يُعرَّف الحديث النبوي بأنَّه كلُّ ما صدرَ عن النبيِّ صلّى الله عليه و سلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفةٍ, وهذا هو المفهوم العام للفظ الحديث عند إطلاقه ونسبته للنبي صلّى الله عليه و سلم, فالرجل الوحيد في العالم الذي حُفظت أقواله وأفعاله بل حتى حركاته وابتساماته هو سيِّد الخلق محمَّد صلّى الله عليه و سلم, وذلك هو المصدر الثاني من مصادر الشريعة الإسلامية التي تقرِّر أفعال المسلمين وأقوالهم, ولأجل هذا نال هذا المصدر العناية الربَّانية, والعون منه سبحانه على حفظه ونقله إلى القرون التالية لزمن بعثة النبي صلّى الله عليه و سلم.
تناقلَ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الأحاديث والأفعال النبوية مشافهةً بكامل الحرص والدِّقة بينهم وبين التابعين من بعدهم, وكذلك التابعين إلى تابعيهم, وهكذا الأمر دواليك, إلى أن ظهرَ زمن التدوين والتصنيف, وكان من أشهر ما كُتب في جمع الاحاديث هو صحيح الإمام البخاري, المُسمَّى:
“الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلّى الله عليه و سلم وسننه وأيَّامه”
ولد الإمام البخاريُّ في سنة 194 هجرية, أي بعد وفاة النبي صلّى الله عليه و سلم بما يزيد عن 180 سنة, فظنَّ بعضهم أنَّ هذه الفترة كانت فترة ضياع الحديث النبوي لعدم وجود ضبطٍ للنقل، أو كتابٍ معتمدٍ يُرجع إليه, فهم يعتبرون أنَّ زمن التدوين بدأ في عهد الإمام البخاري.
العصر الأول للكتابة:
لو بحثنا عن الحقيقة بعينها لوجدنا أنَّ كلام النبي صلّى الله عليه و سلم كُتِبَ في حياته قبل موته, وإلَّا كيف أُرسلت الرسائل والكتب من النبي صلّى الله عليه و سلم إلى ملوك الأرض!
فنجد كتبه عليه الصلاة والسلام إلى الملوك أمثال هرقل وكسرى والنجاشي والمقوقس وغيرهم كلّها موجودة مخطوطة مدونة في كتب السيرة كما هي نقلاً عن أصلها.
لكن هل نهى رسول الله صلّى الله عليه و سلم عن تدوين الحديث في زمانه حقَّاً؟
نقلت بعض المرويات عن الصحابة رضوان الله عليهم عن النبي صلّى الله عليه و سلم أنَّه نهى عن كتابة كلامه وحديثه في عدَّة مواضع, وذلك خشية أن يختلط القرآن بالسُّنَّة على النَّاس، وهم ما زالوا حديثي عهدٍ بالإسلام, وكلام الله أرقى منزلةً وأعلى مكانةً، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يرسِّخ القرآن في ذهن الصحابة والمسلمين آنذاك، ويُحفظ على أتمِّ وجهٍ من غير تداخلاتٍ ثانية, وكان ذلك زمن قوّة اللغة العربية وأهلها, وكان الصحابة ومن معهم أكثر الناس حفظًا وتطبيقاً لكلام النبي صلّى الله عليه و سلم فلم تستدعِ الحاجة إلى تدوين الحديث.
وكما ثبتت أحاديث كثيرةٌ في منع كتابة كلام النبيِّ ثبتت أحاديث أخرى دالَّة على جواز الكتابة والتدوين عنه, وجمعاً بين الروايات فإنَّ المنع كان في بداية الرسالة، وعندما اتَّضحت الرؤية, ورسخ مفهوم القرآن الكريم لدى المسلمين جازت الكتابة عنه صلّى الله عليه و سلم .
هل البخاري أوَّل من دوَّنَ الحديث؟
لو نظرنا نظرةً سريعةً إلى العهد الذي سبق الإمام البخاري لوجدنا أكثر من ثلاثين شيخاً ألَّفَ كتباً في الحديث عن النَّبي صلّى الله عليه و سلم, نذكر عدداً منها على سبيل البيان لا الحصر مُرفقاً بتاريخ الوفاة.
الإمام البخاريُّ (265هـ) قد سبقه الإمام همام بن منبّه (101هـ), وبعده الإمام مالك بن أنس (179هـ) بمؤلفه الموطَّأ، وعاصَرَه الإمام عبد الله بن المبارك (181هـ), ومِن بعدهم عبد الله بن وهب (197هـ), و أبو داود الطيالسيّ (204هـ) بما جمعه في مسنده, وعبد الرزاق الصنعاني (211هـ) في مصنَّفه, وعبد الله ابن أبي شيبة (235هـ) في المصنَّف, وإسحاق بن راهويه (238هـ), وأحمد ابن حنبل (241ه) بمسنده الضخم, بعد ذلك جاء الإمام البخاري رضي الله عنه وعنهم أجمعين فألَّفَ صحيحه.
وفي رأس المئة هجرياً كتبَ خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز (101هـ) إلى أمرائه بأن يحملوا العلماء على تدوين السُّنَّة, فكتب إلى واليه في المدينة أبي محمد بن عمرو بن حزم (120هـ): “انظر ما كانَ من حديث رسول الله صلّى الله عليه و سلم فاكتبه, فإنّي خفت دروسَ العلم وذهاب العلماء, ولا تقبَل إلا حديث رسول الله “, وكان ممن كتب محمَّد بن مسلم الزهري (124هـ).
الفرق بين الكتابة والتدوين والتَّصنيف:
الكتابة: هي مُطلقُ خطِّ الشيء, فتتضمن نقل الكتاب وتقييده في ورقةٍ أو صحيفةٍ أو مقالةٍ, والتدوين: هو تقييد المُشتَّت وجمعه في كتاب تُجمع فيه الصحف, أما التَّصنيف: فهو ترتيب ما دُوِّنَ في فصولٍ محدودةٍ وأبوابٍ مميَّزةٍ.
ولو أردنا تطبيق هذا الكلام على السلسلة الطيِّبة من الأسماء السابقة لوجدنا أنَّ الكتابة كانت في زمن النبي صلّى الله عليه و سلم وصحابته في كتاباتٍ متفرِّقةٍ بين الأوراق والصحف وغيرها, وفي صدر عهد التابعين بدأت رحلات التدوين بمجرَّد جمع الأحاديث من غير النظر إلى صحتها أو ضعفها أو تصنيفها حسب موضوعها, ثمَّ ازدهر العصر بالتصانيف والتقسيمات والتبويبات، وهذا ما زاد الكتب رونقاً, وكان الإمام البخاري من أوائل المصنِّفين وليس المدوِّنين, فقد ضمَّ في كتابه ما جمعه من تلك الكتب وغيرها، فاختار أصحَّ الصحيح منها، ووضعه في ترتيبٍ معيَّنٍ, فكان تصنيفًا وليس مجرَّد تدوين.
طرق حفظ الأحاديث النبوية:
كان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون كلَّ الحرص على تبليغ السُّنَّة والأقوال النبوية والأفعال المحمدية كما أتت من غير تحريفٍ ولا تبديلٍ, وكان دافعهم إلى ذلك الأجر الكبير والثواب الجزيل في التبليغ, ومن ذلك ما ورد في سنن أبي داود عنه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: “نضَّرَ الله امرأً سمع منَّا حديثاً فحفظه حتى يُبلِّغه, فَرُبَّ حاملِ فقه إلى مَن هو أفقه منه, ورُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيه”, واهتمَّ الصحابة بذلك فنقلوا الكلام بأدقِّ المناهج وأفضل القواعد حتى أصبحت الأمَّة الإسلامية تتفاخر بالأسانيد.
كانت البداية بالحفظ في الصدور والتبليغ من الحافظة القوية والذاكرة الرصينة, وكانت تُعقد لذلك مجالس الحديث روايةً ودرايةً في مسجد النبي صلّى الله عليه و سلم, وهكذا نُقل الحديث إلى التابعين بعدَ الصحابة, وبقي الأمر ذاته مع بداية مرحلة التدوين على رأس المئة هجريّاً, وبعد هذه المرحلة انقسمت رواية أحاديث النبي صلّى الله عليه و سلم إلى ضبط الصدور والكتب, فمنهم من بقي يُحدِّثُ كلام النبي عليه الصلاة والسلام من ذاكرته كما يرويه عمّن قبله, ومِنهم من اعتمدَ الكتب وجمع بها الأحاديث يروي منها لا من ذاكرته.
فكانت كل تلك العوامل لحفظ السُّنَّة النبوية كما أتت من غير تحريفٍ ولا تبديلٍ, وقد اهتمَّ بها المسلمون منذ فجر الرسالة السماوية إلى فترة اعتماد الأحاديث بالكتب, ورحل رجالٌ كثيرون مسيرة أسابيع وأشهر ليسمعوا حديثاً واحداً من راويه الأوَّل حرصاً على حفظ الحديث كما هو.
تتلخّصُ مراحل كتابة الحديث في مراحل أربع:
- مرحلة وجود الأحاديث في الصدور.
- بداية زمن التدوين عند رأس المئة هجريّاً.
- مرحلة التجريد, التفريق بين قول النبي صلّى الله عليه و سلم وقول الصحابة وقول التابعين.
- مرحلة التهذيب والترتيب, في مؤلفَّات تناسب أذواق أهل العصر.
ولعلَّ الخلط بين المفردات والمصطلحات, وعدم إدراكها بمعانيها الحقيقيَّة والعمليَّة, هو ما دفع بعضهم للقول: إنَّ الأحاديث ضاعت من زمن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم إلى زمن التدوين عند الإمام البخاري, فالحديث النبويُّ في هذَين القرنين كان محفوظاً بسلسلةٍ من أفضل رجال الدنيا وأكثرهم إتقاناً.
وبذلك نجد أنَّ علم الحديث كان من أكثر العلوم التي خُدمت على مرِّ البشرية, فاعتني بتوثيقه على أتمِّ وجهٍ, وأكمل اهتمامٍ وحرصٍ, ممَّا دفع غير المسلمين وبعض المستشرقين لمدح هذا العلم والإعجاب به إيماناً منهم بعظمة الجهود التي بُذلت لحفظه ونقله, حتَّى إنَّ القسَّ الإنكليزي (دافيد صموئيل مرجليوث) قال: (لِيفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم).
سلاسل من الذهب بداية جوهرها النبيُّ صلّى الله عليه و سلم خير خلق الله تعالى, والسعيد كل السعادة من نال من حظِّ الارتباط بهذه السلسلة روايةً ودرايةً ومحبَّةً.
1 Comment
ما شاء الله مقال جامع وشامل
جزاكم الله خيراً