الإعجاز الغيبي
الإعجاز الغيبي
من أوائل السور المنزلة في مكَّة المكرَّمة: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد1-3] سمع أبو لهبٍ (عبد العزَّى بن عبد المطَّلب) السورة، وعاش بعد سماعه إيَّاها عشر سنوات، ولو قال: لا إله إلا الله محمَّدٌ رسول الله نفاقاً ورياءً بلسانه دون قلبه لشكَّك بالوحي وأبطله، فالوحي لا يخطئ ولو مرَّةً واحدة، إنَّه معصومٌ من الخطأ، وبشكلٍ مُطلق، فلو وقف أبو لهب في الحرم، وقال: يا قريش، مسلمها ووثنيِّها، ويقول محمَّدٌ هذا القرآن الذي يتلوه علينا وحيٌّ من عند ربِّه، وهو يقول أيضاً: من قال لا إله إلا محمَّدٌ رسول الله دخل الجنَّة، اشهدوا عليَّ قولي: لا إله إلا الله محمَّد رسول الله، فأيّ موقفٍ يسجِّله هنا أبو لهب!
لو كان القرآن من عند محمَّد بن عبد الله، لما قال أمراً غيبياً لا يدري ما سيكون شأنه في قادمات الأيام، إنَّه من عند الله قطعاً، وهو علَّام الغيوب، لقد علم أنَّ أبا لهبٍ لن يقول الشهادة ولو رياءً ونفاقاً وكذباً، ولن يُحرج الدعوة ورسول الله أبداً.
منذ الأيام الأولى للإسلام والمسلمين، كانوا متعاطفين مع أهل الكتاب، مثلما كان المشركون متعاطفين مع عبَدَة النار، لذلك فرح المشركون القرشيّون بانتصار الفُرس وهزيمة الروم، وساء ذلك المسلمين، وحينما أَظهر المشركون شماتتهم، نزلت بدايات سورة الروم، لاحظ يا سيد روديغر هذا التكريم لكم، سورة باسم الروم الذين كانوا يمثِّلون أوروبا كلَّها آنذاك، جاء في مطلعها:
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم 2-5].
في هذه الآيات دلالةٌ عظيمةٌ لفتح القلوب، دراسة هذه العقيدة التي واكبت الأحداث، فلا انزواء ولا قوقعة، والتي بشَّرت بنصرٍ قريبٍ للرُّوم في بضع سنين، والبضع من ثلاث إلى تسع، وسيكون النصر ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ [الروم-3].
(أدنى) لغة: أقرب، وأخفض كما في (اللسان)، وتحقّق المعنيان، أقرب إلى الحجاز وأخفض، في أرض فلسطين، أقرب ما يكون لمهد الدعوة الإسلامية (الحجاز)، وأخفض بقعةٍ على سطح الأرض (البحر الميت-394م).
- في [آل عمران12]: ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾، وقد غُلبوا.
- وفي [الأنفال7]: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ…﴾، وعدٌ عجيبٌ بالنصر في بدر الكبرى، والمسلمون قلَّةٌ من حيث العدد، وما خرجوا لقتال، ومع ذلك ذُكر النصر قبل المعركة، وكان كما أَخبر رسول الله، وقد نسب الوعد على الله تعالى.
- ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [سورة البقرة 12-13]، ولن تفيد الاستمرارية في المستقبل ﴿وَلَن تَفْعَلُوا﴾، فما فعلوا في الأمس، ولن يفعلوا اليوم وغداً.
- وفي سورة [القمر-45]، وهي من السور المكية: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾، على الرغم من الاضطهاد والتعذيب والتهجير في الفترة المكّية، جاءت هذه البشرى، وقد كانت محقَّقةً في بدر الكبرى.
- ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر-9]، وهو محفوظٌ من التحريف والزيادة والنقصان…
- ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ*وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ [ص87-88]، وسورة (ص) مكّيّة، وما هي إلَّا سنواتٌ حتَّى صار للإسلام نبؤه العظيم في العالم، وهو اليوم شاغل العالم من اليابان حتَّى الولايات المتحدة.
- ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [التوبة-28]، وقد أغناهم.
- وأخيراً في [النساء-157] في معرض الحديث عن السيِّد المسيح عليه السلام: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾.
وفي نهاية الآية ذاتها: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾، والأناجيل القبطية المكتشفة في (نجع حمادي) تذكر بوضوحٍ أنَّ المسيح لم يصلب، وإنَّما صلب شبيهٌ له، وهذه الأناجيل غيَّرت تاريخ السنوات الأولى للمسيحية، لأنَّ بعضها كإنجيل توماس مثلاً يرجع إلى منتصف القرن الميلادي الأول، أي أنَّه يسبق أوَّل الأناجيل المعروفة بعشر سنواتٍ على الأقل.جاء في أحد هذه الأناجيل المكتشفة، وهو إنجيل بطرس كما قدَّمته منظَّمة اليونسكو 1970م، وكما قدَّمته لجنة تكوَّنت في الولايات المتحدة لترجمة النصوص تحت رعاية (جيمس روبنسون) عالم الدراسات اللاهوتية الأمريكي، وتمَّ الانتهاء من الترجمة الإنكليزية 1975م، ثمَّ ترجمت بعد ذلك إلى الفرنسية والألمانية، جاء في أحد هذه الأناجيل حرفياً (وهو إنجيل بطرس):
(يقول المخلِّص: إنَّ الذي رأيته سعيداً ويضحك هو يسوع الحيّ، لكنَّ من يدخلون المسامير في يديه وقدميه فهو البديل، فقد وضعوا العار على الشبيه، انظر إليه، وانظر لي)، كما جاء في كتابٍ آخر يسمَّى (كتاب: سيت الأكبر):
( كان شخصٌ آخر هو الذي شرب المرارة والخلّ، لم أكن أنا، كان آخر، سيمون هو الذي حمل الصليب على كتفه، كان آخر هو الذي وضعوا تاج الشوك على رأسه، وكنت أنا في العلاء أضحك لجهلهم)
[المجلَّة العدد 713، الجمعة 3 تشرين الأول (أكتوبر) 1993م ، ص 56 وما بعدها].
No comment yet, add your voice below!