يقول بعض المنبهرين ببهرج الغرب ومدنيّتهم وتقنيّاتهم: إنّ القرآن معطِّلٌ للعقل ولا يواكب التطوُّر الفكريّ؛ لأنَّه يتحدّث عن الغيبيّات والموت، ويأمر بالزهد ويقلِّل من شأن الدنيا، ولا يشتمل على العلوم التي تصنع الحضارات, وهذا كلّه تعطيلٌ للعقول, وتخلّفٌ في التفكير.
والجواب على ذلك:
إنّ القرآن الكريم دستورٌ لإصلاح الدِّينِ والدُّنيا، ويعالج أحوال الإنسان منذ نشأته إلى خلوده في الآخرة، ويبيّن مناهج الحياة للمجتمعات والأمم ليرتقي بها في جميع المجالات، وهو أوسع وأعظم وأجلُّ من أن ينحصر في مجالٍ ضيّقٍ من مجالات الحياة, فلا يتجاوز ملاحظة الموجودات وصناعة الأجهزة الميتة، ويترك الإنسان تائهاً متخبِّطاً لا يدري
من خلق الكون، ولا يعلم وظيفته في هذه الدنيا وأين مصيره، ويهمل تزكيته وسلوكه.
إنّ القرآن كتاب هدايةٍ، يصنع الإنسان، ويعطي كلَّ حاجةٍ حقَّها، فاهتمّ بالرُّوح والعقل والقلب، وربط المخلوق بخالقه، وأمر بالعلم والتفكّر والتدبّر، وسعى إلى تزكية النفوس ونشر الفضائل.
أمّا قولهم: القرآن لا يشتمل على العلوم التي تصنع الحضارات: فلا يمكن لخالق السموات والأرض أن يُنزل كتاباً محصوراً في مجالٍ ضيِّقٍ ونظرةٍ جزئيّة، فالقرآن ليس كتاب فيزياء أو كيمياء وليس كتاب رياضيات ولا بيولوجيا، ولا نحوها من العلوم التجريدية والتجريبيّة، ومن يظنّ أنَّ صناعة التطور والحضارة محصورةٌ بهذه العلوم فإنّ نظره قاصرٌ محدود.
يهتمُّ الغرب بالعلوم التي تبني المدنيّة، ويتعاملون مع الجمادات من أجهزةٍ وأبنية، ويهملون النفس والروح والإيمان، ممَّا جعل مجتمعاتهم تتخبَّط في أوحال الفساد الخلقيِّ والانحلال دون رادع، بل شرّعوا الرذائل والشذوذ، وجعلوا مدنيّتهم وثقافتهم تحوم حول المتعة العاجلة والمظاهر الدنيوية، فتحوّلوا بتلك التقنيات والصناعات إلى وحوش، وصنعوا أسلحة الدَّمار التي تفتك بالإنسان، واستعبدوا الشعوب، وصنعوا الحروب لأجل مصالحهم وثرواتهم، وكلّ ذلك بسبب غياب الروح والقلب وابتعادهم عن تزكية النفوس.
أمّا القرآن الكريم فيصنع الإنسان الكامل، ويبيّن له المنهج ويزوّده بالفكر والعلم والمعرفة والتزكية، ليشيد الحضارات الحقيقية التي تسعد الإنسان، فاهتمّ بتزكية النفوس وتطهيرها بالتقوى ومكارم الأخلاق، وسجّل المسلمون الأمثلة العليا في سلوكهم وأخلاقهم وإنسانيّتهم، ورحمتهم بالبشريّة.
كما نالت دعوة القرآن إلى العلم النصيب الأوفر من خطابه وتوجيهاته، فأخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلوم، ليجعل شخصيَّة المسلم متوازنةً من حيث: التقوى, والسُّلوك, والعلوم، قال تعالى:
((كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 151], لذا كان استهلال خطاب الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم بكلمة (اقرأ) والنبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمّيّ غير قارئ، وإذا نظرنا في مراعاة الكلام لحال المخاطب لا نجد توافقاً في الظاهر، فكيف يأمر الوحي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالقراءة وهو أمّيّ، وماذا يقرأ؟
لكنّ أبعاد هذا الخطاب أكبر بكثيرٍ من تلك الحال التي كان فيها.
نّ كلمة (اقرأ) تعمّ الكون بأسره؛ فهي توافق حال الأمّة، بأن يكون الوحي السماوي لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بدايةً لصنع حضارةٍ عظيمةٍ، تبدأ من كلمة اقرأ لتحثّ على العلم وبناء الحضارة وتقدّم الخير والنفع للإنسانيّة، فنجد كلمة (اقرأ) قد تكرّرت، وذُكِرَت أداة العلم وهي القلم.
وكما أمر القرآن بالعلم، فقد نهى عن اتّباع الجهل فقال تعالى:((وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) [الإسراء: 36] وقد جاء في الخطاب القرآني مئات الآيات في الحضّ على العلم والتعقّل والتفكّر والتدبّر.
والفرق بَين التفكّر والتدبّر: أَن التفكُّر هو النّظرِ فِي الأدلّة، والتدبُّر هو النظر في المآلات والعواقب، أي ما ينتج عن الأمر الذي نبحث فيه. [انظر: الفروق اللغوية للعسكري (ص: 75)]
إنّ هذه المعاني التي جاء بها القرآن لا يعرفها العرب، ولم تكن ذات بال لديهم، ولم تأخذ شيئاً من اهتمامهم، فأراد القرآن أن يرتقي بهم ويفتح آفاق النظر والتفكير والتدبّر، فأوضح لهم المنهج العلميَّ الراسخ، وأرسى أصول الفكر والعلوم بكلِّ معانيها، ومن ثَمّ تكوّنت لدى المسلمين عقليّةٌ ذات منهجيّةٍ علميّةٍ راسخةٍ، استمدّوها من الخطاب القرآني ومقاصده وتوجيهاته، فأبدعوا في شتّى العلوم, وسبقوا العالم في الابتكار والاكتشافات، وكان هذا العلم والبحث العلميُّ والمعرفيُّ عبادةً وقرباً إلى الله تعالى، قال ابن الهيثم العالم المحقِّق ومؤسِّس علم البصريَّات: (سعيت دوماً نحو المعرفة الحقيقية، وآمنت بأنَّ أفضل ما أتقرَّب به إلى الله أن أبحث عن المعرفة والحقيقة) [مجلة رواد الأعمال الرقمية].
وإليك ثلاثة نماذج من مئات آلاف العلماء المسلمين المبدعين والمبتكرين:
منهم: جابر بن حيّان: إنّ جابر بن حيّان أوّل من أسَّس للمنهج التجريبيِّ في العلوم، وكان يقول لطلابه: (من لم يعمل ولم يجرّب لم يظفر بشيء أبداً) وحوّل علم الكيمياء من نظرياتٍ وخرافاتٍ إلى علمٍ تجريبيٍّ حقيقيٍّ، وكان له الفضل على العالم بأسره في هذا العلم، قال ماكس مايرهوف: (يمكن إرجاع تطوُّر الكيمياء في أوربّا إلى جابر بن حيّان بصورةٍ مباشرةٍ، وأكبر دليلٍ على ذلك أنّ كثيراً من المصطلحات التي ابتكرها ما زالت مستعملةً في مختلف اللغات الأوربّيّة)، وقد ترجمت كتبه, وبقيت المرجع الأول على مدى ألف عام، وكانت مؤلّفاته موضع اهتمام ودراسة مشاهير علماء الغرب، مثل كوب هولميارد، سارتون وغيرهم. [انظر: موسوعة المعرفة على الشبكة الإلكترونيّة، صحيفة الخليج 28ديسمبر 2012هـ]
ومنهم الكرخي: فقد قدّم للرياضيّات أهمّ وأكمل نظريةٍ في الجبر، وبقيت نظريّاته تُدَرَّس حتّى القرن التاسع عشر الميلادي، قال أ. هور إيفز في كتابه (تاريخ الرياضيات): (إنّ الكرخيَّ يعدّ من بين العلماء الرياضيين المبتكرين لنظرياتٍ جبريّةٍ جديدةٍ تدلّ على عمقٍ وأصالةٍ في التفكير) [العلوم البحتة في الحضارة الإسلامية، د. علي عبد الله الدفّاع (210)]
وكذلك الخوارزمي: فقد أبدع في الرياضيّات، لا سيّما علم الجبر، وابتكر الخوارزميّات التي قامت على أساسها اليوم التكنولوجية الرقميّة، قال الأستاذ جورج سارتون: (وإذا أخذنا جميع المجالات بعين الاعتبار، فإنّ الخوارزمي أحد أعظم الرياضيّين في كلّ العصور) [العلوم البحتة: (149)]
فهذه النماذج غيضٌ من فيضٍ، بل قطرةٌ من بحر العلماء الذين صنعوا النهضة العلميّة الإسلاميّة، وقدّموا العلوم النافعة للبشريّة، بفضل القرآن الكريم الذي أنشأ حضارةً عظيمةً بدءاً من نقطة الصفر وذلك باهتمامه بالإنسان وتزويده بالمنهج والفكر.
وما وصلت أوروبا وأمريكا اليوم إلى ما وصلت إليه إلّا بفضل القرآن الكريم الذي أسَّس للمناهج العلميّة، وصنع العلماء والعباقرة المسلمين، وانتقلت علومهم وإبداعهم وابتكاراتهم إلى أوروبا، فبنى الغرب عليها علومه وتقنياته وإنتاجه المعرفيَّ.
وقد نشل المسلمون أوروبا من ظلمات الجهل والتخلُّف والخرافات التي كانت عليها في القرون الوسطى.
وقد شهد عدد ٌكبيرٌ من منصفي الغرب بفضل الإسلام على الحضارة الأوربية، منهم:
توماس أرنولد فقد قال: (كانت العلوم الإسلامية وهي في أوج عظمتها تضيء كما يضيء القمر فتُبدِّد غياهب الظلام الذي كان يلفُّ أوروبا في القرون الوسطى) [مجلة إشراقات، مقال بعنوان: شهادات استشراقية أنصفت الحضارة الإسلامية، د. عماد عجوة الاثنين 31 أكتوبر 2011م، كتاب التطرف محمد أحمد السيد: (161)]
وقال هينولد: (إنَّ ما قام على التجربة والترصّد هو أرفع درجةً في العلوم، وإنّ المسلمين ارتقوا في علومهم إلى هذه الدرجة التي كان يجهلها القدماء… وكانوا أوَّل من أدرك أهمّية المنهاج في العالم، وظلُّوا عاملين به وحدهم زمناً طويلاً) [الحضارة الإسلامية ثقافة وفن وعمران، عبد السلام كمال: (61)]
وقال مسيو ليبري: (لو لم يظهر المسلمون على مسرح التاريخ لتأخّرت نهضة أوروبا الحديثة عدَّة قرونٍ) [الحضارة الإسلامية، عبد السلام كمال: (62)]
فهل عطّل القرآن العقول، أم أنَّه أسَّس للمنهج العلميِّ, وفتح آفاق الفكر والإبداع وصنع الحضارات؟
أمّا قولهم: إنّ القرآن يتحدّث عن الغيبيّات والموت، ويأمر بالزهد ويقلِّل من شأن الدنيا، وهذا يعطّل العقول ولا يواكب التطوُّر الفكري!
فتتابعونه في المقال القادم إن شاء الله.
No comment yet, add your voice below!