ومن المثالب التي أخذوها على القرآن بزعمهم أنَّه يتحدّث عن الغيبيّات والموت، ويأمر بالزهد, ويقلّل من شأن الدنيا، وهذا أيضاً مما يعطّل العقول ولا يواكب التطوُّر الفكريّ!
فالجواب: أيُّهما يصحّ في المنطق والتفكير: إنكار الغيبيات وعدم الإيمان بخالقٍ للكون، أم إثبات واجب الوجود وهو الله تعالى، والإيمان بما يخبر به من الغيبيات؟
إنّ إنكار الغيبيات وعدم الإيمان بخالقٍ للكون، والاقتصار على العالم المحسوس يُفضي إلى تناقضٍ فكريٍّ؛ لأنّه إنكارٌ لمبدأٍ أساسيٍّ من مبادئ التفكير المنطقي، وهو مبدأ السَّببيَّة، فلا بدّ لكلّ موجودٍ من موجِد، ولكلّ مُسَبَّبٍ من مُسبِّب.
وإنَّ وجود المسبَّبات والمخلوقات يحتّم على العقل مسبِّباً وموجداً لها لا محالة.
وعندما أراد المنكرون أن يخرجوا من هذا التناقض المنطقيّ، قالوا: الكون قديمٌ لا بداية له.
ومع عدم منطقية ذلك, نجد العلم أثبت أنّ للكون نشأةً وبدايةً، وأنَّه كان معدوماً ثمّ وُجِد.
وبعد أن ثبت أنّ الكون وُجِد بعد عدم قالوا: وُجِد الكون صدفةً، وآمنوا بالطبيعة.
ونتج عن تفكيرهم هذا الإيمان بالعشوائيَّة، وإنكار القوة الخبيرة المبدعة، فأنكروا وجود خالقٍ خبيرٍ بديع، وآمنوا بالصدفة وبالطبيعة العمياء، ونسبوا إليها الخلق والقدرة والإبداع وتنظيم الكون، فانتقلوا من تناقضٍ إلى تناقضٍ آخر في نسبة الأشياء إلى غير مسبِّباتها.
ومن ثمّ أرسل الله تعالى الرسل لئلّا يبقى الإنسان متخبطاً في الضلال والحيرة، ، وكان محمَّد ﷺ خاتم المرسلين، وأنزل إليه القرآن الكريم؛ ليخبر البشرية بأنّ الله (واجب الوجود) هو الذي خلق الأكوان, وهو الذي أنزل الكتاب.
ثمّ جعل القرآن كتاب هدايةٍ وإرشاد، وبيّن للناس نشأتهم، ووظيفتهم في هذه الحياة، ومصيرهم، من خلال الإيمان بالله وما أخبر به من الغيبيات، وما أوجب من العبادات والتزكية والأخلاق، فذكر عالمَ الغيب كالملائكة والبعث والنشور والحساب والجَنَّة والنار، وغير ذلك.
وقد أحكم الله الأدلّة على صدق رسول الله ﷺ من خلال الظروف التي نشأ فيها, وسيرته وصدقه وأمانته، وبما أنزل في القرآن من خطابٍ يستحيل أن يعلِّمه رجلٌ أميٌّ عاش في بيئةٍ بسيطة.
وبهذا زالت الحيرة لدى المؤمنين، واتّضحت الحقيقة أمامهم، بأنّ هناك إلهاً واجب الوجود, متَّصفاً بصفات القدرة والكمال, وهو الذي أوجد الكون، واستقام لديهم المنطق والتفكير بإيمانهم بالله تعالى.
وهنا نعيد السؤال لمنكري الغيب, ونقول لهم: ما الدّليل العلميُّ أو المنطقيُّ على إنكار ما وراء الطبيعة، وعدم وجود خالقٍ للكون متّصفٍ بالكمال؟
فلا يمكن أن يستقيم ذلك في المنطق والعلم، وإنّ إنكار واجب الوجود يفضي لا محالة إلى تناقضٍ وتخبّطٍ في التفكير؛ لأنَّه إلغاءٌ لمبدأٍ عقليٍّ ثابتٍ, وهو السَّببيَّة.
فأين حُجّة منكري الغيب الذين يتّهمون القرآن بأنّه يعطّل العقول؟
وما الذي يعطِّل العقول, ويوقع في التخبُّط والتناقض المنطقيّ، هل هو إنكار الغيبيات أم إثباتها؟
أمَّا قولهم بأنّ القرآن يأمر بالزهد, ويقلِّل من شأن الدنيا:
نعم يأمر القرأن بالزُّهد ويقلِّل من شأن الدنيا، لكنّه ليس بتلك النظرة السطحيّة الساذجة: من لبس الرثّ من الثياب وترك العمل، وإنَّ هذا الفهم السقيم مبنيٌّ على جهلٍ مُطبقٍ، ومخالفةٍ للدِّين.
فالزُّهد مقامٌ عظيمٌ من مقامات الإيمان، ولا علاقة له بالأشكال والمظاهر واللباس والمال، بل هو حالٌ مع الله تعالى محلُّه القلب.
يجمع الزهد الفضائل والكمالات من أطرافها، وهو مقامٌ يمزج بين حبِّ الله تعالى واليقين به، والرِّضا بقضائه، والتواضع، وتزكية النفس، والإخلاص، والقناعة، والعفاف، والكرم، والصبر، وإيثار الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، وتحرّي الحلال، والابتعاد عن أكل الحرام، فمن اجتمعت لديه هذه المعاني فهو زاهدٌ، وإن كان أغنى الأغنياء، ومن أخطأها فهو بعيدٌ عن حقيقة الزهد، وإن أظهر التقشّف والعزوف عن الدنيا.
قال الملا علي القاري: (الزهد عبارةٌ عن عزوف النفس عن الدنيا مع القدرة عليها لأجل الآخرة، خوفاً من النّار، أو طمعاً في الجنة، أو ترفُّعاً عن الالتفات إلى ما سوى الحقّ، ولا يكون ذلك إلا بشرح الصدر بنور اليقين، ولا يُتَصَوّر الزهد ممن ليس له مال ولا جاه) [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3247)], فلا تظهر حقيقة الزاهد إلا بعد كسب المال أو نيل الجاه، لذا قيل لابن المبارك: يا زاهد، فقال: (الزاهد عمر بن عبد العزيز إذ جاءته الدنيا راغمةً فتركها، وأمّا أنا ففيم زهدت؟) [شرح الشفا (1/ 228)]
فلا علاقة للزُّهد بالسلبيّة والانعزال عن الدنيا، والزاهد الحقيقيُّ يقدّم النَّفع للخلق بكلِّ وسعه، حتى ولو أوكلت إليه الإمارة والسلطة، لكنَّه لا يتشوّف إلى المنصب حبَّاً للرياسة وطلباً للشهرة والتعالي، وتحقيقاً لمآربه ورغباته، وإنّما ينظر إليه بأنَّه وظيفةٌ وتكليفٌ من الله لإصلاح معاشهم، وتأمين حاجياتهم، وتحقيق مطالبهم، والرقيّ بحياتهم؛ لذا تولّى أفضل الصحابة أمور المسلمين، فتولّى الخلفاء الرَّاشدون الإمامة العامة للأمّة، وآخرون قاموا على الإمارات والأقاليم، مثل: سلمان الفارسي، وسعيد بن عامر الجمحي، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم وغيرهم كثير.
كما أنّ أفضل التابعين: عمر بن عبد العزيز رحمه الله تولَّى زمام الحكم وسار على نهج الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم جميعاً، وهؤلاء وأمثالهم أزهد الأمة وأعلمهم بحقائق الدين، فقد أنجزوا أعظم الإنجازات، وأقاموا العدل، ونفعوا البشرية، وملكوا الدنيا لكنّها لم تملكهم، فلم يتغير حال أحدهم عندما انتقل من فردٍ من عامَّة الرعية إلى السلطة والإمارة، وكلّ ذلك بفضل تعاليم القرآن الكريم والسنّة النبوية…
إنّ القرآن الكريم في حثّه على الزهد والتقليل من قيمة الدنيا ربّى رجالاً عظاماً، لا يتزحزح أحدهم عن دينه ومبدئه مهما بلغ به الأمر، بل تبدو نفسه وحياته والكون بأسره صغيراً حقيراً أمام الحقّ والمبدأ، فلا يغترّ ولا يضعف أمام المغريات والأهواء، بل يثبت ولا يخالف شرع الله.
وعندما فوجئ أولئك الصحابة ومن كان على شاكلتهم في معركة القادسية بالجواهر النفيسة والتحف والبهرج الذي لم يخطر ببال أحدهم من قبل، لم يأبهوا به ولم يدخل أفئدتهم الهلع والاستعظام، وإنما استهانوا بكلِّ ذلك، بل كان في أعينهم كأنَّه حجارةٌ؛ لأنّ الإسلام بصّرهم بمعرفة كلِّ شيء على حقيقته، فمهما بلغت هذه التحف والزخارف والمجوهرات من النفاسة والغلاء، فإنَّها من الدنيا التي لا تعدل شيئاً أمام نعيم الآخرة، ولو لم يكن الزهد من تعاليم القرآن لاختلسوا تلك المجوهرات، وتنافسوا على الدنيا، ودبّ الفساد بينهم، وتنازعوا ثمّ هلكوا، ولم يحقّقوا نصراً ولا فتحاً.
إنّ المقصود من الزهد والتقليل من قيمة الدنيا تزكية النفوس والأخلاق، ليبقى المؤمن متوازناً، فلا يستغلّ الدنيا لمصالحه ومآربه والإضرار بالمجتمع، ولا يتحوّل إلى وحشٍ ضارٍ إذا ملك القوة؛ لذا جعل القرآن تزكية النفوس في المقام الأول قبل العلم، قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ))[الجمعة: 2] .
قال البقاعي: (والحكمة التي هي العلم بما لأجله وجب الحُكم من مَشروطِهِ التعليم بالتزكية… فما يعلِّمهم الحكمة إلا بعد التزكية، فمن تزكّى فهو من أهلها ومن لم يتزكَّ فليس من أهلها) [نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: (19/481)].
لأنّ المجتمعات إذا تحلّت بالأخلاق والتزكية وسخاوة النفس، وسُخِّر لها الكون، فستبذله في نفع البشرية وإسعادها، أما إذا كانت ثقافتها مبنيّةً على أسس (البراغماتية) والمنفعة الشخصية والنَّهم والأنانية والجشع فلا بدّ أن ينشأ من ذلك سباق بين الحضارات؛ فيسعى كلُّ فريقٍ إلى الاستبداد بها، ثم يتحوّل هذا السباق إلى صراعٍ، ثمَّ إلى حروب، وحينئذٍ يُستَخدم العلم والقوة في صناعة الأسلحة الفتَّاكة وتدمير البشرية، والمبيدات الإنسانية بدلاً من تسخير الكون لسعادة الإنسان، فتتحوّل المعارف والعلوم إلى داءٍ ووباءٍ، ويصبح مَن يمسك بزمام العلم والتكنولوجيا وحشاً ضارياً، وتتحوّل البشرية إلى أهدافٍ للفتك والقتل، وهذا ما نشهده اليوم من دعاة الحضارة والتقدّم.
قال الأستاذ مروان عادل في جريدة (المصريون): (في نظري أنّ الحضارة الغربية هي حضارة النفاق، ولو كنت مختاراً لها اسما لما وجدت خيراً من (حضارة النفاق), هل سمعت في التاريخ عن دولةٍ تقصف قرى دولةٍ صغيرةٍ مثل فيتنام، وتحرق أطفالها، وتلقي لهم بالقنابل في ألعاب الأطفال تحت شعار “تحرير فيتنام”؟ هل سمعت في التاريخ عن حضارةٍ تغزو الدول الأخرى تحت عنوان: (حرية الإنسان) (وتعتبر موت أطفال العراق وفلسطين “مخاضاً من أجل ولادة شرق أوسط جديد”؟) [جريدة المصريون الضوئية، مقال تحت عنوان (هذه حضارتهم) بتاريخ 26/ 9 /2011]
لقد وصل العالم اليوم إلى الانحطاط والحضيض، وإنّ تلك العلوم والتقنية التي امتلكتها لا تسمّى حضارة بل مدنيّة، ولا قيمة لهذه المدنيّة التي فتكت بالبشرية وصنعت الحروب والفتن بين الشعوب، فشرط الحضارة الأساسي إسعاد البشرية لا تدميرها وتبديدها.
وإذا نظرنا في الحضارة الإسلامية وجدنا العلماء المسلمين قدّموا النفع للبشريّة في علومهم، مع تحلِّيهم بالإنسانيّة والأخلاق، ولم يخطر ببالهم أن يستخدموا علومهم في التدمير والقتل والوحشية التي نجدها اليوم عند الغرب.
هذه هي تعاليم القرآن الكريم التي أنشأت أمّةً متوازنةً تجمع بين العلم والأخلاق.
وأمّا الذين ينتقدون القرآن الكريم فيريدون أن يكون القرآن تبعاً لنظرتهم الضيّقة القاصرة، المبنيّة على الانبهار والخلابة، والتبعيّة العمياء للغرب.
والقرآن أعظم وأجلّ من ذلك الانحطاط الذي ينبهرون به، فالقرآن منهجٌ كاملٌ وهو الذي اهتمّ بالإنسانيّة، وبفضله نشأت المنهجيّة العلميّة والفضيلة والأخلاق، أمّا الغرب فقد قابلوا فضل العلوم الإسلامية التي أخرجتهم من جهالتهم بالتنكّر لها والكيد ضدَّها، واستخدموا العلوم والتقنيات في الدمار والقتل والحروب والإضرار بالبشرية، فأيّ المنهجين لا يواكب التطور الفكري؟
No comment yet, add your voice below!