كيف يمكن لنبيٍّ أُمّيٍّ أن يكون معلّماً للبشريّة؟!
مثلُ هذا الإشكال يطرحه من لديه فهمٌ مغلوطٌ، فلا يفرّق بين الأمي والجاهل، ولا بين النبي وسائر الناس، ولا بدّ من بيان هذه الفروق لنتفق معاً على المقدّمات:
أولاً- ليس كلّ أمّيّ جاهلاً، فالأمّيّ هو من لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعني ذلك بالضرورة أنَّه جاهل، فكم من عبقريٍّ لا يحسن القراءة والكتابة، وهناك عباقرةٌ لم يدرسوا أبداً، منهم: (مايكل فاراداي) الذي لم يتلقّ أي نوعٍ من التعليم الرسمي، غير أنَّه يعدّ من أكثر العلماء تأثيراً على مرِّ التاريخ في مجال المغنطة والكهرباء المغناطيسيّة.
[انظر مقال: تَعرَّف على عباقرة لم يدرسوا أبداً، صحيفة البورصة المصرية، الثلاثاء/ 7 أكتوبر/ 2014م].
كما أنَّ كفّ البصر منذ الولادة من ضرورات الأمية؛ لأنّ البصر من شروط التمكّن من القراءة والكتابة، وكم في التاريخ من عبقريّ ٍكفيف، نذكر منهم: (أبا العلاء المعرّي): فقد كان وافر الأدب، عالماً باللغة، حسن الشعر، جزل الكلام، رغم أنّه كان ضريراً أعمى، وصنّف تصانيف كثيرةً، وأشعاراً جمَّةً؛ (كسقط الزند)، و(لزوم ما لا يلزم)، كان موسوعيّاً وفاق أقرانه من أهل زمانه وغيرهم. [انظر: نزهة الألباء في طبقات الأدباء (ص: 258) يتيمة الدهر (5/ 16)].
ومنهم أيضاً: الإنكليزية (هيلين كيلر) التي لم تكن كفيفةً فحسب، بل ولدت صمّاء كذلك، أي لا ترى ولا تسمع، وكانت من عباقرة التاريخ، وإحدى الرموز المهمَّة للإرادة الإنسانية، حصلت على الدكتوراه في العلوم والدكتوراه في الفلسفة، ومن مؤلفاتها كتاب: (أضواء من ظلامي)، [انظر: ملاحق صحيفة الخليج، تحت عنوان: مكفوفون لكنّهم عباقرة، 17 أغسطس، 2011م] وغيرهما كثير.
وهؤلاء عندما يؤلفون لا يكتبون بأيديهم، وإنّما يملون الكلام ويوكلون من يكتب عنهم.
فهذه ثلاثة نماذج من مئات العباقرة الذين لم يقرؤوا كلمةً واحدة ومع ذلك أصبحوا مبدعين، وخلّد التاريخ أسماءهم، وهم أناسٌ عاديّون وليسوا بأنبياء.
ثانياً- الأنبياء يفوقون البشر بما خصّتهم العناية الإلهيّة من الكمال؛ لأنّهم قدوة البشريّة،
فإذا استطاع بعض الأمّيين والكفيفين أن يتعلّموا بموهبةٍ من الله في الفهم والإدراك، وينالوا أعلى درجات الاختصاص، فكيف بالأنبياء الذين تولّاهم الله تعالى بعنايته، وخصّهم بالعلوم، وكمّلهم على سائر البشرية، وإنّ ما يعلمه عباقرة البشر لا يشكّل قطرةً من بحار علوم الأنبياء.
وقد خصَّ الله محمّداً صلى الله عليه وسلم بمزيدٍ من العلوم التي لم تُعطَ لغيره من الأنبياء، وكانت عناية الله تعالى بتعليمه أبلغ من غيره؛ لأنّه خاتم الأنبياء، ورسالته خالدةٌ، فلم يجعل معجزته الأصليّة مادّيّة -مع أنّه قد ثبتت له عشرات المعجزات المادّيّة- وإنّما جعل معجزته الخالدة هي القرآن الكريم، والقرآن كتاب علمٍ، وقوانين، وتوجيهٍ، بدأ بكلمة (اقرأ) للدلالة على أنّ العلم بشتّى معانيه ينبثق من أميّة النبي صلى الله عليه وسلم، إضافةً إلى تعاليمه وهديه في السُّنَّة النبويّة.
وقد تولى الله تعليم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تعليماً مباشراً دون قراءة أو كتابة، وخاطبه مبيّناً فضلَه عليه بهذا العلم فقال له: ((وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)) [النساء: 113].
– وقال صلى الله عليه وسلم فيما أوحى إليه ربّه: «..يا محمد، قلت: لبيك ربي وسعديك، قال: فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: ربّ لا أدري، فوضع يده بين كتفيّ فوجدت بردها بين ثديي، فعَلِمتُ ما بين المشرق والمغرب»، وفي رواية أخرى: «فعلمت ما في السماوات والأرض». [ مسند أحمد: (3484) الترمذي: (3234)]، أي علّمه الله علوماً من لدنه لم يطّلع عليها أحد فعلم كلّ شيء.
وقد شهد بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم وكماله ونجاحه وتفوّقه كبار العلماء في كل المجالات، والمفكّرون، والسياسيّون، ومنهم:
د. مايكل هارت الذين صنّف كتاب المئة الأوائل، فجعل محمداً صلى الله عليه وسلم الرجلَ الأول في التاريخ، وقال عنه: (إنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي) [المئة الأوائل: ص: 21].
واعترفت الكاتبة البريطانية الدكتورة كارين آرمسترونغ بفضل النبي صلى الله عليه وسلم على الغرب وليس على المسلمين فحسب، فقالت: (لقد قدَّم مُحمدٌ صلى الله عليه وسلم كونه شخصيةً نموذجية، قدَّم دُروسًا مُهمَّةً للبشرية، ليس للمسلمين فحسْب، بل ولأهل الغرب أيضًا) [في مقدمة كتابها “محمد، نبيٌّ لهذا الزمان” طبعة دار Harper Collins عام: 2006م].
كما أنّ هناك مئات الآلاف من العلماء والمفكّرين دخلوا الإسلام بناءً على ما رأوا من حقائق علمية معاصرة تتفق مع ما جاء في القرآن الكريم، أو ما وجدوه في الشريعة الإسلامية من تفوّق وتفرّد وإحكام لا يوجد في غيرها من دساتير وقوانين العالم، ومن أشهر المعاصرين الذين أسلموا:
العالم والطبيب الفرنسي: موريس بوكاي، والمفكر العالمي: روجيه غارودي، وعالم الرياضيات الأمريكي: جيفري لانغ، والدبلوماسي الكاتب الألماني: مراد هوفمان، والسياسي الفرنسي: ماكسنس بوتي، والبروفيسور الياباني: يوشيدي كوزاي، والبروفيسور الأمريكي: بالمر، والعالم التايلاندي: تاجاس، والعالم الألماني: فيلي بوتولو، وعالم البحار: جاك كوستو … وغيرهم مئات الآلاف، وإسلام هؤلاء الأساطين وغيرهم شهادةٌ صريحةٌ منهم بكمال علم النبي صلى الله عليه وسلم وتفوّقه على البشريّة.
فإن قال قائل: فلماذا جعل الله الرسولَ محمداً أمّيّاً، ولم يرسل نبيّاً قارئاً؟
فالجواب: إنّ إثبات حقيقة النبوّة تكمن في أمّيته صلى الله عليه وسلم، ولا يصحّ أن يكون قارئاً؛ لأنّ القراءة تفتح باباً إلى إنكار نبوَّته؛ ويحتجّ المنكرون بأنّه اطّلع على علوم الحضارات السابقة، وألّف هذا القرآن وادّعى النبوّة، فكان لا بدّ أن يكون أمّيّاً للدلالة على أنّ هذا العلم الذي جاء به من عند الله تعالى وليس من قراءته واطّلاعه؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم تحدّى العرب بمعجزة القرآن المليء بالعلوم التي لا تنتهي إلى يوم القيامة، وجاء بشريعةٍ محكمةٍ عظيمة مما أذهل كثيراً من العلماء والمفكرين، فقد وجدوا الإسلام مطابقاً للحقائق، وشهد جميعهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالعلم والحكمة وسبقه بالعلوم والمعارف التي لم يتوقّعوا أن تصدر من غيرهم، بل يستحيل أن يعلمها رجلٌ أمّيٌّ في القرن السابع الميلادي، فلا بد أن يكون هذا الكتاب وهذا الدين وحياً من خالق السموات والأرض.
لذا عندما رأى بعض المتربّصين بالإسلام هذه الحقائق الدامغة، وشهادة العباقرة والمفكّرين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالعلم والتفوّق أخذوا منحىً آخر في النيل منه، وهو إنكارهم لأُمّيّته، فقالوا: إنَّه كان قارئاً مفكراً، ووصفوه بالعبقرية، فظنّ بعض الناس أنّ نفي الأمّية عنه صلى الله عليه وسلم وإعطاءه صفةَ العبقرية والعلم هي من صفات الكمال التي يضفونها للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يدروا أنّ غايتها الكيد ومحاولة للانتقاص من علوِّ مقامه وقدره، ومقدّمة لإنكار نبوّته، وليصنّفوه مع الرجال العظماء في التاريخ فيسلبوا بذلك عنه صفة النبوّة، ويقطعوا الصلة بينه وبين الله تعالى، وأنّ الرجل مهما بلغ في مراتب العلوم والعبقرية فلن يصل إلى مرتبة النبوة.
إنَّ أمّيّة النبي صلى الله عليه وسلم صفة كمالٍ، وإنَّ علمه قد فاق الأولين والآخرين؛ لأنّ العلوم التي يمنحها الله لأنبيائه أعظم من علم القراءة والكتابة الذي يكون محدوداً بقدرات الشخص واجتهاده، وعلم الله لا حدود له، لذلك أذهل النبي صلى الله عليه وسلم كبار علماء العالم ومفكريه، الذين شهدوا له بالسّبق والتفوّق.
No comment yet, add your voice below!