الفكر الحداثي ونصوص الوحي

القراءة الحداثية ومناهجها في التعامل مع نصوص الوحي

القراءة الحداثية ومناهجها في التعامل مع نصوص الوحي

انتشرت على الساحة الفكرية في العقود الأخيرة دعوى القراءة المعاصرة لنصوص الوحي (القرآن الكريم والسنة النبوية)، وهذه الدعوى في حقيقتها تشكِّل تجلّياً من تجلّيات الحداثة في الغرب، حيث استمدَّت مناهجها وجلَّ أفكارها من مفكِّري الغرب من فلاسفةٍ ومستشرقين، فكثيرٌ ممَّا يدور اليوم في الساحة الفكرية من قضايا سبق وأن طرحته القراءة الغربية لنصوص الوحي، وإنَّ المتتبِّع للدراسات الاستشراقية يدرك هذه الحقيقة.

تحاول هذه القراءة تأسيس فهمٍ جديدٍ للقرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، وذلك بإحداث قطيعةٍ معرفيةٍ ومنهجيةٍ مع أصول التفسير وطرقه وقواعده، ومع علوم القرآن ومصطلح الحديث وقواعده، محاولةً إخضاع كلِّ ذلك لمناهج مستجدَّةٍ بعيدةٍ كلَّ البعد عن الثوابت، ومنها الآتي:

أولاً: التاريخية:

وهي طريقةٌ في التفكير تضفي النسبية الزمنية على الحقيقة، وتربطها بتاريخها وزمنها، رافضةً أن تكون للحقائق أيَّةُ عمومية أو ديمومة أو إطلاق، معمِّمةً هذا الحكم على كلِّ ألوان الحقائق بما فيها الدينية، فالتاريخ هو من يحدِّد الحقيقة، والمعرفة الحقيقية هي التي تخضع للظروف التاريخية.

وهذا بالضرورة يعني القول بتاريخية النص القرآني، وأنَّه خاصٌّ بحقبةٍ زمنيةٍ معيَّنةٍ وبيئةٍ اجتماعيةٍ خاصَّةٍ، فهو خطابٌ متعلِّقٌ بتلك المرحلة وغير ملزم لما بعدها؛ لأنَّ مفاهيم الألفاظ تتغيَّر بتغيُّر الظروف، وبالتالي لابدَّ من إخضاعها لهذا الواقع المتغيِّر حتَّى تتناسب مع متطلَّباته، وهذا التصوُّر نتج عنه اعتبار القرآن الكريم منتجاً ثقافياً إنسانياً يعبِّر عن لغة الإنسان وثقافته، لأنَّ الواقع والثقافة واللغة هي التي أنتجته، أي أنَّ النصَّ تابعٌ للواقع ومنبثقٌ عنه، وبالتالي فهو نصٌّ تاريخيٌّ كسائر النصوص البشرية التي تخضع في شكلها للواقع وتتغيَّر بتغيُّره.

ثانياً: التأويل أو الهيرمينوطيقا:

ويراد به في هذا المقام التأويل الذاتي غير الخاضع لأيِّ ضوابط أو قواعد، ولقد قامت هذه النظرة التأويلية على عدَّة أسس وُظِّفت لقراءة النصوص الدينية والأدبية، ومن أهمِّها:

  • تعدد القراءات المحتملة للنص، فلا وجود لقراءةٍ صحيحة للنصّ؛ لأنَّها قراءة قائمة على الشك من أجل الوصول إلى الحقيقة.
  • القول بموت المؤلف بحيث ينقضي دوره بكتابة النصّ، وتأتي مهمَّة القارئ في استنباط المعاني دون حاجةٍ للرجوع إلى المؤلف ومراده من وراء نصِّه.
  • إلغاء مقصدية النص، وهي نتيجةٌ حتميَّةٌ لموت المؤلِّف فوجوده يعني وجود المقصد، وموته هو إلغاء لهذا المقصد، وهذا سيفضي بالضرورة إلى انفتاح النصِّ أمام لا نهائية الدلالة.
  • التناص: يتألَّف النصُّ من مجموعة كتاباتٍ متعدِّدة الثقافات، فهو شبكةٌ من النصوص المتداخلة، فالمؤلِّف يتأثَّر في كتابته لنصه بنصوصٍ أخرى نشأت في بيئته، وحين يقرأ القارئ يستحضر نصوصاً أخرى تختلف عن بيئة المؤلف.

الفراغ: والمقصود به الكشف عن المعنى الذي لا تبوح به السطور، فهو ليس معنىً ظاهراً للنص؛ بل يستنبطه القارئ. 

وبناءً عليه فإنَّ التأويل الحداثي ينبني على التعدُّد، ويفترض الاتساع في اللفظ، وعلى فيض المعنى، لذلك من غير الممكن أن يكون التأويل نهائياً، فالنص لا يتوقَّف من كونه محلاً لتوليد المعاني واستنباط الدلالات، ولا يمكن لأحدٍ أن يقف على حقيقته، وبالتالي لا يمكن معرفة مراد النص ودلالته؛ لأنَّ المقصد هو ما يريده القارئ لا النصّ، فيصبح بذلك نصَّاً مفتوحاً لا يمكن الإلمام بحقيقته، لتعدُّد تفسيراته، ولا نهائية معانيه.

ثالثاً: الأنسنة:

تقوم الأنسنة على مبدأ الذاتية أو المركزية، أي أنَّ الإنسان هو مركز الأشياء ومحورها، وقد أخذت دوراً أساسياً في القراءة الحداثية للقرآن الكريم، وذلك بإخضاع النصّ لذاتية القارئ، فالحقيقة هي ما يريده القارئ لا النص، إذ لا وجود لمعرفةٍ مطلقةٍ أو متعالية، وبالتالي تقوم الأنسنة على تبرؤ الإنسان من أيِّ مرجعيةٍ مقدَّسة، فتجعل من الإنسان المرجع والمنتج للحقيقة.

 وهذا الموقف في حقيقته يقوم على الانتقال في الخطاب من المراد الإلهي من النص إلى المرادات الإنسانية.

لقد وقع رواد الفكر الحداثي في خللٍ منهجي بخروجهم عن الموضوعية عندما قاموا بمساواة الوحي الإلهي -النصوص القرآنية والحديثية- بالنصوص الأدبية ذلك لأنَّ هذه النصوص لها مناهجها في التفسير والتأويل، فهناك من النصوص ظاهرٌ لا يحتاج إلى تأويل، وهناك نصوص تحتمل عدَّة أوجهٍ من التأويل، وهي موضع اجتهاد في فهم النص وبيانه؛ وذلك يتأتَّى من خلال الأدلَّة التي تترجَّح عند المفسر وفق قواعد وضوابط لا لهوىً متَّبع.

ولعلَّ من أهمِّ التناقضات التي وقع فيها الفكر الحداثيُّ أنَّه بنى مشروعه في قراءته على استحالة استحضار الماضي بقوانينه المعرفية وقواعده المنهجية لقراءة الحاضر بحسب منطق التاريخية، ثمَّ يعود ليقرأ هو الماضي بقوانين وأدوات الحاضر المعرفية، وبناءً على هذه القاعدة لا يمكننا أن نُخضع النصَّ إلى مناهج معاصرة ما دمنا نرفض فهمه وتفسيره وفق القواعد المقررة. [آليات القراءة الحداثية، سجعي مريم].

يتَّضح من خلال ما سبق أنَّ القراءة الحداثية لنصوص القرآن الكريم والسنة جعلت التأويل هو الأصل وعمَّمته على جميع النصوص قطعيَّة الدلالة، وظنيَّة الدلالة، مع العلم أنَّ الأصل هو الأخذ بظواهر النصوص، بحيث لا يُلجأ إلى التأويل إلَّا عند الاستشكال. 

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *