لطفاء في النار

Loading

لطفاء في النار

يتساءل الشباب بكثرة عن حُكم اللطفاء من غير المؤمنين، الذين لم يؤذوا أحداً من الخلق؛ هل يعقل أن يُدخلهم الله النار لمجرَّد أنَّهم كانوا غير مؤمنين؟ أليس في هذا الأمر شدَّةٌ لا تليق برحمة الله؟ كيف يعذِّب الله خلقاً لم يقتلوا ولم يسرقوا، بأنَّهم كانوا كافرين بالله وحسب.

الكفر بالله والكفر بالناس

يتصوَّر من يتحدَّث بهذه الطريقة أنَّ من يكفر بالله دون أن يؤذي أحداً من البشر يكون إنساناً خلوقاً ومهذَّباً، فهو ملتزمٌ بعمله لا يفتعل المشاكل مع الآخرين، يُعامل الجميع باحترام؛ ولكنَّه غير مؤمن.

ونلاحظ في واقع الناس حالاتٍ كثيرةً من هؤلاء خصوصاً في الشعوب المتقدِّمة والأمم المتحضِّرة، حيث يلتزم الإنسان بعمله وقانون بلاده إلَّا أنَّه في غالب الأحوال غير مؤمن.

ونميِّز في هذه الحالة بين من لم تصله الدعوة بشكلٍ جيِّد؛ لأنَّ الإعلام شوَّه نظرته عن الإسلام والمسلمين، وبين من عرض عليه الإيمان وأنكره.

فالصنف الأوَّل هم أهل دعوة ولا يلبث أحدهم أن يقبل الحقّ إذا عرض عليه بشكله الأمثل، لكن من بقي منكراً لحقِّ الله بعد أن يعرض عليه؛ فهو أسوأ الناس أخلاقاً وإن شوهد يعامل الآخرين باحترام. ذلك بأنّ كفر النعمة وجحدها أمرٌ مُشينٌ لا يليق بالإنسان الخلوق.

وقد روي عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قوله: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) [رواه أحمد].

فبذرة الكفر واحدة، ولا يقبل أحدٌ من أهل الفضل والأخلاق هذه الخصلة إن كانت في حقِّ أحدٍ من البشر، فكيف إن كانت في حقِّ الله صاحب النعم كلِّها.

إيذاء الخلق بالبعد عن الإيمان

ربَّما يعترض البعض على مسألة شكر الله والكفر به، ويتمسَّك بمعيار إيذاء الآخرين، مع أنَّه معيارٌ غير مقبول كما سنبين في الفقرة التالية إن شاء الله، لكن سندرس هذه المسألة هنا ونسأل: (هل من يبتعد عن الآخرين لا يؤذيهم)؟ (وهل اتّباع الإنسان لمعيار: “افعل ما تشاء دون أن تؤذي أحداً” يصلح مع البعد عن الشريعة

هناك من يظنُّ أنَّ الإيذاء يحصل بمجرَّد الفعل دون اعتبارٍ للإيذاء المتحصِّل من الانفعال السلبي (أو ترك الفعل)، فيظنُّون أنَّ القيام بفعل القتل –مثلاً– شرٌّ وإيذاءٌ، وتركَه خيرٌ وفضلٌ. وكذلك الأفعال الأخرى من كلامٍ وتواصلٍ وغيرها، فالشرُّ والذمُّ لا يلحق إلَّا الفاعلين أمَّا من يترك الفعل فلا يلحقه أي لوم. 

رحمته في الجهاد

والحقيقة أنَّ قوانين الأرض لا تسلِّم بهذا المعيار، فالفعل يكون خيراً في موضع وتركه خيراً في موضع، وقد يكون ترك الفعل شراً، كمن يترك إسعاف مريض أو إطفاء حريق، أو من يرفض التبليغ عن جريمة. كلُّ هذه الانفعالات السلبية شرٌّ يلام صاحبها عليها، وقد يتَّهم بالتواطئ مع القاتل إذا لم يبلِّغ عن الجريمة مع علمه المسبق بها.

لذلك لا يكفي الإنسان أن يترك الأفعال كي يكون جيداً، بل لا بدَّ له من القيام بالأفعال الخيّرة؛ وإلَّا تسبَّب بإيذاءٍ كبيرٍ للآخرين، فكم تدفع الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله الشرَّ عن الأفراد والمجتمعات:

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوْا شَيْئَاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوْا شَيْئَاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَاْ تَعْلَمُوْنَ[البقرة216]

انظر مقال (رحمته__في_الجهاد) لمزيدٍ من التفصيل في قضية الرحمة الإلهية في تشريع الجهاد

أمَّا من يقول: (افعل ما تشاء دون أن تؤذي أحداً) عليه أن يُدرك أن لا إمكانية لترك إيذاء الآخرين إلَّا بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، فمن يقول من الشباب: (أنا لا أؤذي أحداً، ولا أقتل، ولا أسرق، ولا أغتصب، ولكنّي على علاقةٍ مع فتاة بالتراضي دون أن أؤذيها) يجب أن يعرف أنَّه يُؤذيها لمجرَّد أن يكون على علاقةٍ معها دون زواجٍ مسؤول، لأنَّه لن يلبث أن يتركها أو أن يتسبَّب بحملٍ يتبرَّأ من مسؤوليته أو يلزمها بإجهاض وقتل نفسٍ بريئةٍ وفي ذلك إيذاءٌ كبيرٌ لجسدها ومشاعرها، فكيف يزعم أنَّه لا يؤذيها؟ وكذلك شُرب المسكرات وما يترتَّب عليه من مفاسد على النفس والمجتمع، أو ترك الوالدين عند كبر سنِّهما، أو غير ذلك مما حرَّمه الله في الشريعة. فكيف يستقيم لإنسانٍ أن يفعل ما يشاء دون أن يؤذي أحداً وهو منفلتٌ من رباط الشريعة التي شرعها الله لصلاح النفس والمجتمع؟

معيار إيذاء الآخرين، ثمرة أم غاية؟

مع تسليمنا بأنَّ امتثال أوامر الله يقي الآخرين من الإيذاء بمفهومه الأشمل وبصورته الأكبر كما بيّنا، إلَّا أن هذه النية لا تصلح؛ فمن قدّم وبذل وضحَّى من أجل (غير الله) فقد فسدت نيَّته.

فقد سئل النَّبيُّ عن الرَّجلُ يقاتلُ شجاعةً، ويقاتلُ حَميَّةً، ويقاتلُ رياءً، فأيُّ ذلِك في سبيلِ اللهِ؟ فقال : (مَن قاتلَ لتَكونَ كلمةُ اللهِ هيَ العليا فَهُوَ في سبيلِ الله[رواه البخاري ومسلم].

ذلك بأنَّ أصلَ نيَّة المؤمن التقربُ إلى الله سبحانه وتعالى، فهو الخالق وهو صاحب الأمر. والتسليم لأوامره حقٌّ مطلقٌ بني عليه أصل التكليف؛ فلا يَسأل من أسلم وجهه لله عن ثمرة ما سيفعله إن كان سيرضي ربَّه، على الرغم من أنَّه سينال الهدف الذي يدعو إليه من يريد الخير للبشرية.

فدعوات الخير للآخرين متَّسقةٌ مع الفطرة النقية التي جعلها الله في قلوب الخلق يتراحمون بها فيما بينهم؛ إلَّا أنَّ ذلك الخير لا ينبغي أن يكون أصل النيَّة، فهو ثمرةٌ مُحصَّلةٌ وليس غايةً يُسعى لأجلها. فالغاية الأسمى هي إسلام النفس لله وأوامره، وعلى هذا يحاسب العبد يوم القيامة. 

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *