الإعجاز اللغوي
الإعجاز اللغوي
يقول علماء العربية:
القرآن الكريم في أعلى درجات الفصاحة في آيــاتـه وسوره كلِّها، وعلى اختلاف المعاني التي جاءت في هذه السور والآيات، ومعلومٌ في تاريخ الأدب العربي أنَّ لكلِّ شاعرٍ من شعراء العربية ضرباً من المعاني هو عليه أقدر، وبيانه عنه أعلى، ولهم في هذا أقوال في طائفة الشُّعراء جرى بعضها مجرى الأمثال، وقالوا:
أشعر الناس امرؤ القيس إذا رَكِب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وزهير إذا رغب.
وهكذا أنت في كلِّ شاعرٍ استغرقه ضربٌ من المعاني، وامتازت عبارته عنه ضرباً من الامتياز ، إلَّا كتاب الله.
قال تعالى في الترغيب: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخفِيَ لَهُم مِن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة۱۷/۳۲].
وفي الترهيب: ﴿ وَاستَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنيد مِن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى من ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجرِّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسيغُهُ ويأتيه المَوْتُ مِن كُلِّ مكانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتِ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ [إبراهيم:14-17]، فالبلاغة في الترغيب، كالبلاغة في الترهيب. ومثالٌ آخر: ﴿قَال لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَد قَدَّمتُ إليكم بالوعيد مَا يُبَدَّلُ القَولُ لدي وما أنا بظلام للعبيد يَوْمَ تَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَل امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَزيد﴾ [ق:٢٨/٥٠ -٣٠] ، هذا ترهيب، بعده مباشرةً ترغيب:
﴿وَأُزلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غير بَعِيدٍ هذا ما توعدون لكُلِّ أواب حفيظ مَن خَشِيَ الرَّحمن بالغيب وَجَاءَ بِقَلْبِ مُنيب ادخُلُوها بسلامٍ ذلك يوم الخلودِ، لَهُم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد} [ق:٢١/٥٠ -٣٥].
الأسلوب البلاغيُّ لم يتغيَّر، والزجر والوعظ أيضاً، بمستوىً رفيعٍ لا مثيل له. وللقرآن موسيقاه الخاصَّة به، ونغمته المتميِّزة، ووقعه الخاص، مع أسلوبٍ غريبٍ في المطالع والمقاطع والفواصل، والعرب -أصحاب اللغة- أدرى به، ويتراءى لقارئه من خلال آياته ذاتٌ إلهيةٌ عادلة، حكيـمةٌ، جبَّارة، خالقة، بارئة، مصوّرة، لا تضعف في مواطن الرحمة.
والقرآن ليس بنثر، كما أنَّه ليس بشعر، إنَّه قرآن. ليس نثراً لأنَّ له قيوده الخاصة، ولا توجد بغيره، وليس شعراً لأنَّه غير مقيَّدٍ بقيود الشعر وتفعيلاته، لذلك سلّمت العرب ببلاغته وفصاحته، ويذكر هنا أنَّه بعد انتهاء حروب الرّدة، قدم وفدٌ من بني حنيفة إلى المدينة المنورة، فقال أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه لأفراد الوفد: أسمعـونـا شيئاً من قرآن مسيلمة، فقالوا: أوَ تُعفينا يا خليفة رسول الله؟ فقال: لا بدَّ من ذلك، فقالوا: كان يقول: يا ضفدع بنت ضفدعين، لحسن ما تنقنقين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، امكثي في الأرض حتى يأتيك الخفاش بالخبر اليقين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصفها، ولكنَّ قريشاً قوم يعتدون. [الاكتفاء ٢ /١٦، الكامل في التاريخ ٢٤٤/٢، البداية والنهاية ٣٢٦/٦، الطبري ٢٨٤/٣] .
وكان يقول: والمبذِّرات زَرْعاً، والحاصدات حَصْداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والخـابزات خُبزاً، والثَّاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، إهالة وسمنا…
فاسترجع أبو بكر رضي الله عنه، أي قال: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ثمَّ قال: ويحكم، أيُّ كلامٍ هذا.
لقد استرجع أبو بكر رضي الله عنه، إذن هنالك وفاة، من مات؟ لقد مات ذوقهم الأدبي، وماتت فصاحتهم، لذلك قال: « ويحكم أيُّ كلامٍ هذا؟!».
وبعد هذا كلِّه، أقدِّم لسيادتك لمحاتٍ من الإعجاز اللُّغوي:
- من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى أنَّه (غفورٌ رحيم)، وقد وردت هـاتـان الصفتان في القرآن الكريم كثيراً على هذا الترتيب، بتقديم كلمة (غفور) على كلمة (رحيم)، مثل:{فَمَنِ اضْطَرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثمَ عليه إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ﴾ [البقرة:۱۷۳/۲].
﴿فإنِ انتَهَوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحيم﴾: [البقرة: ١٩٢/٢ ]. ﴿نَبِّئ عِبادِي أَنِّي أنا الغَفُورُ الرَّحيم﴾: [الحجر: ١٥/٤٩]
﴿إلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولئكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رحيماً﴾ [الفرقان:٧٠/٢٥].
﴿وإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحصُوهَا إِنَّ اللهَ لغَفُورٌ رحيم﴾ [النحل: ١٨/١٦].
إلَّا في سورة سبأ: ﴿يَعْلَمُ ما يَلجُ في الأَرض وما يخرج منها وما ينزل من السَّماءِ وما يعرج فيها وهو الرَّحيمُ الغَفُور﴾، فتقدَّمت (الرَّحيم) على كلمة (الغفور) خلافاً للمألوف في جميع السُّور الأخرى، فما السرُّ والحكمة في ذلك؟
بدأت الآية بـ(يعلم)، وانتهت بقوله تعالى: ﴿وَهُو الرَّحيمُ الغَفُور}، فتقدَّمت كلمة (الرّحيم) على كلمة (الغفور) لتقترن الرحمة بالعلم، انسجاماً مع ربط الرحمة بالعلم، وإلَّا انقلب (العلم) إلى وحشيةٍ وظلمٍ وفسادٍ وضياع: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ رحمةً وعلماً﴾ [غافر: ٧/٤٠]، ﴿ولقد جئناكم بكتابٍ فصَّلناهُ على علمٍ هدىً ورحمةً لقومٍ يؤمنون﴾ [الأعراف٥٢]، وهكذا ربطت الآيات بين العلم والرحمة، وإن لم يكن العلم رحمـةً قـاد العلم العالم للتدمير لا للتعمير، العلم بلا رحمـةٍ قـنـابـل، دمار، خراب، قتل جماعي، لقد اقترن العلم
في الإسلام بالرحمة. - كلمتا (الأموال) و(الأنفس) إذا اجتمعتا في آيةٍ واحدة، تقدَّمت الأموال على كلمة الأنفس:
{لَتُبْلَوُنَّ في أموالِكُم وَأَنْفُسَكُم﴾ [آل عمران:١٨٦/٣].{وتجاهِدونَ في سبيل الله بأموالِكُم وَأَنفُسِكُم﴾ [الصف11]
{فَضَّل الله المجاهدينَ بِأمْوالِهِم وَأَنفُسِهِم عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ [النساء:٩٥/٤]، فالإنسان يقدِّم ماله، ويبذله رخيصاً ليحمي نفسه، فتقدَّم ذكر المال. أمَّا في سورة التوبة، فقد ورد: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنينَ أَنفُسَهُم وأموالَهُم بأنَّ لهمُ الجَنَّة﴾ خلافاً للمألوف المعتاد في كتاب الله تعالى، فما السرُّ؟
إنَّ ثمرة الجهاد في الآخرة هي الجنَّة، والنفوس هي التي ستدخل الجنة وتتمتَّع بها لا الأموال، لذا وردت كلمة الجنَّة هنا كعرضٍ يقدَّم للمجاهدين بعد أن قدَّموا الأنفس والأموال في سبيل الله: {بأنَّ لهم الجنَّة}، فناسب أن تتقدَّم كلمة (الأنفس) على كلمة (الأموال)، لأنَّ الأنفس أغلى من الأموال، وهي التي ستنعم بالجنَّة الموعود بها في هذه الصفقة الرابحة بين الله وعباده، التي وردت بلفظ: {اشترى}، والإنسان في البيع والشراء يحرص على الأفضل، والأغلى، والأكثر ربحاً، فإذا جاد الإنسان بنفسه، ولم يضنَّ بها في سبيل الله، استحق أن يفوز بسلعة الله الغالية وهي الجنَّة. - (الفاء) تفيد الترتيب مع التَّعقيب: ﴿وَجاءَ إخوةُ يوسفَ فَدَخَلُوا عليهِ فعرفهم وهم له منكرون﴾ [يوسف: ۵۸/۱۲]، (فالفاء) هنا تشعرنا أنَّه لا حارس، ولا حاجب على باب يوسف، فقد دخلوا عليه فور وصولهم، وعرفهم فور دخولهم، كلُّ ذلك من مجرَّد إيراد حرف (الفاء).
(ثم) تفيد الترتيب مع التراخي، أي مع امتداد الزمن: ﴿يا أَيُّها الناسُ إن كنتم في ريبٍ من البعثِ فإنَّا خلقناكم من ترابٍ ثمَّ منْ نطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مُخَلَّقة وغيرِ مُخلَّقةٍ﴾ [الحج: ٥/۲۲]، فبين مرحلة النطفة والعلقة أربعون يوماً، وبين مرحلة العلقة والمضغة أربعون يوماً (ثمَّ) دلَّت على هذا (الترتيب) مـع هـذا (التراخي) في الزمن. - {ولا تخاطبني في الذينَ ظَلَمُوا إنَّهم مُغْرَقون﴾ [هود: ۳۷/۱۱]، [والمؤمنون: ۲۷/۲۳]. قال الكوفيون: إنَّ حرف الجر (في) تضمَّن معنى (الباء)، والمراد لا تخاطبني بحديث الذين ظلموا لأنَّني قضيت فيهم بحكمي عليهم أن أُهلكهم فأغرقهم جزاءً لكفرهم وعنادهم. وقال البصريون: إنَّ فعل تخاطبني قد تضمَّن معنى تراجعني، وفعل راجع يتطلَّب حرف الجر (في)، والمراد: ولا تراجعني في الذين ظلموا، فتطلب مني العفو عنهم، ولو كان ولدك منهم، فقد حقَّ القول عليهم أن يغرقوا لإصرارهم على الكفر والطغيان.
- {إنَّ الأبرار يشرَبُونَ من كأسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كافُوراً عَيْنا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرونها تفجيراً} [الإنسان6]. وفي المطفِّفين: ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقرَّبون}.
{عَيْناً يَشْربُ بهَا}، فعل يشرب يتضمَّن هنا يرتوي ويلتذُّ، وهذه الأفعال تتطلَّب حرف الجرِّ (الباء)، فأخذت ما يناسبها، والمراد يشربون مرتويين ومتلذذين بها، فليس المقصود مجرَّد الشرب، بل المقصود التلذُّذ والارتواء دون أذىً أو إرهاق. - ﴿يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور﴾ [الشورى٤٩].
كلمة إناث قبل كلمة الذكور جبراً لخاطر الإناث، وليحبِّب الوالدين بهنَّ، وقدَّم الإناث على الذكور لأنَّ العرب كانوا يستاؤون من الإناث، وجاء الإسلام لينقذ الأنثى من هذا الموقف غير السليم، فقدَّم الإناث على الذكور، فلا تشاؤم بهنَّ، إنَّهنَّ هبة الله. لقد قدَّم الإناث في مجتمعٍ كان يكره الإناث. - ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلَ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجِنَّةِ الَّتي كُنتُم تُوعَدُون﴾ [فصلت: ٣٠/٤١]
(تَتَنَزَّلُ) لا تنزَّل، إنَّ تشديد الزَّاي يدلُّ على أنَّ الملائكة تنزل على المؤمنين مرّةً بعد مرَّة.
وفي سورة الحجِّ: ﴿وليـوفـوا نـذورهم وليطَّوَّفوا بالبيت العتيق﴾، وليَطوَّفوا، لا يَطُوفُوا، فالتشديد في (وليطوَّفوا) يُفيد أنَّ المراد أكثر من شوط. وفي سورة المائدة٧٥: ﴿وإن كُنتُم جُنُباً فَاطَّهَّرُوا﴾، والتشديد في ﴿فاطَّهروا﴾ دليل المبالغة في التطهُّر. - وفي سورة التوبة: ٤٧، بحقِّ المنافقين: ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلَّا خبـالاً﴾.
لو خرجوا فيكم، لا خرجوا معكم، لأنَّ (معكم) هنا تفيد التكريم بهذه المعية، بينما المراد هنا أنَّهم مندسُّون منافقون، فجاء النَّص (ولو خرجوا فيكم): فأعطت (فيكم) المعنى المراد والمناسب للمنافقين. - ﴿وَإن طائفتانِ مِنَ المؤمنين اقتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بينهما﴾ [الحجرات:٩/٤٩]، طائفتان: مثنى، اقتتلوا: جمع بينهما مثنى، فلم يُرد (اقتتلتا) لتبقى الآية كلَّها مثنى، لماذا؟ عند التحام الطائفتين تصبحان (جمعاً) من الأفراد المتقاتلين، فجاءت(اقتتلوا)، فإذا مالوا إلى الصلح وكفُّوا أيديهم، عادوا طائفتين (مثنى).
- ﴿ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أشياءهم﴾ [الأعراف85 وهود85، الشعراء183]. (أشياءهم)، لا حقوقهم، لأنَّ حقوقهم تشمل النـاحيـة المــاديــة، بينما (أشياءهم) تشمل الناحيتين المادية والمعنوية معاً.
- تقول قاعدة في اللغة العربية: كلُّ صفةٍ اختصَّت بها للمرأة تذكَّر ولا تؤنَّث، لذلك تقول: هذه امرأة حامل، مُرضع، حائض، ثَيِّب، بينما في سورة الحج: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرضعت}، لا كلُّ مرضع، لم يُرد هنا الصفة، إنَّما أراد (الفعل)، أي المرأة التي ثديها في فم طفلها، التي تحنو عليه في حجرها، هذه تذهل عن طفلها عند زلزلة الساعة.
- ﴿ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جَعَلَ الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً﴾ [النساء:٥/٤]، (فيها)، لا (منها)، لأنّ منها تعني أكلها ونقصها، وبالتالي نهايتها، أمَّا (فيها) فتعني من تثميرها، ومن ريعها وأرباحها.
الإعجاز اللغوي فيه الكثير الكثير، نكتفي بما سبق، لننتقل إلى إعجازٍ من نوعٍ آخر، ولكنَّنا نذكِّر بآيتين كريمتين: ﴿أَمْ يَقُولون افتراهُ قُل فأتُوا بِسُورَةٍ مثلِهِ﴾ [يونس:٣٨/١٠]، وفي الطور: ﴿أم يقولونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُون فليأتوا بحديثٍ مثلِهِ إنْ كانُوا صَادِقين﴾.
لقد سكت العرب عن المعارضة ، وقد صكَّ التحدي أسماعهم بإلحاحٍ وشدَّة.
إنَّ القوم قد أدركوا مفارقة نظم القرآن الكريم لما ألفوه من وجوه نظمهم في بلاغاتهم، وأحسُّوا بعجزهم التام عن الإتيان بمثله، أو بسورةٍ واحدةٍ من مثله، فسكتوا إيثاراً للسلامة: ﴿فَإن لم تفعلوا وَلَن تَفْعَلُوا فاتَّقوا النَّارَ التي وقـودهـا النَّاسُ والحجارة﴾ [البقرة:٢٤/٢].
No comment yet, add your voice below!