الدين والعلم
الدين والعلم
ليس بإنسانٍ من لم يتوقَّف لحظةً في أثناء عمره الطويل ليسأل نفسه… ما الحكاية بالضبط؟ من أنا؟ ومن أكون؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين أذهب؟ وما مصيري؟ وما الحكمة من الألم؟ وما الهدف من الوجود؟ وعلام هذا اللُّهاث المجنون، وآخِرُ السعي موتٌ وترابٌ ولا شيء… إنَّ الحياة دون إيمانٍ ودون يقينٍ بوجود إلهٍ عادل، هي عبثٌ صرفٌ بلا معنى، وبلا سند، وبلا رصيد… وهي عذابٌ بلا حكمةٍ، وألمٌ بلا عوض، ومغامرةٌ بلا عائد، ومشروعٌ بلا ضمان.
والإنسان إذا خلت حياته من الله هو مشروع فاشلٌ نهايته اليأس والانتحار… وإذا كانت الحياة استمرَّت ثلاثة آلاف مليون سنةٍ فلأنَّ الله فيها، ومعها، ومن ورائها، ومن حولها، يهديها ويدعمها ويُساندها وينوِّرها… ووجوده سبحانه وتعالى ضرورةٌ مُطلقةٌ، بدونها لا سبيل إلى فهم أيِّ شيء، ولا سبيل إلى استمرار أيِّ شيء، ليس ضرورةً عقليَّةً أو ضرورةً فلسفيَّةً فقط، بل ضرورةً وجوديَّةً بحتة.
الإنسان وإله الكون قضيَّةٌ واحدةٌ لا يفهم أحدها إلَّا بالآخر، ولا ينفصل طرفٌ منها عن الآخر، فالله يُفارقنا بعلوِّه، ولكنَّه فينا، وأقرب إلينا من حبل الوريد. فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجه الله. وهو معكم أينما كنتم، ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلَّا وهو رابعهم، بل هو الجمال في كلِّ جميل، والقوَّة في كلِّ قوي، والقدرة في كلِّ قادر، وهو سبحانه نور السموات والأرض.
ويؤكِّد لنا الدِّين هذا الشعور دون تفلسفٍ فيعطي المؤمن جرعةً من الراحة والسكينة والطمأنينة تكفيه مدى عمره؛ فلا يعود يسأل أو يتساءل وإنَّما ينطلق يسعى، ويعمل جاهداً في سبيل الخير والبرِّ، غير ناظرٍ إلى مكافأةٍ أو عِوَضٍ لأنَّ الله ذاته هو العِوَض، وليس بعد الله شيء، ثمَّ هو يسعى دون خوفٍ من مرضٍ أو موت، فهو يعلم أنَّه لا موت؛ إنَّما كدحٌ إلى الله، وسيرٌ في المنازل، وصعودٌ في معراجٍ من التحوُّلات لا يعلم كيف تكون، فذلك غيبٌ؛ ولكنَّ إيمانه يُغنيه ويمتدُّ به عبر الغيب، وبطول الشهادة كلِّها.
والعلمانيون الذين يستنكرون علينا المزاوجة بين العلم والدين يأخذون علينا الكلام في الدِّين بلغة العلم…
وهم يعيشون في انشقاقٍ على أنفسهم طول الوقت، فهم يقسمون الحقيقة إلى أجزاء، ويتصوَّرون أنَّ كلَّ جزءٍ له علبةٌ خاصَّة… فهذه علبةٌ للدِّين، وهذه علبةٌ للعلم، وينسون أنَّ تشريح الحقيقة يقتلها، لأنَّها بطبيعتها بسيطةٌ وشاملة… فالدِّين في ذاته علم… هو علمٌ بالله، والعلم بالله لا ينفصل عن العلم بمخلوقاته، فالمعرفة بالصانع لا تنفصل عن المعرفة بصنعته… بل إنَّ كلَّ معرفةٍ منهما تؤيِّد الأخرى وتعضدها، ولا تناقضها ولا تنفيها… فالكون كلُّه بما يتجلَّى فيه من وحدة القوانين، ووحدة الخامة، وانسجام الألوان والأشكال هو خير شاهدٍ على وحدة الصانع… والكون هو مجالٌ لقدرات الله وأفعاله وصفاته… والتاريخ هو المشيئة الإلهية التي تتحقَّق شِفرياً في الحوادث… والتطوُّر التكامليُّ في الكون هو ذلك الكدح إلى الله صُعُداً مرتقىً بعد مرتقى… ونحن نرى الله في كلِّ شيء… وليس ذنبنا أنَّهم لا يرون الله في أيِّ شيء… وأنَّ نظرتهم تقف عند حدود الميكروسكوب، والتليسكوب، وشاشة الرادار… وأنَّهم يقسمون كلَّ شيءٍ إلى ألف جزءٍ وجزء، ثمَّ يتيهون في الأجزاء ولا يرون إلَّا الأجزاء.
والعلم تراثٌ للجميع، ولا يستطيع أحدٌ أن يَدَّعى ملكية العلم لنفسه، ولا يوجد علمٌ روسيٌّ، ولا علمٌ أمريكيٌّ، ولا علمٌّ إنجليزيُّ، وحقائق العلوم ملكيَّةٌ مشتركة، وهي موضوع استبصار العالم والفيلسوف والمفكِّر ورجل الدِّين، دون أن يتَّهم أحدهم بالتبعيَّة لأحد… فالتماس الحقِّ من جميع سبله المتاحة هو أوجب واجبات العقل.
وعيب العلمانيين أنَّهم يختلقون تناقضاً بين العقل والوجدان، ويعيشون في انشقاقٍ دائمٍ في أنفسهم وعلى أنفسهم، وذلك لبُعدهم عن الرؤية الشمولية، ولغرقهم في الجزيئات، ولو أنَّ رؤيتهم ارتفعت عن الجزء، والتحمت بالكلِّ لذابت كلُّ هذه التناقضات، ولرأوا الانسجام الشامل في كلِّ شيءٍ، ولكانوا من الذين فهموا الآية.
﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ﴾. فما كلُّ هذا التلوين والتصنيف في الأشكال في هذا المتحف الكونيّ إلَّا تعبيرٌ عن السعة الإلهيَّة والعلم الإلهيّ الذي أحاط بكلِّ شيءٍ فهُم أَينما تولَّوا فإنَّهم يقرؤون كتاب الله ويستجلون آياته… فليس ثمَّة إلَّا هو… وما من الله بدٌّ.
يقول الله للعبد الصالح في كتاب المواقف والمخاطبات للنفري: (أنا في عين كلِّ ناظر)، ومعنى ذلك أنَّه في المشهد، وفي الشاهد، وذلك هو الوجود مطلقاً، فسبحان ربِّي الذي وسع كلَّ شيءٍ رحمةً وعلماً.
لو قرأت القرآن فأنت في كلماته… ولو قرأت كتاب الكون فأنت في صنعته… ولو قرأت في العلوم الطبيعية فأنت في قوانينه… ولو قرأت التاريخ فأنت في مشيئته… ولو قرأت في الفنون فأنت في تجلِّيات اسمه (البديع والخالق والمصوّر) ولا مهرب لك منه… أنَّى توجَّهت فأنت في إحاطته… وأجدادنا في صدر الإسلام فهموا الإسلام أحسن منَّا، فكان الواحد منهم أمَّةً ودائرة معارف.
كان ابن سينا عالماً وطبيباً وفيلسوفاً وشاعراً وحجَّةً في الرياضيات، ومثله الرازي، وابن رُشد، وابن الهيثم، وغيرهم… لم يكن الواحد منهم يضع الدِّين في علبةٍ، ويضع العلم في علبةٍ ويقول: لا أُدخل هذا في ذاك، ولا أُدخل ذاك في هذا، وإنَّما كان كلٌّ منهم عقلاً شمولياً ورؤيةً شمولية… وكان كلَّما ازداد شمولاً في النظر ازداد قرباً وفهماً للدِّين والعلم على السواء، حتَّى المفسِّر السَّلَفيّ الذي يحتجُّ به الخصوم؛ لم يكن مُغلقاً على المعلومة الدينية القرآنية بل كان يحاول أن يستخدم العلوم المتاحة في عصره لفهم آيات القرآن الكريم.
حينما فسَّر السلف ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾، بقولهنَّ إنَّها الرِّياح تدفع السحب فتسقطها على الأرض مطراً، فتلقحها وتُخصبها، كانوا يستعينون بالعلوم الطبيعية في زمانهم، ونحن اليوم حينما اتَّسعت معارفنا نقول: هي الرياح تحمل حبوب اللقاح من زهرةٍ إلى زهرة فتلقِّحها، ثمَّ حينما اتَّسعت معارفُنا أكثر نقول: هي الرياح تحمل ذرَّات التراب، وتُلقي بها السحبُ فتعمل كبذور تتجمَّع حولها القطيرات، فهي كأنَّما تلقِّحها، وهكذا كلَّما تقدَّم ركب العلم كشف لنا المزيد من مغاليق هذه الآية الكريمة.
إنَّنا نسير على نفس الدرب خلَفاً عن سَلَف، لم نأت بِدْعاً من الأمر، بل إنَّ السَّلَف كانوا أحياناً يُغالُون في هذا التفسير العلمي فيقعون في الخطأ، فنرى الطبريَّ على ارتفاع قَدَمه في التفسير يفسِّر الآية: ﴿يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ﴾ [سورة الروم-19]. بأنَّها الدجاجة تخرج من البيضة والبيضة تخرج من الدجاجة، وأنَّها الجنين يخرج من النطفة المنوية، والنطفة المنوية تعود وتخرج من الرجل البالغ… ونعرف الآن إنَّ المثال العلمي الذي ضربه الطبري مثالٌ خاطئ… فالبيضة والدجاجة هي حيٌّ يخرج من حيّ، وكذلك النطفة هي حيوانٌ منويٍّ حيٌّ يخرج من حيّ… ولكنَّ الطبري كان له عذره فهكذا كانت العلوم المتاحة في زمانه…
ولقد أخطأ أرسطو خطأً أكبر حينما قال بِتَولُّد الديدان من الجبن القديم، وخروج الحياة من تخمُّر المواد الميتة… واليوم يعرف أصغر تلميذ في أي مدرسةٍ ابتدائيةٍ أنَّ دود المشّ يخرج من بيضة ذبابة المشّ، وأنَّ التخمُّر يحدث بسبب ميكروب الخميرة، وليس العكس… هي أخطاءٌ وقع فيها أكابر… ولكنَّهم اجتهدوا فكان لهم أجرٌ حتَّى على أخطائهم.
ولكنَّ الخطأ الذي لا يُغتفر هو أن يتوقَّف الاجتهاد، أن يَجْبُنَ العلماء خوفاً من أن يُقال: إنَّهم أدخلوا البِدَع… وأن يتقاذف الناس الاتِّهام بالتكفير… وأن ينغلق رجل العلم على علبة العلم، وأن ينغلق رجل الدين داخل قوقعة الدين، وأن ينعدم التواصل، وأن ينحلَّ التفكير إلى جُزُرٍ منفصلة غير مترابطة، وأن نفتقد الرؤية الشاملة، وأن يختنق كلُّ واحدٍ في تخصُّصه فذلك آية الانحدار والتخلُّف الحضاريّ.
No comment yet, add your voice below!