الإسلام يلغي العقل، ويخضعه للنُّصوص الدِّينيَّة الواردة في القرآن والسُّنَّة التي تُخالف هذا العقل بأحكامها وأوامرها ونواهيها…
هذه دعوةٌ بعيدةٌ كلَّ البعد عن الحقِّ والواقع، ولا تمسُّه أدنى مساسٍ, فلم يلغِ الإسلام العقل؛ وإنَّما أمر بإعماله. وكيف يلغيه وهو مناط التكليف في الشريعة الإسلامية! وحِفظُهُ ضرورةٌ لا غنى عنها؛ بل إنَّ الحفاظ عليه مقصدٌ من مقاصد الشريعة قائمٌ بذاته، فحرَّمت كلَّ ما من شأنه إفساد العقل، وإدخال الخلل عليه؛ كالخمور والمخدِّرات وما شابهها.
وانتقدت السلوكيَّات المؤدِّية إلى تعطيل وظائف العقل، أو التشويش عليه، كاتِّباع الهوى، والتَّقليد الأعمى، والجدال والعناد والمكابرة، مما يتنافى مع التفكير العلميِّ, فالإسلام يحرِّر العقل من قيوده، ويحثُّ المسلم على إعماله.
ولقد وصف القرآن المعطِّلين لعقولهم بالأنعام بل هم أضلّ، ولو كان الإسلام بكلِّ تعاليمه ضعيفاً، أو مهزوزاً، أو ضعيف الثقة بنفسه؛ لتهرَّب من العقل –كما صنعت عقائد أخرى- ولرفض التفكير، ولكنَّه يحترم العقل ويقدِّره, ويطلب منه أن يقوم بدوره.
ومن أروع ما يُؤثِّر في هذا الباب حادثة كسوف الشمس في زمن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم مات ولده إبراهيم، وظنَّ الناس أنَّها كُسفت لأجله، فأنكر رسول الله ذلك عليهم حتَّى لا يقع الناس في رقِّ الخرافات والأوهام.
ولتحقيق هذا المعنى أيضاً؛ حرّمت الشريعة تصديق العرافة, والكهانة, والتَّنجيم, والأبراج, وقراءة الفنجان, ونحوها من العادات التي تقيِّد العقول، وتشلّها بالأوهام والخرافات.
وحين كان الأمر على هذا النَّحو, فإنَّ من غير المنطقيِّ أن يخاطب الإسلام الإنسان بما يتناقض مع عقله أو يصادمه؛ إذ لو أراد الإسلام ذلك لما اشترط العقل في تكليف الإنسان ابتداءً، ولاكتفى بتكليف غير العاقلين أو قليلي الفهم.
ولمَّا اشترط الإسلام العقل في المكلَّف فإنَّه فرض على نفسه فرضاً ذاتيَّاً احترام ذلك المكلَّف, ومخاطبته خطاباً منطقيَّاً سليماً يتقبَّله العقل ويرتضيه.
وبناء على هذا, لا يمكن أن نجد في الإسلام نصَّاً صحيحاً صريحاً يتناقض مع صحيح العقل أو يتصادم معه؛ لأنَّ العقل هو خلق الله وتكوينه, والنَّصُّ الدِّينيُّ كلام الله وخطابه، ومن المستحيل أن يتناقض خطاب الله مع خلقه، أو أن يتعارض تصرُّفه في الوجود تكويناً مع تصرُّفه فيه تشريعاً.
فإذا ما حصل شيءٌ من ذلك, ووجدنا أنفسنا أمام نصٍّ دينيٍّ يتعارض مع صحيح العقل الثَّابت ثبوتاً صحيحاً، عندها نكون أمام أحد أمرين:
– إمَّا أن يكون النصُّ الدِّينيُّ غير صحيحٍ -وهذا الأمر خاصٌّ بالسُّنَّة النَّبويَّة- وعندها ينتفي التعارض لعدم ثبوت النَّصِّ.
– أو أن يكون النَّصُّ صحيحاً وثابتاً, ولكنَّه غير صريحٍ في دلالته على المعنى الذي فهم منه مصادمته للعقل، فيظهر أنَّه مخالفٌ للعقل, وهو في الحقيقة على خلاف ذلك.
نقول هذا كلَّه بافتراض وجود نصوصٍ دينيَّة تتعارض مع بداهات العقول (كأن يأتي نصٌّ دينيٌّ بقول: إنَّ الكلَّ أصغر من الجزء, أو إنَّ الواحد أكبر من الاثنين, أو إنَّ النَّقيضين متساويان).
أمَّا الاجتهادات العقليَّة التي لا حصر لها فلا تندرج تحت هذا الباب، بل إنَّ الإسلام حرص على هذه الاجتهادات وجعل عليها ثواباً عظيماً (ثواب الاجتهاد في الدِّين) وذلك بعد أن نظّمها وقننّها وفق الصراط المستقيم, وجعل لها ضوابطَ, وأصولاَ, ومقاصدَ كبرى تندرج تحتها، حتى لا تزيغ مع الأهواء والأفكار المضطربة.
ومن أمثلة الاجتهادات العقلية التي ترى بعض العقول السَّقيمة صحَّتها ورفضها الإسلام رفضاً مطلقاً:
(القتل الرحيم– الإجهاض– إبادة المعاقين والمتخلفين عقلياً) وغيرها من التشريعات الليبرالية التي انتشرت في العالم “المتحضِّر”.
وما زالت المجتمعات المحافظةُ في تلك الدول تجاهد لإعادة العقل الضالِّ إلى جادَّة الصواب وإلى صراط الله المستقيم, فطرةَ الله التي فَطَرَ النَّاسَ عليها.
ومن هذا نجد أنَّ العقول متفاوتةٌ في هذه التشريعات، وعليه يكون النَّقل الصريح هو المرشد للعقول التَّائهة, ومن ذلك قالوا: (لا اجتهاد في مورد النص), وكانت عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة: النقل يأتي قبل العقل، بمعنى أنَّه يدلُّه ويهديه, ولا يتركه يضلُّ في بحارٍ لا شواطئ لها؛ فمنَّ الله على البشر بأن أنزل عليهم كتاباً يهديهم:
((الحَمْدُ للهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً)) [الكهف:1].
لذلك فإنَّ الشرائع لا تخالف العقول، بل إنَّها مبينةٌ أصلاً على مخاطبتها, وتكريمها, مع الحرص على ألَّا تشطَّ هذه العقول مع الأهواء الشيطانية نحو أفكارٍ بعيدةٍ عن الأصول الثابتة, والمقاصد الكبرى للدِّين.
ولقد أنزل الله الكتاب ليهدي الناس إلى الطريق القويم المسدَّدِ بالعقل السليم, والحكمة التي جعلها الله منّةً يؤتيها من يشاء من عباده، وبهذا حافظ الدِّين على العقل, ووضعه في مكانته السَّليمة دون إفراطٍ أو تفريط.
No comment yet, add your voice below!