إذا كان القرآن لكل زمان ومكان فلماذا يمثّل خطابه بيئة الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي
يطرح بعضهم انتقاداً للخطاب الذي جاء به القرآن الكريم فيقول: أنتم تقولون: إنّ الإسلام جاء لكلّ زمان ومكان، فلماذا لا يجاوز الخطاب القرآني الفترة الزمنية التي جاء فيها؟
فنجد بعض الآيات لا تتعلق بحياتنا أبداً، إنّما هي خاصة ببيئة القرن السابع الميلادي، ومن أمثلة ذلك:
1- كانت العقوبات في الجاهلية قاسية، كقطع يد السارق، ونحو ذلك، فأقرّها القرآن، وهذا لا يتناسب مع المدنيّة والحضارة اليوم.
2- يذكر الوأد وقتل الأولاد بسبب الفقر أو خشية منه في الآية: (﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾) [الأنعام: 151]، والآية: (﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾) [الإسراء: 31]، وهل أحد يقتل ولده اليوم؟!
3- تُذكرُ الوسائل القديمة في الحرب والسفر، كالخيل والإبل في قوله: (﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾) [الأنفال:60] والآية: (﴿ وتحملُ أثقالَكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بشقِّ الأنفُس﴾) [النحل 7]، و في وصف الحجيج: (﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾) [الحج: 27]، واليوم لا يوجد خيل في الحروب، ولا إبل في الأسفار.
4- تُذكر عادات أهل الجاهلية في تحريم بعض الأنعام على أنفسهم كما في الآية: (﴿وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾) [الأنعام: 138 – 139] وهذه العادات لا تعني إلاّ أناساً محدّدين جدّاً في زمان ومكان خاصَّين، وإذا كان القرآن دستوراً عامّا لكل زمان ومكان فيجب أن يتناول الأمور العامّة لا الجزئيّات الخاصة في زمن خاصّ وبيئة محدودة.
الجواب:
نعم، إنّ القرآن الكريم دستور عامّ لكلّ زمان ومكان، وقد جاء بذكر تفاصيل البيئة التي أُنزِل فيها، وعالج المشكلات العامة والخاصّة في الجزيرة العربية، لحِكَم ومقاصد، أهمّها:
1- خاطب القرآن الكريم العرب بما عرفوه وما عهدوه ليكون ذلك أدعى لاستجابتهم؛ لأنّ النفس تأنس بالخطاب القريب الذي تعرفه.
2- لابد للتخطيط الاستراتيجي أن يضع أهدافاً قريبة عاجلة، وأهدافا بعيدة آجلة، ولا يمكن تحقيق الهدف البعيد الآجل ما لم يتحقّق الهدف القريب العاجل، ومن ثمّ فقد أراد الله تعالى أن يشكّل من العرب الذين أُنزِل عليهم القرآن نواةً ليحملوا هذا الدين وينشروه في أصقاع المعمورة، وكان الفساد منتشراً في الجاهليّة، فلا بدّ من الدخول في تفاصيل حياتهم، ومعالجة واقعهم؛ لتحقيق الهدف القريب العاجل، حتّى إذا تزكّت نفوسهم وباشر الإيمان قلوبهم حملوا الرسالة إلى غيرهم ونشروها في العالم، ومن المعلوم أنّ تهيئة النواة الأولى لحمل الرسالة لا بدّ أن تلقى اعتناءً خاصّاً، ومعالجةً دقيقةً لكلّ المشكلات التي تتعلّق بها؛ لأنّ الخللَ في توجيه الجيل الأول والنواة الأولى، وعدمَ تحقيق الهدف القريب ينعكس سلباً على جميع الأهداف بعده، لذا حمّل القرآن الكريم مسؤوليّة حمل الدين للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولقومه، قال تعالى: (﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾)[الزخرف: 44].
يقول أ. جيفري لانغ: (فهناك توجيهات وأوامر إن أُخِذَت بحرفيّتها بدت مهجورة في غالب المجتمعات الحديثة… من الواضح أنّ مهامّ القرآن الفوريّة إصلاح المجتمع في القرن السابع الميلادي، وحشد العرب. وبالحكم على المجتمع العربي في ذلك الزمن من خلال قواعده وقوانينه نجد أنّه كان مشلولاً، وآسناً بسبب انتشار الفوضى السياسيّة؛ لانعدام وجود أي نظام حكم، وانتشار العنف والرذيلة والفساد، ولكي يصبح هذا المجتمع العربي هو المسؤول عن حمل هذا الوحي الذي أريد له أن يكون للناس كافّة (﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)﴾[يوسف: 104]، كان لا بدّ أن يخضع إلى عمليّة تحويل كاملة، لتخليص نفسه من عناصر العادات التي تضعفه وتدمّره، وإلاّ لبقي القرآن محصوراً في قطاع شبه الجزيرة العربية وعندئذٍ سيغيب في عالم النسيان، وهذا يفسّر جزئيّاً تلك الطبيعة التقنيّة الواضحة لأحكام القرآن؛ لأنّ النصائح المجرّدة نادراً ما تؤدّي إلى إصلاح سريع شامل، بل النصائح والتوجيهات العامّة نادراً ما تسفر عن إصلاح مجتمعي حتى على المدى الطويل) [ضياع ديني، صرخة المسلمين في الغرب، جيفري لانغ: (ص:70) وما بعدها، ترجمة إبراهيم الشهابي، دار الفكر، دمشق، عام 2008م]
3- إنّ عادات الجاهلية التي ذكرها القرآن وأبطلها ليست أعرافاً شكليّة، وإنّما تؤثر في صميم الدين، فتحريم أهل الجاهليّة بعض الأنعام على أنفسهم يتعلّق بتعظيم الأصنام، والشرك بالله، وأول مقاصد الإسلام هي معالجة العقيدة الفاسدة والخرافات السائدة.
وكذلك قتل أهل الجاهلية لأبنائهم بسبب الفقر جريمة عظمى تصادم الدين والإنسانيّة وتنمّ عن الوحشيّة والقسوة التي كانت لديهم فلا بدّ من معالجة القرآن لهذه القضيّة .
4- عندما يذكر القرآن الكريم الوسائل التي كانت في عصر التنزيل فإنه لا يقتصر عليها، وإنّما يذكرها من بين الوسائل الأخرى، ففي قوله تعالى: ﴿(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ)﴾ [الأنفال60]، لم يقتصر على رباط الخيل وإنّما ذكر القوة بشكل عامّ، والقوة تشمل جميع الوسائل القديمة والحديثة والمتطوّرة والذكيّة.
وعندما ذكر القرآن وسائل السفر التي كانت في عهد التنزيل أشار إلى وجود وسائل أخرى فقال: (﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾) [النحل8]، فقوله: (﴿ويخلق ما لا تعلمون﴾) يشير إلى وجود وسائل أخرى يركبها الناس لا يعلمها العرب الذين أُنزِل عليهم القرآن.
وأمّا قوله: (﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾) [الحج27]، فهذا الخطاب غير موجّه إلى سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم مباشرة، وإنّما هو إخبار عمّا أوحاه الله تعالى إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما أمره أن يبلّغ الناس بالحجّ، وإنّ وصف الحجيج ((رجالاً وعلى كلّ ضامر)) هو وصف للحجيج في عهد إبراهيم عليه السلام، وبقيت هذه الصورة للحجيج آلاف السنين حتى وقت قريب، وهذا من باب الخبر التاريخي، ومن المعلوم أنّ الخبر التاريخي لا تتغيّر لغته، لأنّه توصيفٌ لأشياء وأحداث مضت، ولا يصحّ فيه إلا تلك اللغة، فلو كتبت أحدث الصحف اليوم عن خبر تاريخي فلا بدّ أن تذكر مصطلحات عصر ذلك الحدث، مثل: (رُقُم، خيل، أوابد) ونحو ذلك، وكلما اقتربت اللغة إلى ذلك العصر كانت أدق وأقوى، وكذلك عندما يصف الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مشهد الحجّ في عهد إبراهيم عليه السلام، ويصف النوق التي يسافر عليها الحجيج بأنها ضوامر لطول السفر فهذه الدقّة في الوصف هي عين البلاغة والبيان.
5- أمّا قساوة العقوبات القرآنية في ذلك العصر، وإقرار العقوبات التي كانت في الجاهلية، كقطع يد السارق، وجلد الزاني، ونحوه.
فقد كانت الجريمة والرذيلة آنذاك منتشرة بكلّ أنواعها، ومتاحةً سهلةً لمن يريدها، ولم يكن عند العرب نظام ولا قانون يردعهم عن ارتكاب كلّ محظور والتوغّل فيه، فجاء القرآن الكريم لتطهير المجتمع من الفساد المتفشي، وقصدَ تزكيةَ النفوس وإصلاحَها، وتربيةَ جيلٍ ينشر الرسالة الإسلامية في أرجاء المعمورة، ولتحقيق ذلك لابد من سنّ قانون للعقوبات يكون رادعاً زاجراً، فكانت العقوبات القرآنية أنسب تشريع لتطهير المجتمع من الرذائل، وقد أثبت هذا التشريع نجاحه وجدواه، ففي وقت قصير تحوّل المجتمع من الفساد إلى الطهارة، ومن الرذيلة إلى الفضيلة، وما دامت هذه العقوبات قد أثبتت نجاحها بامتياز وأدّت الغاية المطلوبة فلِمَ الاعتراض؟!
ومن أبلغ ما حقّقته هذه العقوبات أنّ المجتمع كان يرتع في مستنقعات الرذائل، وبعد تشريعها زال ذلك الفساد، وعمّ الصلاح، وتزكّت النفوس بأقصر وقت وأدنى كلفة وأعظم نتيجة، فلم تقع إقامة الحدود آنذاك إلاّ على أفراد معدودين على أصابع اليد الواحدة. على أنّ في ثنايا هذه العقوبات كثيرٌ من الرحمة والعفو، وسنذكرها في المقال التالي الذي نناقش فيه قول بعضهم بأنّ هذه العقوبات لا تتناسب مع المدنيّة والحضارة اليوم.
وإجمالاً للقول: إنّ القرآن الكريم قد حقّق الغاية، وأنشأ مجتمعاً مؤمناً فتح مشارق الأرض ومغاربها، ونشر العلم والعدل والحضارة في أصقاع المعمورة، وتأثّر بلغة القرآن الكريم العربُ والعجمُ، وأسلم كثيرٌ من الناس بمجرّد سماعهم لآيات الله تعالى تُتلى، فأدّت هذه اللغة مهمّتها بكلّ جدارة، واستنبط منها العلماء الأحكام العظيمة التي لا تكاد تنتهي، واستخرج البلاغيون منها مواطن الدقة والجمال في المعاني والمباني، فلا داعي للاعتراض عليها إذاً؛ وإذا تحقّقت الغاية فلا داعي للاعتراض على اللغة التي أدت المهمة على أكمل وجهٍ، وبذلك يتبيّن أنّ الخلل في رأي المعترض وليس في لغة القرآن الكريم.
No comment yet, add your voice below!