لماذا خَلَقَ اللهُ الفقرَ؟
لو أنَّ جميع البشر خُلقوا أغنياء لما استقامت الحياة على وجه الأرض
خرج زيدٌ وعمروٌ من منزلهما، وذهب زيد إلى عمله حيث يعمل بائعاً جوَّالاً في الطُّرقات، وذهب عمرو إلى شركته الفاخرة في أرقى شارعٍ ضمن العاصمة، وبعد دخوله بساعتين أتاه بريدٌ مستعجلٌ بقَبول تاجرٍ كبيرٍ شراءَ بضاعته التي سمَّاها عمرو صفقة العمر، وقُدِّرت أرباحه بالملايين، وعاد إلى منزله فَرحاً مبتهجاً، بينما ظلَّ زيدٌ يعمل إلى المساء, وعاد ويداه صِفرٌ، ولم يكفه ما جناه من مالٍ إلا لتأمين بضعة أرغفةٍ من الخبز إلى صباح اليوم التالي.
أين عدلُ الله بين زيدٍ وعمروٍ؟
ألا يعني هذا أنَّ اللهَ يُحبُّ عمرواً أكثر من زيد؟
هل يرى الله الفقراء, ولا يلتفت إليهم؟
لماذا خلقَ الله الفقر أصلاً؟
وما أكثر الأسئلة التي تخطر إلى الذِّهن عند سماع أمثال هذه القصص، بل إنَّ رؤيتها في واقعنا قد يحرِّك القلب والعاطفة مؤثِّراً في تفكير المسلم من منطلق أنَّ الله عادلٌ ونؤمن بذلك, ولكن أين أثر عدله في الفقراء؟
إنَّنا عند التَّسليم المطلق بأنَّ الله تعالى هو الخالق المطلق, والمتصرِّف المطلق في هذا الكون, نعلم يقيناً أنَّه يعلم ما لا نعلم، ويعلم احتياجاتنا أكثر من أنفسنا، كيف لا وهو الخالق الحقيقيُّ لنا!
أليس مخترع الآلة الكهربائيَّة أدرى النَّاس بما تحتاجه لتُكمل عملها؟ ولله تعالى المثل الأعلى.
فالله الخالق للعباد أعلم بمصلحتهم من أنفسهم، وخلق الغنيَّ والفقير في العباد, وجعلهما سواءً في الابتلاء والصّبر على الابتلاء, والتَّعامل معه بالحالة الأمثل، فإنَّه سبحانه كما يبتلي الفقير بقلَّة الزَّاد, وفقر ذات اليد ليختبر مدى صبره على حكم الله, فيرفع له أجره بصبره وفهمه لحكمة الامتحان، كذلك يبتلي الغنيَّ بكثرة المال ووفور النّعمة، ابتلاءً له في إنفاقها وصرفها, أيكون في ما أمره الله أم في ما نهاه عنه.
ولو أنَّ جميع البشر خُلقوا أغنياء لما استقامت الحياة على وجه الأرض، فقد سخَّر الله تعالى بعض الناس لتسيير أعمال الناس ومعاملاتهم، فبعضهم في الزراعة وغيرهم في الصناعة، أو في مجال الحفاظ على النظافة والبيئة… وهكذا، ولو كان الجميع أغنياء لما صَلُحت الحياة, وهذا واضحٌ بمجرَّد تخيُّله.
ولقد كان رسول البشر الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يتعوّذ من الفقر, ويحذّر من الأسباب التي تؤدِّي إليه، ومنها: الإسراف، والتَّبذير, والغشّ في البيع, والكذب به، ولو انتهى المرء عن هذه الأمور وابتعدَ عنها لما قادته إلى الفقر الشَّديد, ولبقي في حالةٍ وسطيَّةٍ تُحمد عقباها.
وهذا لا يعني أنَّ حال الفقراء مذمومةٌ, أو أنَّها مدعاةٌ إلى المنقصة، بل إنَّ لهم بشارةً طيّبةً من النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إن كانوا صابرين صادقين مؤمنين، وهذا ما ورد عنه في صحيح البخاريّ ومسلم: ” اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ“.
فالحياة الدنيا دار ابتلاءاتٍ وعملٍ لجميع النَّاس من غير استثناء، ولو نظَر الفقير إلى الكدَرِ في حياة بعض الأغنياء لما تمنَّى إلَّا البقاء في فقره، لتفكُّك علاقاتهم الأُسْريّة، وانعدم راحة البال والاطمئنان، ودوام القلق والحرص على المال والتّجارة، ولو دخل كلٌّ منا قلبَ الآخر لأشفقَ عليه، فالفقر الحقيقيُّ فقرُ العمل لا فقرُ المال.
وليس المال كلَّ شيءٍ في الدُّنيا, وليس مصدرَ السعادة الوحيد، نعم نجد فيه جزءاً من السعادة في توفير حياةٍ جيدةٍ، ولكنّه في الحقيقة في مراتب ثانويَّة، فمَن يُخيَّر بين الصّحَّة والإنجاب أو المال، تراه لا يريد المال, وسيكون همُّه الصّحّة وغيرها من النّعم.
كلٌّ يعمل بما قُدِّرَ له, وكلٌّ سيُرزَق ما كُتب له، وعند الله تعالى العدل المطلق, فهو أعلم بحالنا وبما يناسبنا من أنفسنا, فلعلَّ فقيراً مؤمناً عابداً لو فُتحَت له الدنيا من بابها الواسع لأشركَ وطغى وتكبَّرَ, فكانت هذه الحال هي الأنسب له.
No comment yet, add your voice below!