فمن خلق الله
فمن خلق الله
يطرح الناس كثيراً من الأسئلة في مواضيع العقيدة، ويطالبون بتقديم جوابٍ وافٍ عن كلِّ سؤالٍ يخطر في بالهم، وبعض هذه الأسئلة نابعٌ من تصوُّرٍ خاطئٍ لبعض المسائل يحتاج إلى تصحيحٍ ليزول الإشكال.
سنجيب في هذا المقال عن أحد هذه الأسئلة وهو: “من خلق الله؟” وفق خطواتٍ متسلسلةٍ، ثمَّ نعرض الحلَّ النَّبويَّ وهو الحلُّ الأمثل لهذه الشبهة وغيرها.
أوَّلاً: (الإله) في الإسلام
نبدأ بعرض التصوُّر الإسلاميّ للإله، وهو التصوُّر الصحيح، حتَّى يتبيّن أنَّ سؤال: “من خلق الله؟” يُلزمنا بأشياء _نحن المسلمين_ لا نعتقدها .
فالله تعالى موصوفٌ بكلِّ صفات الكمال، ومنزَّهٌ عن كلِّ نقصٍ فهو الغنيُّ عن كلِّ ما سواه.
ومن هذه الصفات القِدَم: والقديم هو: ((ما لا أوّلَ لوجودِهِ؛ أي أنَّ وجودَهُ أزليٌّ لم يسبقْهُ عدمٌ))[شرح العقيدة الوسطى: الإمام السنوسي.]، وهو الذي ذُكر في القرآن الكريم بلفظ الأوَّل في قوله تعالى في سورة الحديد: ﴿هُوَ الْأَوَّل وَالْآخِر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن﴾ والمقصود بالأوَّل: (الموجود قَبْل كُلِّ شَيْءٍ بِلَا بِدَايَةٍ) [تفسير الجلالين].
ثانياً- معالجة الاعتراض :
- الخطأ في السؤال:
تُطرح هذه الشبهة بناءً على تصوُّرٍ خاطئٍ لمبدأ السببية، فالسائل يظنُّ السببية كقولنا: إنَّ كلَّ موجودٍ لابدَّ له من سبب، وهذا تعريفٌ باطلٌ للسببية، والصحيح هو أنَّ كلَّ حادثٍ (وهو ما كانت له بداية) لابدَّ من سببٍ لبدايته. ونحن نعتقد أنَّ الله تعالى لا بداية لوجوده كما سبق وبيّنا، فسؤال: من خلق الله؟ هو كسؤالنا “ما هو سبب بداية الذي لا بداية له؟” أو “من قبل الذي ليس قبله شيء؟” والخطأ واضحٌ في هذين السؤالين، والسؤالان هما من الأسئلة التي ليس لها معنى لأنَّها تؤدِّي إلى التناقض .
وقد يسأله البعض لا من باب الاستفسار بل من باب الإلزام، وهو إلزامٌ لنا بما لا يلزمنا.
فإذا سألنا: “كم عدد أضلاع الدائرة؟” فسيقولون: ليس للدائرة أضلاعٌ، وسؤالك يفترض لها أضلاعاً، وهو افتراضٌ خاطئٌ يتناقض مع مفهوم الدائرة، وهو سؤالٌ لا معنى له .
وهذا الخطأ، وانعدام المعنى ذاته في سؤال: “من خلق الله؟” - كون الخالق مخلوقاً يستلزم التناقض :
لو كان الإله مخلوقاً، لكان لابدَّ له من خالقٍ أوجده، وهذا الخالق لا بدَّ له من آخر يُوجِدُه، وهكذا إلى ما لا نهاية، وحتَّى نكون موجودين يجب انقضاء هذه السلسلة اللامتناهية وانتهاؤها، وانتهاء ما لا يتناهى باطل .
فإمَّا أنَّنا غير موجودين، وهذا يرفضه العقل والحسّ، وإمَّا أنَّ هذه السلسلة انتهت إلى خالقٍ وجوده من ذاته لا يحتاج إلى شيءٍ، ((قديمٌ بلا ابتداء، دائمٌ بلا انتهاء))[العقيدة الطحاوية: الإمام أبو جعفر الطحاوي.] .
وهذا الذي نريده ويُسمَّى بصانع العالم أو (الله).
ويلخِّص الإمام الغزالي ذلك فيقول:
“ندَّعي: أنَّ السبب الذي أثبتناهُ لوجود العالم قدیمٌ؛ فإنَّه لو كان حادثاً لافتقرَ إلى سببٍ آخرَ، وكذا ذلك السببُ الآخرُ، ويتسلسلُ: إمّا إلى غير نهايةٍ وهو محالٌ، وإمَّا أن ينتهيَ إلى قديم -لا محالةَ- يقفُ عنده، وهو الذي نطلبُهُ، ونسمّيه: صانعَ العالم، ولا بدَّ من الاعتراف به بالضرورة.” [الاقتصاد في الاعتقاد: الإمام أبو حامد الغزالي]
ثالثاً- العلاج النَّبويّ :
إنَّ نبيّنا المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم أجاب منذ أكثر من ألفٍ وأربعمئة سنةٍ عن هذه الشبهة، وحوى جوابه الغاية في الكمال، فحاز أسلوبه على الإجابة الوافية والوقاية الكاملة، ونلخِّصها في نقطتين :
- الإعراض عن الوساوس، والتضرُّع والالتجاء إلى الله ليذهب هذه الوساوس، وهذا يتجلَّى في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم في صحيح مسلم: “يأتي الشيطان أحدَكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتَّى يقول له: من خلق ربَّك ؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولِيَنْتَه “.
وهذا لقطع الطريق أمام الأمراض النفسية النابعة عن كثرة الوساوس فتؤدِّي إلى إصابة الإنسان بما يدعى الوسواس القهري (والوسواس القهري: هو اضطرابٌ نفسيٌّ يجعل الشخص يفكِّر كثيراً بأفكار ومخاوف لها نمطٌ معيَّنٌ متكرِّرٌ، تسبِّب التوتُّر الشديد، ويكون الشخص غير قادرٍ على التخلُّص من هذه الأفكار، وتجعله يقوم بتصرُّفاتٍ قهريةٍ من أجل التقليل من التوتر، لكنَّ الذي يحصل هو أنَّ الأفكار تستمرُّ، والأفعال القهرية تتكرَّر، وكأنَّه يدخل في حلقةٍ مُفرغة)، فيعيش الشخص في حالةٍ من الصراع مع نفسه للخروج من هذه الحالة فلا يقدر، وحتَّى لو أُجيب عن سؤاله جواباً شافياً فسيبقى يدور في عقله، وتتولَّد أسئلةٌ أخرى من لا شيء.
ولم يكتفِ صلَّى الله عليه وسلَّم بتجنُّب مصدر الإزعاج، وعدم الاستماع والاذعان له، بل أعطى الجواب الشافي المختصر من جوامع كَلِمِه عليه أفضل الصلاة والسلام المتمثِّل في النقطة الثانية : - أجاب النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن هذه الشبهة بتوضيح أنَّ الله تعالى مغايرٌ ومُختلفٌ عن الخلق، وإنَّ اعتباره من ضمنهم لهو خطأٌ كبيرٌ، فقوله صلَّى الله عليه وسلَّم في صحيح مسلم: “فليقل: آمنتُ بالله“، وزاد في أخرى: “ورُسُله“، ولأبي داود والنسائي من الزيادة: “فقولوا: ((الله أحدٌ، الله الصمد)) -السورة- ثمَّ لِيَتْفُلْ عن يساره، ثمَّ لِيَسْتَعِذْ.” هي تذكيرٌ للنفس بأنَّ الذي تؤمن به ليس المخلوقَ المحتاجَ بل الخالق الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفُواً أحد.
فالأحد معناه: الذي لا ثاني له ولا مثل، فلو فُرض مخلوقاً لم يكن (أحداً) على الإطلاق.
والصمد: هو الذي لا يحتاج شيئاً، بل الأشياء هي المُحتاجة إليه .
وبالتالي فإنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُشير إلى أنَّ الله لا يشبه المخلوقات، ولا يتَّصف بصفات الحوادث، فهو ليس حادثاً، وليس متولِّداً عن شيءٍ؛ بل هو خالقٌ قديمٌ ليس كمثله شيء .
ختاماً :
إنَّ الإسلام لم يحجر على عقل أيِّ شخص، ولم يمنع أحداً من السؤال، لكنَّ الذي يطلبه هو التفكير المضبوط بموازين العقل وقواعد المنطق، و الذي سيوصلنا بالضرورة إلى الإسلام .
والحمد لله الذي هدانا للإسلام، ووفَّقنا لقبوله والإذعان له والاصطباغ بحقائقه.
No comment yet, add your voice below!