يقول مونتسيكيو (وهو قاضٍ وأديبٌ وفيلسوفٌ سياسيٌّ فرنسيّ): (في العقل ثقبٌ لا يملؤه إلا الله).
[مقال بعنوان: في الفلسفة والدين، جريدة الأنباء].
ربَّما تفسِّر لنا هذه العبارة سرَّ انشغال البشر بالأسئلة الوجوديَّة الكبرى، كالغاية من الوجود والمصير، حتَّى إنَّ الملحدين انشغلوا بقضيّة وجود الإله، ولو كانت الحياة عدميَّةً لا معنى لها كما يعتقدون فلماذا يناقش كثيرٌ منهم المؤمنين محاولين صدَّهم عن إيمانهم؟ مبتعدين عن الحياة المادية بأسئلةٍ فلسفيَّةٍ وجوديَّة؟
كتب الأديب الإنكليزي ولسون: (في الساعة الثالثة فجراً أنهيت كتابة مقالةٍ أنكرتُ فيها وجود الله، وحين ذهبت لأنام، لم أستطع أن أطفئ النور خوفاً ممَّا سيفعله الله بي). [مقال بعنوان: في الفلسفة والدين، جريدة الأنباء].
وهذا ما يصيب كلَّ البشر في حالات الضعف وعند مواجهة الموت، فكبير الملحدين مثلاً وهو: الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر حين حضره الموت طلب القسِّيس, وراح يبكي بين يديه. [إنك على الحق المبين، محسن العواجي، ص64 – 65].
والأمثلة على ذلك عديدةٌ، فالإنسان يلجأ إلى الله بفطرته، وقد تتشوَّه هذه الفطرة أحياناً، فيصحِّحها الدَّليل العقليُّ الذي يثبّت فيها وجود الله. والأدلَّة العقليَّة على وجود الله كثيرةٌ نذكر منها دليل الخلق.
دليل الخلق:
وخلاصته: أنَّ هذا الخلق بكلِّ ما فيه شاهدٌ على وجود خالقه العليِّ القدير، فإنَّ وجودنا حقيقةٌ لا ننكرها، وكذلك وجود السَّموات والأرض، وقد تقرَّر في العقول بداهةً أنَّ الحادث لا بدَّ من سببٍ لوجوده، وهذا يدركه راعي إبلٍ، فيقول: البعرة تدلُّ على البعير، والأثر يدلُّ على المسير، فسماءٌ ذات أبراجٍ، وأرضٌ ذات فجاجٍ، أفلا يدلُّ ذلك على العليم الخبير!
وهذا ما يدركه أيُّ عالمٍ من العلماء التجريبيّين عند رصده لأيِّ أثرٍ في مختبره العلميِّ، فيبحث جاهداً عن السَّبب المؤدِّي إلى هذا الحادث!
لذلك لا عجب أن يدرك هذه الحقيقة كبار العلماء الباحثين في الحياة والأحياء،
يقول لينيه (عالم فيزيولوجي فرنسي) كما نقل عنه كاميل فلامريون الفرنسي في كتابه المسمَّى [الله والطبيعة]:
إنَّ الله الأزليَّ الأبديَّ العالم بكلِّ شيءٍ، والمقتدر على كلِّ شيءٍ قد تجلَّى لي ببدائع صنعه، حتَّى صرت مندهشاً مبهوتاً، فأيُّ قدرةٍ وأيُّ حكمةٍ، وأيُّ إبداعٍ أبدعه في مصنوعاته؟ سواءً في ذلك أصغر الأشياء وأكبرها! إنَّ المنافع التي نستمدُّها من هذه الكائنات، تشهد بعظمة رحمة الله الذي سخَّرها لنا، كما أنَّ كمالها وتناسقها ينبئ بواسع حكمته، وكذلك حفظها من التلاشي وتجدُّدها، يقرُّ بجلالته وعظمته.
كما يقول إسحاق نيوتن العالم الإنكليزي الشهير, ومكتشف قانون الجاذبية: لا تشكُّوا في الخالق، فإنَّ مما لا يعقل أن تكون المصادفات وحدها هي قائدة هذا الوجود. [العقائد، الشيخ أحمد أبو العز البيانوني، ص35]
وقد تعرَّض بعض الزَّنادقة المنكرين للخالق للإمام أبي حنيفة، فقال لهم:
ما تقولون في رجلٍ يقولُ لكم: رأيتُ سفينةً مشحونةً بالأحمالِ، مملوءةً من الأنفال، قد احتوشتها في لُجَّةِ البحرِ أمواجٌ متلاطمة، ورياحٌ مختلفة، وهي مِنْ بينها تجري مستويةً، ليس لها ملَّاحٌ يُجريها، ولا متعهِّدٌ يدفعُها، هل يجوزُ ذلك في العقل؟ قالوا: هـذا شيءٌ لا يقبلُه العقلُ, فقال أبو حنيفة: يا سبحان الله ! إذا لم يجزْ في العقلِ سفينةٌ تجري في البحرِ مستوية من غيرِ متعهِّدٍ ولا مُجْرٍ، فكيف يجوزُ قيامُ هـذه الدنيا على اختلافِ أحوالها، وتغيُّرِ أعمالها، وسَعَةِ أطرافها، وتباين أكنافها، من غير صانعٍ ولا حافظٍ! فقالوا: صدقتَ وتابوا. [مع الله، حسن أيوب، ص68].
هذا القانون الذي سلّمت به العقول، وانقادت له، هو الذي تشير إليه الآية الكريمة: ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ)) [الطور:35]. وأهاب القرآن الكريم بالعقل أن يستيقظ من سباته، ليتفكَّر في ملكوت السموات والأرض، وما أودع فيها من الآيات، ليرى هذا الإنسان ويسمع في آفاق الكون ما يقوده إلى الإيمان بخالقه سبحانه وتعالى، ويعلم أنَّ هذا الكون من صنع الله الخالق المدبِّر.
هذا ولوجود الله سبحانه أدلَّةٌ عقليَّةٌ أخرى غير دليل الخلق، كدليل الإتقان والنَّظم، ودليل العناية، ودليل التوافقيَّة (بين المخلوقات)، وغيرها من أدلَّة نرجئ شرحها إلى مقالٍ آخر بإذن الله تعالى.
No comment yet, add your voice below!