الثابت والمتغير في الدين
الثابت والمتغير في الدين الإسلامي
قال أحد الشباب: لا أستطيع أن ألتزم بالدِّين؛ لأنَّ الإسلام يقيّد عملي وإبداعي واختياراتي، ويمنعني من ممارسة الحياة التي أرغب فيها.
وقال آخر: كدْتُ أن أترك الإسلام، لولا أنّ محمّد شحرور عرض الدِّين بصورةٍ سهلةٍ جميلةٍ تتَّفق مع رغباتي، فتبعت أفكاره.
تصوّران مغلوطان عن الثوابت والمتغيّرات في الإسلام:
فمن ظنّ أنّ الالتزام بالدِّين وممارسة الحياة لا يجتمعان؛ لأنّ أحكام الدِّين ثابتة، وأنّ الإسلام يقيّد حركته، ويلزِم الناس بطريقةٍ واحدةٍ في السلوك والعلم والعمل والتصرّفات والمَلْبَس والعادات، فهو واهم، ولم يدرك حقيقة الشريعة التي وصفها العلماء بقولهم: (فإنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، ومصالح كلُّها، وحكمةٌ كلُّها؛ فكلّ مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة) [إعلام الموقعين عن رب العالمين: (3/11)].
فالإسلام جاء لمصالح العباد وتحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة، ومن ثمّ فساحة المتغيّرات في الدِّين كبيرةٌ واسعة؛ لأنّ المصالح الدنيوية متغيّرةٌ ومتجدّدة، وكلّ ما يصلح المعاش من المعاملات، والعادات، والمكاسب، والعمل، والسلوك، والاختيارات الخاصَّة، وتدابير الحياة، فإنّ الشريعة وسّعته وأباحته، ولم تُلزِم فيه بطريقةٍ معيّنة، إلاّ أنَّها وضعت لها شروطاً عامّةً كلّيّةً مرنة، ولم تفصّل فيها الأحكام حتَّى لا تقيّد تصرّفات الناس. قال الطاهر بن عاشور: (وأقول: قد تتبّعت تفريع الشريعة زمن الرسول ﷺ، فوجدت معظمه في أحكام العبادات… بخلاف أبواب المعاملات… فأمّا المعاملات فبحاجةٍ إلى اختلاف تفاريعها باختلاف الأحوال والعصور… ولذلك نجد أحكام المعاملات في القرآن مسوقةً غالباً بصفةٍ كلّية) [مقاصد الشريعة: (ص:389)].
ومن ثمّ فساحة المباح واسعةٌ، بل هي الأصل في كلّ ما يعود إلى الإنسان بالفوائد الدنيوية المعتبرة، حتّى قرّر الأصوليّون قاعدة: (الأصل في المنافع الإباحة) فقد خوّلت الشريعة الناس أن يتصرّفوا بما ينفعهم في حياتهم وعاداتهم ومعيشتهم مطلقاً، ولا يشترط لهذه الأعمال أن يَرِد فيها دليل، وإنّما يكفي عدم ورود ما يعارض أحكام الشرع فيها، قال الدكتور محمَّد الريسوني: (التكاليف العادية – تكاليف العادات والمعاملات – يكفي لصحّتها، ألّا يكون القصد فيها مناقضاً لقصد الشارع، ولا يشترط فيها ظهور الموافقة) [نظرية المقاصد عند الشاطبي : ( 322 )].
لذا عندما فتح المسلمون بلاد المغرب كان لباس المغاربة يختلف عن لباس المشارقة، ولم يعتادوا تغطية رؤوسهم بالعمائم، فترك المسلمون لهم اختيارهم في أزيائهم وعاداتهم، ولم يلزموهم بتغطية رؤوسهم، مع أنّ تغطية الرأس أمرٌ مؤكَّد، وكشفه من خوارم المروءة عند المشرقيّين، ولكنّ العلماء استثنوا أهل المغرب من هذا الحكم؛ لأنّ الشريعة راعت العادات ولم تغيّر ما أَلِفَه الناس، قال الإمام الشاطبي في كلامه عن الأحكام المتبدّلة في الشريعة: (والمتبدّلة منها: ما يكون متبدّلاً في العادة من حسنٍ إلى قُبح، وبالعكس، مثل كشف الرأس، فإنَّه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيحٌ في البلاد المشرقيّة، وغير قبيحٍ في البلاد المغربيّة، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح) [الموافقات (2/ 489)].
وعلى هذا فقِس، فما كان سائغاً من اللباس والأفعال والعادات والترفيه والإبداع، فلا تقف الشريعة في طريقه أبداً.
وإنّ الالتزام بالدِّين وإقامة شعائره من صلاةٍ وصيامٍ وغيرهما، والأخذ بمكارم الأخلاق، لا تتعارض مع اختيارات الانسان الدراسيّة، والعلميّة، والإبداعيّة، وممارسة الرياضة، والاستجمام، والتنزّه، والمرح، ممَّا لا تشوبه مخالفاتٌ شرعيّة.
فإن قال قائل: لماذا يمنع علماء الدِّين بعض التسريحات والألبسة والموضات؟
فالجواب: الدين لا يحجر على أحدٍ تصرّفاته، فلكلّ إنسانٍ أن يلبس ما يشاء، ويسرّح شعره كيف شاء.
بيد أنّ الأصل في اللباس الستر الذي تدعو إليه الفطرة، والقصد من تسريح الشعر الجمال والتأنّق الذي يسعى إليه كلّ إنسان، ولكن إذا تغيّرت هذه الوظيفة عند بعضهم في اللباس وقصّ الشعر، فتحوّل اللباس إلى أزياء تظهر العورات، أو تقليداً لجماعات غربيّةٍ شاذّة، وصار تسريح الشعر اتّباعاً أعمى مستورداً من دول أوروبية، يحمل رمزيّةً سيّئةً لدى مُصَدِّريه، فالشريعة تمنع هذا السلوك من اللباس وتسريح الشعر وتقوّمه؛ للحفاظ على كرامة المسلم ومروءته؛ لأنّ المسلم ذو عزّةٍ وكرامة، وهذه الأمور تحطّ من المقام الذي يليق به، فكشف العورات يرفضها كلّ إنسانٍ سليم الفطرة، واتّباع الجماعات الغربيّة الشاذَّة واللاأخلاقيّة في لباسهم وسلوكهم وتسريح شعرهم نزولٌ عن المستوى اللائق بالإنسان السويّ.
أمّا لو ابتكر حلّاقٌ تسريحةً دون أن تكون لها رمزيّةٌ سلبيّة، أو أبدع مصمّم أزياء ثياباً لمجرَّد الجمال والأناقة، فلا خلاف في جوازه.
فالشريعة لا تعارض الإبداع والأناقة والجمال البتّة، وإنّ النبيّ ﷺ عندما حذّر أصحابه من الكبر وقال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرَّةٍ من كبْر»، قال رجلٌ: إنَّ الرجل يحبُّ أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، قال ﷺ: «إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال، الكبر بطر الحقّ، وغمط الناس» [مسلم]، فلم يقصد النّبيّ ﷺ من ذمّ الكبر جمال الثياب أبداً، بل استحسنه فقال: ((إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال))، كما حثَّ على الاعتناء بالشعر، فقال ﷺ: ((من كان له شعرٌ فليكرمه)) [أبو داود].
فإنّ الإسلام لا يعارض التأنّق والذوق الرفيع، بل جعل له اعتباراً ضمن مرتبة التحسينات، وإنّما منع من التقليد الأعمى، والانبهار بمظاهر الفساد لدى الغرب، والانسلاخ عن الهويّة.
وإذا عدنا إلى الشابّ الثاني الذي كاد أن يترك الإسلام، ثمّ اتّبع أفكار شحرور:
فنهمس في أذنه بمحبّة ونقول له: ليس الدين بالأهواء، ولا منظومةً من الآراء الشاذّة التي تتجاوز الثوابت، بل يجب الانقياد لأوامره، لا أن نغيّر أحكامه ونجعلها تابعةً لهوانا.
فثمّة ثوابت وأصولٌ وخطوطٌ حُمُر لا يسوّغ تجاوزها، ولا بدّ من مراعاتها؛ لأنّ الدين يشتمل على أحكامٍ ومقاصد، فلا بدّ من تحقيقها للفوز بسعادة الدنيا والآخرة.
فالثوابت تتمثّل بالتمسّك بالأصول: كالأخذ بالقرآن الكريم والسنّة النبويّة، وعدم الخروج عن إجماع المسلمين، وألَّا يُحدَث في الدِّين ما ليس منه.
والحفاظ على العقائد التي تشمل أركان الإيمان بتمامها وشروطها، وتعظيم شعائر الإسلام، والتصديق بكلّ ما جاء به رسول الله ﷺ من ربّه.
وكذلك العبادات: وتشتمل على الأوامر والنواهي:
فالأوامر منها شعائريّة: كالصلاة والصيام والزكاة والحجّ، ومنها تعامليّة: كالصدق والأمانة والعدل وبرّ الوالدين، وصلة الأرحام ونحو ذلك.
والنواهي: كتحريم السرقة والزنا والربا وشرب الخمر والمخدّرات، وكشف العورات وغيرها من المحرّمات.
فالثوابت لا تتغيّر ولا تتبدّل، وثبوتها لا يعيق حركة الحياة، ولا يجلب مشقَّةً أبداً، بل يضبط الاعتقاد والسلوك، ويفتح آفاق الفكر والإبداع لدى المسلم، وهناك الآلاف من المبدعين الملتزمين بدينهم في عصرنا ولم يجدوا تعارضاً بين الدين والحياة، نذكر خمسةً منهم:
– البروفسور الليبيّ محمد القماطي: صاحب أكثر من (200) براءة اختراع في البصريّات، ورئيس جمعيّة التراث الإسلامي، وإمام مسجد في بريطانيا.
– البروفسور الباكستانيّ الداعية حسين عبد الستَّار: مختصٌّ في علم الأمراض في جامعة شيكاغو، ويعمل في الدعوة إلى الله ونشر الإسلام.
– البروفسور الجزائريّ يوسف كمال تومي: حافظٌ لكتاب الله، ولديه أكثر من (50) اختراعاً في صنع الروبوتات، ومحاضرٌ في المساجد.
– البروفسور الجزائريّ محمَّد لاشمي: رئيس أعرق جامعةٍ كنديّة (رايرسن)، وله أكثر من (200) ورقة علميّة، داعيةٌ، ومساهمٌ في بناء المساجد في كندا.
– الطبيب المصريّ عبد الكريم الحسن: درس في جامعة الأزهر، اختارته مجلّة (باثولوجي) ضمن قائمة أفضل (100) رائد علميّ باثولوجيّ في العالم عام 2019م.
وغيرهم كثير، والقائمة لا تكاد تنتهي.
فالملتزم بدينه يزداد تركيزه، ويتّسع وعيه واستيعابه، ويبدع في مجاله، بخلاف من يريد الانفلات من الدين، فإنّ تفكيره يكون مشتّتاً، ونفسَه مضطربة.
فالثوابت تضبط الحياة وتحيط الدّين بالصيانة والحماية، وتكفل السعادة الدنيويّة والأخرويّة للمسلم.
No comment yet, add your voice below!