القراءات العشر تؤدي إلى اختلافات ألفاظ ومعاني القرآن الكريم

القراءاتُ العشرُ تؤدّي إلى اختلافِ ألفاظِ القرآنِ ومعانيه!

Loading

هل الدين أفيون

يطرح بعضهم إشكالاً ويقول: القرآن الكريم كلام الله وهو كتابٌ واحد، وقد تكفّل الله بحفظه من أيِّ تغيير، ولكن في الحقيقة نرى غير هذا، فهناك قراءاتٌ مختلفة، تؤدّي إلى اختلاف ألفاظ القرآن والحركات الإعرابيّة، مما يؤدّي إلى تغيير المعاني لا محالة.

فالجواب: نعم إنّ القرآن الكريم كلام الله، وهكذا أُنزِل، وقد حفظه الله تعالى، وقد وصل إلينا بالسّند المتَّصل عن النّبيّ ، عن جبريل عن ربّ العزّة جلّ وعلا دون تغييرٍ أو تبديل.

وإنّ منشأ الإشكال عند من يظنّ أنّ تعدّد القراءات يدلّ على تغيير وتبديل كلمات القرآن الكريم أنّهم يحسبون أنّ النبيّ قرأ القرآن الكريم على وجهٍ واحدٍ لا غير، ولكنّ الحقيقة أنَّ  القرآن الكريم نزل على سبعة أحرفٍ وليس على حرفٍ واحد، فقد أقرأ النّبيّ أمّته القرآن على أحرفٍ متعدّدة، وإنّ القراءات المختلفة التي نجدها اليوم لم تخرج عمّا أُنزل على النّبيّ من القرآن الكريم.

– الدّليل على أنّ القرآن الكريم أنزل على سبعة أحرف:

ثبت نزول القرآن على سبعة أحرفٍ بالأدلّة المستفيضة، ومما ورد في السُّنّة النبويّة ما جاء عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه  قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام، يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله أَقرَأَنيها، وكدت أن أعجل عليه، ثمّ أمهلته حتّى انصرف، ثم لببتُه بردائه، فجئت به رسولَ الله فقلت: إنِّي سمعت هذا يقرأ على غير ما أقرأتَنيها، فقال لي: «أرسله»، ثمّ قال له: «اقرأ»، فقرأ، قال: «هكذا أُنزِلت»، ثمّ قال لي: «اقرأ»، فقرأت، فقال: «هكذا أُنزِلت؛ إنَّ القرآن أُنزِل على سبعة أحرف، فاقرؤوا منه ما تيسّر» [متفق عليه].

قال الجوينيّ: (كلام الله المنزل قسمان: قسمٌ قال الله لجبريل: قل للنّبيّ الذي أنت مُرسَل إليه: إنَّ الله يقول: افعل كذا وكذا، وأْمُرْ بكذا وكذا، ففهم جبريل ما قاله ربُّه، ثمّ نزل على ذلك النّبيّ ﷺ وقال له ما قاله ربّه…

وقسمٌ آخر قال الله لجبريل: اقرأ على النّبيّ ﷺ هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير، كما يكتب الملك كتاباً ويسلّمه إلى أمين، ويقول اقرأه على فلان، فهو لا يغيّر منه كلمةً ولا حرفاً) [الإتقان في علوم القرآن: (1/ 159)]

وعلّق السيوطي على ذلك فقال: القرآن هو القسم الثاني، والقسم الأول هو السُّنَّة، كما ورد أنَّ جبريل كان ينزل بالسُّنَّة كما ينزل بالقرآن، ومن هنا جاز رواية السُّنَّة بالمعنى؛ لأنَّ جبريل أدّاه بالمعنى، ولم تجُز قراءة القرآن بالمعنى؛ لأنّ جبريل أدّاه باللفظ، ولم يُبح له إيحاءه بالمعنى، والسرّ في ذلك أنّ المقصود من القرآن الكريم التعبد بلفظه والإعجاز به، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه.

وللتَّوسّع في معرفة بيان تشكُّل القراءات انظر بحث: (كيف تكوّنت قراءات القرآن الكريم).

– فإن قيل: إنّ القراءات تؤدّي إلى اختلافٍ في ألفاظ القرآن ومعانيه، وهذا لا يصحّ؛ فكيف يكون للآية

الواحدة في كلّ قراءة معنىً بحيث تتضارب المعاني؟ وإذا اختلفت المعاني فبأيّ قراءة نأخذ؟

الجواب:

إنّ المعاني المختلفة باختلاف قراءات القرآن كلُّها مقصودةٌ ومرادةٌ، وكلّها من عند الله تعالى، وهي تكمّل بعضها وتفسّر بعضها، وليس فيها تضارب البتة، والاختلاف الذي تؤدّي إليه القراءات هو اختلاف تنوّعٍ وليس اختلاف تناقض، وبأيّ قراءةٍ صحيحةٍ أخذ القارئ فقد أصاب؛ لأنّها كلّها كلام الله تعالى.

ولتعدّد القراءات فوائد عديدة، ففيها تكاملٌ في المعنى، وتكاملٌ في الأداء البيانيّ، وتنويعٌ في الأداء الفنيّ الجماليّ، واختلافٌ في إثراء المعاني، وإثبات وجوه من اللغة العربية، وإليك البيان والتفصيل:

أولاً- التكامل في المعنى: حيث تكمِّل كلُّ قراءةٍ معنى قراءةٍ أخرى، فتؤدّي القراءات المختلفة جميع المعاني المقصودة، مثل قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ﴾ و ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ[الفاتحة: (3)] فالمالك قد لا يكون مَلِكاً، والملك قد لا يكون مالكاً، فتأتي قراءة (ملك) لتكمّل معنى (مالك)، ويدلّان بمجموعهما على أنّ الله تعالى هو المالك وهو الملك ويتكامل المعنى.

فمن يقرأ ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ﴾ يعلم من خلال القراءة الثانية أنّ الله ليس مالكاً فحسب، بل ملكاً أيضاً، ومن يقرأ ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّيْنِ﴾ يعلم أنّ الله ليس ملِكاً فحسب، بل كلّ شيء تحت قبضته وملكه.

– ومثاله أيضاً قوله تعالى:﴿وَانْظُرْ إِلَىْ الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [البقرة: (259)] فقد قرئت (نَنْشُرُها).

أمّا معنى (نُنشِزُها) أي نرفع بعضها إلى بعض حتى تلتئم، وأمّا (نَنْشُرُها) أي: نحييها.

فقراءة (نُنشِزُها) تدلّ على ارتفاع العظام والتئامها، وقد يحصل ذلك دون أن تكون هناك حياة، كمن يصنع تمثالاً على شكل حيوان، فتأتي قراءة (نَنشرُها) لتدلّ على أنّ نشوزَ العظام ورفعَها والتئامَها لم يكن مجرَّد إعادة هيكل الحمار فحسب، بل وقع ذلك مع الحياة الحقيقيّة له، فتكاملت الآيتان من خلال إعطاء كلِّ قراءةٍ معنىً من المعاني. 

ثانياً- التَّكامل في الأداء البيانيّ: كأن يُراعى في النصّ توجيهه مرَّةً بأسلوب الحديث عن الغائب ومرَّةً إلى المخاطب، كقوله تعالى: ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُوْنَ[البقرة: (85)] وفي المخاطب كقراءة: ﴿وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُوْنَ﴾ فتكون إحدى القراءات منسجمةً مع السياق، والأخرى فيها التفات، وهو لونٌ من ألوان المحسِّنات البديعية.

ثالثاً- التنويع في الأداء الفنيِّ الجماليّ، مثل جعلِ فعل الشرط بصيغة الماضي تارةً، وفي قراءة أخرى بصيغة المضارع كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرَاً[البقرة: (158)] ﴿فَمَنْ يَطَّوّعْ خَيْرَاً﴾ ففيه تنوّعٌ في الأساليب واتفاقٌ في المعنى.

رابعاً- الاختلاف في إثراء المعاني: قد يختلف المعنى بين القراءتين، لكنَّ الاختلاف يزيد المعنى ثراءً لا تضادّاً، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ[الحديد: (18)] بتشديد الصَّاد (من الصدقة)، ومعناه الذين يؤدّون الصدقاتِ.

وقرئت أيضاً: ﴿إِنَّ الْمُصَدِّقِينَ وَالْمُصَدِّقَاتِ﴾ بالتخفيف (من الصِدق)، ومعناه: إنَّ المؤمنين والمؤمنات ممّنْ صدَّق باللَّه ورسوله فآمن بما أتى به النّبيّ ﷺ.

والفرق في المعنى بين القراءتين:

في القراءة الأولى: الاهتمام بالأمر بالصَّدقة، فوصف (المصّدّقين والمصّدّقات) أي الذين يؤدّون الصدقات الواجبة وهي الزكاة، ﴿وَأَقْرَضُوْا اللهَ قَرْضَاً حَسَنَاً﴾ أي الصّدقات المسنونة، ويلزم من كونهم يؤدّون الزكاة ويُقرضون الله قرضاً حسناً أنّهم مؤمنون بالله ورسوله.

أمّا القراءة الثانية فهي أعمّ، ففيها مدحٌ للذين صدّقوا وأمنوا بالله ورسوله، ويلزم من إيمانهم العمل بأركان هذا الإيمان، فتدخل الزكاة المفروضة ضمناً، إذ إنّهم ينفقون في سبيل الله فمدحهم بقوله: ﴿وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضَاً حَسَنَاً﴾ فإذا كانوا يقدّمون الصدقة المسنونة فإنَّهم يؤدّون الزكاة المفروضة من باب أولى.

خامساً- إثبات عددٍ من وجوه اللهجات العربية المختلفة: وأمثلة ذلك كثيرة، منها: 

قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ[المجادلة: 2] بنصب (أمهاتِهم) وإعمال (ما) عمل ليس، وهي لغة الحجازيين.

وقرئ أيضاً: ﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ برفع (أمهاتُهم) وإهمال عمل (ما) وهي لغة التميميّين.

ومن ذلك: حذف حرف العلّة من الفعل المضارع المرفوع على لغة هذيل، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَاْ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّاْ بِإِذْنِهِ[هود: (105)]، وقوله: ﴿ذَٰلِكَ مَاْ كُنَّا نَبْغِ[الكهف: (64)] ونحوُها من الآيات الكثيرة، وقُرئت بإثبات حرف العلّة على الأصل، ﴿يَوْمَ يَأْتِيْ﴾، ﴿ذَٰلِكَ مَاْ كُنَّاْ نَبْغِيْ﴾، وفي ذلك إثبات وجوه لغات العرب. 

فإن قيل: قد وقع اختلاف تضادٍّ في القراءات، وذلك كقوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[المائدة: 6] فقد قرئت ﴿وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ ففي قراءة النصب تكون (أرجلَكم) معطوفةً على (وجوهَكم) التي حُكمها الغسل، ويكون حُكم الرجلين في الوضوء هو الغسل.

أمّا في قراءة (أرجلِكم) بالجر فهي معطوفةٌ على (برؤوسكم) التي حكمها المسح وليس الغسل، ومن ثمّ وقع التناقض في القراءات، فما هو حكم الرجلين في الوضوء الغسل أم المسح؟

فالجواب:

لا تناقض في القراءتين، بل الحكم العامّ للرِّجلين في الوضوء هو الغسل في كلا القراءتين، أمّا على قراءة النصب التي قرأ بها الجمهور فالمعنى واضحٌ صريح.

وأمّا قراءة الجرّ، وهي قراءة الكِسائي فيفسّرها السياق، فلو كان النَّصُّ مطلقاً ولم تكن هناك غاية، أي لو اكتفى النَّصُّ بقوله (وأرجلكم) دون أن يكون للآية تتمّة لوقع التناقض بين المسح والغسل، ولكن عندما أتمّت الآية المعنى وحدّدت الغاية في قوله: ﴿وأرجلِكم إلى الكعبين﴾ دلّ على أنّ المقصود هو الغسل دون إسراف وليس المسح؛ لأنّ المسح ليس له غاية، ولا يكون المسح إلى الكعبين، فإذا حُدِّدت غاية ووجب استيعاب المسح للرجلين حتى الكعبين أصبح غسلاً وليس مسحاً، قال الزمخشري: (فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجرّ ودخولها في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنَّةً للإسراف المذموم المنهيِّ عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتُمسَح، ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها، وقيل ﴿إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ فجيء بالغاية إماطةً لظنّ ظانّ يحسبها ممسوحة؛ لأنَّ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة) [الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل: (1/ 611)]

وبهذا نجد أنّ قراءة الجرّ تتَّفق مع قراءة النصب مع زيادة معنىً لطيف، وهو غسل الرجلين بما يشبه المسح، وعدم الإسراف في غسلهما.

ويحسن الختام بما ذكره ابن الجزري، فقد قال: (وأمّا فائدة اختلاف القراءات وتنوّعها فإنّ في ذلك فوائد غير ما قدَّمنا من سبب التهوين والتسهيل والتخفيف على الأمَّة.

فمنها: ما في ذلك من نهاية البلاغة وكمال الإعجاز، وغاية الاختصار وجمال الإيجاز، لأنّ كلّ قراءةٍ بمنزلة الآية، إذ كان تنوُّع اللفظ بكلمةٍ يقوم مقام آيات.

ومنها: ما في ذلك من عظيم البرهان وواضح الدّلالة، إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوُّعه لم يتطرّق إليه تضادّ ولا تناقض ولا تخالف، بل كلُّه يصدِّق بعضُه بعضاً، ويبيّن بعضُه بعضا، ويشهد بعضه لبعض على نمطٍ واحد وأسلوبٍ واحد، وما ذلك إلّا آيةٌ بالغةٌ وبرهانٌ قاطعٌ على صدق من جاء به ﷺ .

ومنها: سهولة حفظه، وتيسير نقله على هذه الأمَّة، إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوَجازة؛ فإنَّه من يحفظ كلمةً ذات أوجهٍ أسهل عليه وأقرب إلى فهمه، وأدعى لقبوله من حفظه جملاً من الكلام تؤدّي معاني تلك القراءات المختلفات، لا سيَّما في ما كان خطُّهُ واحداً، فإنَّ ذلك أسهل حفظاً، وأيسر لفظاً) [النشر في القراءات العشر: (1/ 53)].

Recommended Posts

No comment yet, add your voice below!


Add a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *