معيّنة فيقولون (نسبيّة الحقيقة) بدلاً من أن يقولوا (إنكار وجود الإله) دون أن يتغيَّر شيءٌ في المضمون.
No comment yet, add your voice below!